Adab al-Hewar min Khilal Seerah Musab ibn Umair
آداب الحوار من خلال سيرة مصعب بن عمير رضي الله عنه
Mai Buga Littafi
دار الأوراق الثقافية
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٥ هـ
Nau'ikan
آداب الحوار
من خلال سيرة مصعب بن عمير ﵁
إعداد
عدنان بن سليمان بن مسعد الجابري
راجعه ودققه
فضيلة الدكتور/ عبدالحق بن حمادي الهواس
أستاذ اللغة العربية المشارك بالمعهد العالي للأئمة والخطباء بجامعة طيبة
1 / 1
تمهيد:
إن حياة الصحابي الجليل مصعب بن عمير ﵁ مليئةً بالفوائد والدرر، إلا أن هناك أسلوبًا تربويًا قد يكون بارزًا في حياته ﵁، ألا وهو: أسلوب الحوار، ولعل القارئ لسيرته ﵁ يلحظ ذلك؛ لذا رأى المؤلف إيراد آداب الحوار المتمثلة في مصعب بن عمير ﵁ مختصرةً من البحث الذي أشرت إليه في مقدمة كتاب سيرة الصحابي الجليل مصعب بن عمير ﵁.
فالحوار من أهم أساليب التربية الإسلامية وأفضلها؛ ذلك لأنه يترك المجال للأطراف المتحاورة لإبداء وجهات النظر وتبادل الآراء وتلاقح الأفكار، مما ينتج عنه تصحيح المفاهيم وحل المشكلات وتجاوز العقبات، ومن ثم تسود المحبة والألفة بين أفراد المجتمع، ومما يدل على أهميته كثرة استعماله في القرآن الكريم والسنة النبوية، فهو فرصة كبيرة لدعوة الناس إلى الإسلام، بل ويقضي على المشاكل والخلافات العالمية والأسرية، أو يخفف منها.
وقبل الشروع في آداب الحوار عند مصعب بن عمير ﵁ نتطرق إلى مفهوم الآداب والحوار في اللغة والاصطلاح.
فأما الآداب لغةً:
" الأَدَبُ: مَلَكَةٌ تَعْصِمُ مَنْ قَامَت بِهِ عمَّا يَشِينُه، وهُوَ: استعمالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وفِعْلا" (١). وقيل " الأدب: عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ " (٢).
_________
(١) محمد الحسيني: تاج العروس من جواهر القاموس، ٢/ ٧.
(٢) الجرجاني: كتاب التعريفات، ص١٥.
1 / 5
والمقصود بالآداب: هي السمات التي يلتزم بها المحاور الناجح في أثناء عملية الحوار بأنواعها الثلاثة (العلمية، النفسية، اللفظية) قولًا وعملًا.
والحوار في اللغة:
"الحَوْرُ: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ وإِلى الشَّيْءِ " (١)،وحاورت فلانا محاورة إِذا كلمك فأجبته (٢). "وتَحاوَرُوا: تَراجَعُوا الكلامَ بينهمْ" (٣).
وفي الاصطلاح:
هو: الطريقة التي يستعملها المحاور مع الطرف الآخر في موضوع محدد بهدف الوصول إلى الحق من خلال إقناعه وتصحيح خطئه ما أمكن.
_________
(١) ابن منظور: لسان العرب، ٤/ ٢١٧.
(٢) محمد بن الحسن الأزدي: جمهرة اللغة، ١/ ٥٢٥.
(٣) الفيروز آبادي: القاموس المحيط، ص٣٨١.
1 / 6
الفصل الأول: آداب الحوار النفسية عند مصعب بن عمير ﵁ -:
تعتني الآداب النفسية للحوار بكل ما يعطي النفس ارتياحًا وهدوءًا، كتهيئة المكان، واختيار الزمان المناسب، وترفض كل ما يزعج النفس ويؤذيها، كالغضب والتوتر والقلق.
ومن أهم تلك الآداب النفسية في الحوار والتي تمثلت في مصعب بن عمير ﵁ ما يأتي (١):
أولًا: الإخلاص وصدق النيّة.
ثانيًا: تهيئة الجو المناسب.
ثالثًا: الإنصاف والعدل.
رابعًا: الحلم والصبر.
خامسًا: العزة والثبات على الحق.
سادسًا: حسن الاستماع.
سابعًا: الجرأة والغضب لنصرة الحق.
فهذه الآداب جعلت من مصعب بن عمير ﵁ محاورًا ناجحًا، استطاع من خلالها ضبط مسيرة الحوار وتحقيق الهدف منه، وهذا بيان لها كما يأتي:
_________
(١) يحيى بن محمد زمزمي: الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، ص ١١٦.
1 / 7
أولًا: الإخلاص وصدق النيّة:
ترك مصعب بن عمير ﵁ دين آبائه، وما كان فيه من نعمة ودلال، وتحمّل الأذى والتعذيب؛ كل ذلك من أجل دين الله ﷿. وقد رأى فيه الرسول ﷺ حبه الصادق لله ورسوله ﷺ، لذا قال عنه ﷺ: «لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله، ثم خرج من ذلك ابتغاءَ مرضاة الله ونصرة رسوله ...» (١).
وكذلك لم يشغل بال مصعب بن عمير ﵁ عندما أرسله النبي ﷺ إلى أهل المدينة إلا نشر الإسلام بينهم وتعليمهم، فلم ينظر إلى شيء من زينة الدنيا، ولم يطلب من أحد شيئا، رغم ما كان فيه من فقر وضعف، وهذا كله يدل على إخلاصه وصدق نيته ونزاهة نفسه.
ثانيًا: تهيئة الجو المناسب:
إن الحوار الناجح يتطلب تهيئته قبل البدء فيه بعدة أمور، تجعل منه حوارًا هادفًا بنّاءً، يؤتي ثماره المرجوة منه، كاختيار المكان والزمان المناسبين، والتعارف بين المتحاورين، والجلوس للحوار.
لذا دخل مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة ﵄ حائطًا من حوائط بني ظفر (٢)، عند بئر مرق (٣)، ومن هنا سيكون الحوار مهيئًا، لما يحويه
_________
(١) الحاكم: المستدرك على الصحيحين، كتاب الإيمان، باب ذكر مصعب بن عمير العبدري ﵁،٣/ ٧٢٨، رقم ٦٦٤٠.
(٢) ابن هشام: مصدر سابق، ١/ ٤٣٥. وحوائط بني ظفر في الحرة الشرقية المعروفة بحرّة واقم (أي شرق المدينة). السمهودي: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، ٣/ ٦٢.
(٣) ابن هشام: السيرة النبوية، ١/ ٤٣٦. وبئر مرق قريبة من دار بني ظفر. السمهودي: وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، ٤/ ٢٣.
1 / 8
المكان من خضرة جميلة، ومياه وفيرة، تجلب الهدوء والروائح الزكية.
وعندما أخبر أسعد بن زرارة مصعب بن عمير ﵄ بقدوم أسيد بن الحضير ﵁ قال له مصعب ﵁: "إن يجلس أكلمه " (١)، فحرص مصعب بن عمير ﵁ على هذا الأدب النفسي؛ لذلك كرره مرةً ثانية عندما وصل أسيد بن الحضير ﵁ وقد كان في حالة غضب ومتشتّما، فقال له: أو تجلس فتسمع (٢)، فأراد من ذلك ﵁ التغيير من حال الغضبان من الوقوف إلى الجلوس، كما أن الوقوف يوحي إلى عدم الرضا بالحوار، ويعطي صاحبه شيئًا من الأنفة والتعالي، فيقوده ذلك إلى رفع الصوت واستعمال بعض الأقوال والأفعال التي تخل بالحوار وتعطل سيره، وأما الجلوس فيعطي النفس شيئًا من الارتياح والاستقرار النفسي.
ثالثًا: الإنصاف والعدل:
إن العدل والإنصاف يعطيان الحوار ثقة ومتانة بين المتحاورين، فمصعب بن عمير ﵁ ضمّن ذلك في حواره مع سعد بن معاذ ﵁ عندما أقبل عليه، حيث قال له: " أوَ تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت " (٣)، رغم أن مصعبًا ﵁ كان على الحق بمجيئه بالدين الإسلامي، ولكن أراد أن يبين مدى تمسكه بالعدل ليرضى سعد بن معاذ ﵁، مع حرصه الشديد على إقناعه بما جاء به.
_________
(١) ابن هشام: السيرة النبوية، ١/ ٤٣٥.
(٢) المصدر السابق، ١/ ٤٣٥.
(٣) المصدر السابق، ١/ ٤٣٥.
1 / 9
رابعًا: الحلم والصبر:
كان مصعب بن عمير ﵁ حليمًا صبورًا، فعندما أقبل عليه أسيد بن حضير ﵁ وقف عليه متشتمًا وزاجرًا له، وهدده وأمره باعتزال المكان، وما كان من مصعب ﵁ إلا أن تلطف معه وأشار إليه بالجلوس ليسمع منه (١)، فما زجره وما انتقم لنفسه ولم يقابله بالمثل، بل أحسن إليه بالكلام الليّن، والمعاملة الحسنة؛ لأنه يعرف أن المقابلة بالمثل سيكون معولًا هدامًا لسير عملية الحوار، فيتوقف بذلك الحوار، ويعجز عن تحقيق الهدف المنشود.
خامسًا: العزة والثبات على الحق:
لا بد للمؤمن أن يعتز بدين الله ويثبت على الحق في جميع المواطن، ولا يرخص نفسه ولا يذلها، يقول تعالى: ﴿... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (٢).
فمصعب بن عمير ﵁ أعز نفسه بهذا الدين، وثبت على الحق، فعندما علمت أمه بمقدمه أرسلت إليه وقالت: " يا عاق، أتقدم بلدا أنا فيه لا تبدأ بي؟ فقال: ما كنت لأبدأَ بأحدٍ قبل رسول الله ﷺ. ثم ذهب إلى أمه، فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصَّبْأَةِ بعدُ! قال: أنا على دين رسول الله ﷺ وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله ... وجعلت تبكي، فقال مصعب ﵁: يا أماه إني لكِ ناصحٌ عليك شفيقٌ، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله " (٣).
فلم يتوانَ مصعب بن عمير ﵁ ولم يتردد بالبدء برسول الله ﷺ، لأنه يعلم
_________
(١) المصدر السابق، ١/ ٤٣٥.
(٢) سورة المنافقون: آية (٨).
(٣) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
1 / 10
أن حق رسول الله ﷺ أعظم من حق أمه فثبت على ذلك، ثم اعتز وافتخر بانتسابه إلى هذا الدين، وأخيرًا لم تؤثر فيه عاطفته تجاه أمه عندما بكت، ولم يفكر في التراجع، بل ازداد إصرارا على الثبات والعزة، وأراد من أمه أن تُعِز نفسها وتعلو بذاتها بدخولها الإسلام ولكنها أبت، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
سادسًا: حسن الاستماع:
إن الفن الحقيقي في الحديث يكمن في حسن الاستماع، فسيجد المحاور قبولًا واحترامًا، وإنصاتًا من مُحاوره إن أوجد ذلك من قبل.
ولقد كان مصعب بن عمير ﵁ بارعًا في حسن الاستماع فقد أنصت لكلام أسيد بن حضير ﵁ وهو واقفٌ عليه ومتشتمًا، بل ويبدو أنه رافعٌ لصوته، فما قابل ذلك مصعبٌ ﵁ إلا بحسن استماع وإنصات، وعندما انتهى أسيدٌ ﵁ من كلامه، قال له مصعب ﵁: "أو تجلس فتسمع " (١)، فكأن لسان حاله يقول: فكما أني سمعت كلامك بإنصات فاسمع مني بإنصات كذلك. ومن خبر أمه ﵁ كان في حسن استماع لها، مع أنها كانت تظهر له الكيد والعداوة، بل وأرادت التحريض عليه من قبل قومها لتعذيبه (٢)، ومع هذا ما زال في حواره معها بحسن إنصات واستماع؛ لعلها تقتنع بكلامه فتدخل الإسلام.
سابعًا: الجرأة والغضب لنصرة الحق:
كما أن المحاور لا بد له من الحلم والصبر وعدم الغضب لنفسه، فهو كذلك
_________
(١) ابن هشام: السيرة النبوية، ١/ ٤٣٥.
(٢) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
1 / 11
لا بد أن تكون عنده جرأة في الحق والغضب له؛ لذا لم يكن من حال مصعب بن عمير ﵁ إلا أن يتجرأ ويغضب لدين الله، فعندما جاء إلى مكة قالت له أمه: " ما شكَرْتَ ما رَثَيْتُكَ (١)، مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب، فقال: أفرُّ بديني إن تفتنوني. فأرادت حبسه، فقال: لئن أنتِ حبستَنِي لأحرصن على قتل من يتعرض لي " (٢)، فقد غضب ﵁ لدين الله حين أرادت أمه حبسه بتحريض قومها عليه، وتجرأ إلى حد القتل لمن أراد أن يتعرض له ويريد صده عن دين الله.
_________
(١) من رَثَى لَهُ إذا رَقّ وتَوَجَّعَ. ابن منظور: لسان العرب، ١٤/ ٣٠٩.
(٢) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
1 / 12
الفصل الثاني: آداب الحوار العلمية عند مصعب بن عمير ﵁ -:
إن الآداب العلمية ينبغي أن يتأدب بها كل مسلم في جميع جوانب الحياة، فهي مهمة للعالِم وطالب العلم وللمفكر والكاتب وكذلك المحاور، ومن تلك الآداب العلمية التي اتسمت في كيان مصعب بن عمير ﵁ في حواراته ما يأتي (١):
أولًا: العلم
ثانيًا: التدرج والبدء بالأهم.
ثالثًا: الاستناد إلى الدليل.
رابعًا: الوضوح والبيان.
خامسًا: الرد على الشبه بما يناسبها.
وإليك بيانًا لهذه الآداب العلمية كما يأتي:
أولًا: العلم:
يشتمل العلم على ثلاثة ركائز مهمة، وهي: العلم الشرعي، والعلم بقضية الحوار، والعلم بالشخص المقابل ومكانته العلمية.
لذا يجد القارئ أن مصعب بن عمير ﵁ كان يحمل معه علمًا شرعيًا قد نهله من النبي ﷺ، عندما كان يتردد عليه سرًا في دار الأرقم بن
_________
(١) يحيى بن محمد زمزمي: الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، ص٢٧٦.
1 / 13
أبي الأرقم ﵁ (١)، فعندما أقبل أسيد بن حضير على مصعب بن عمير ﵄، أخذ مصعب ﵁ يعلمه الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، وكان من نتائج ذلك أن أسلم كل من أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ ﵄، وبإسلامهما أسلم خلقٌ كثير (٢).
وكذلك عَلِم مصعب بن عمير ﵁ بظروف الطرف الآخر وأحواله، وذلك عندما قال له أسعد بن زرارة ﵁: " جاءك والله سيّد مَن وراءه مِن قومه إن يتبعك لا يتخلّف عنك منهم اثنان " (٣).
ثانيًا: التدرج والبدء بالأهم:
حرص مصعب بن عمير ﵁ في حواره مع الانصار ﵃ على أن يبدأ بالأهم، ويتدرج معهم في الدعوة إلى الله، فعندما كان مصعب بن عمير، وأسعد بن زرارة ﵄ جالسين جاءهما سعد بن معاذ ﵁ فاستقبله مصعب بن عمير ﵁ ثم "عرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهّله، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطّهّر وتطهّر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلّي ركعتين " (٤)، ولعل مصعب بن عمير ﵁ حين عرْضِه للإسلام بيّن محاسنه ورحمته وعدله، وكذلك حرص على قراءة القرآن فهو أهم ما يُبدأُ به عند الدعوة إلى الله ﷿، ثم عندما أراد سعد بن معاذ ﵁ الدخول
_________
(١) ابن سعد: الطبقات الكبرى،٣/ ١١٧.
(٢) ابن هشام: السيرة النبوية، ١/ ٤٣٥.
(٣) المصدر السابق، ١/ ٤٣٥.
(٤) المصدر السابق، ١/ ٤٣٥.
1 / 14
في الإسلام لم يأمره بالصيام أو الزكاة، بل بدأ بما هو أهم، من خلال التدرج بالاغتسال، فالتطهر، فالشهادة، ثم الصلاة.
وأيضًا في حواره مع أمه، حينما دعاها إلى الإسلام بدأ بدعوتها إلى النطق بالشهادتين فقال لها:"اشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله " (١)، فلم يبدأ بفروع الدين، بل حرص على الأصل والأهم.
ثالثًا: الاستناد إلى الدليل:
إن المحاور الناجح مَن ثَبَّتَ كلامه وعلمه وآراءه بالدليل والبرهان، فقد ساق مصعب بن عمير ﵁ في حواره حين عرض الإسلام ودعا إليه دليلًا يدعم العلم والدين الذي أُرسل من أجله، ومن العجيب أنه ﵁ لم يقرأ أي آية، بل اختار ما يناسب الحال، وهذا من ذكائه ﵁، فعندما جاءه سعد بن معاذ ﵁ قرأ عليه قول الله تعالى: ﴿حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)﴾ (٢)، يقول السعدي ﵀ في تفسير هذه الآيات: " هذا قسم بالقرآن على القرآن، فأقسم بالكتاب المبين وأطلق، ولم يذكر المتعلق، ليدل على أنه مبين لكل ما يحتاج إليه العباد من أمور الدنيا والدين والآخرة. ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ هذا المقسم عليه، أنه جعل بأفصح اللغات وأوضحها وأبينها، وهذا من بيانه. وذكر الحكمة في ذلك، فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ ألفاظه ومعانيه لتيسرها وقربها من الأذهان " (٣).
_________
(١) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
(٢) سورة الزخرف: آية (١ - ٣). الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، باب ابتداء أمر الأنصار ...، ٦/ ٤١، رقم ٩٨٧٦.
(٣) السعدي: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص٧٦٢.
1 / 15
رابعًا: الوضوح والبيان:
لا شك أن مصعب بن عمير ﵁ كان فصيح اللسان، وهذا من طبيعة العرب في ذلك الزمان، وفي بيانه ﵁ كان دقيقًا في اختيار الدليل، فيتضح لنا من خلال الآية السابقة أن مصعب بن عمير ﵁ قد اختار ذلك الدليل؛ لأنه يعرف مدى فصاحة العرب وبلاغتهم، ومدى اهتمامهم باللغة العربية من خلال الرجز والشعر والنثر، فتفتخر به القبائل وتتباهى به؛ لذلك أتى بهذا الدليل بما يناسب أحوالهم؛ وليعطي ما جاء به قوةً ومتانةً.
وقد كان ﵁ يقتصد في كلامه، ولا يطيل إلا للبيان والتوضيح كما فعل مع سعد بن معاذ ﵁ عندما عرض عليه الإسلام (١)، كما أنه لا يجادل ولا يكثر من الحشو في الكلام، فقد قال لسعد ﵁: " أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره " (٢).
خامسًا: الرد على الشبه بما يناسبها:
لقد كان مصعب بن عمير ﵁ يواجه الشبه بكل قوة، ولم يتوانَ ولم يتردد في الرد عليها، ففي ذلك اليوم الذي رجع فيه إلى مكة ذهب إلى الرسول ﷺ، ثم جاء إلى أمه فقالت له: " إنك لعلى ما أنت عليه من الصَّبْأَةِ بعدُ! قال: أنا على دين رسول الله ﷺ وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله " (٣)، فأرادت أمه من هذه الشبهة أن تُلبِّس على ابنها وتصده عن الدين الإسلامي، فرد مصعبٌ ﵁
_________
(١) ابن هشام: السيرة النبوية، ١/ ٤٣٥.
(٢) المصدر السابق.
(٣) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
1 / 16
مباشرةً وبكل قوة وثبات، فلم يكتفِ ويقول: أنا على دين رسول الله ﷺ فحسب، بل قال: الإسلام، ثم زاد وقال: الذي رضي الله لنفسه ولرسوله، وهذا من أعظم ما يدل على قوته وجرأته في الرد على الشبه وتفنيدها.
1 / 17
الفصل الثالث: آداب الحوار اللفظية عند مصعب بن عمير ﵁ -:
إن الآداب اللفظية ينبغي أن تتوافر في المحاور؛ ليضمن سلامة الحوار وسيره باتزان، ويضفي عليه الهدوء والاطمئنان، فيقوده ذلك إلى تحقيق الأهداف بكل يسر وسهولة.
وقد توافرت آداب لفظية في حوارات مصعب بن عمير ﵁، استطاع من خلالها أن يحقق ما يصبو إليه، وهي كما يأتي (١):
أولًا: الكلمة الطيبة والعبارة المناسبة.
ثانيًا: حسن العتاب.
ثالثًا: التذكير والوعظ.
رابعًا: أدب السؤال.
خامسًا: الإعراض اللفظي.
سادسًا: البعد عن التعميم (٢).
فهذه الآداب اللفظية لها شأنها ومكانتها في الحوار، فنبيّن كل واحدة منها على حدة، ونشاهد مصعب بن عمير ﵁ أنموذجًا تطبيقيًا لها من خلال ما يأتي:
_________
(١) يحيى بن محمد زمزمي: الحوار آدابه وضوابطه في ضوء الكتاب والسنة، ص ٤٢٧.
(٢) سعد عبدالله عاشور: ضوابط الحوار مع الآخر، ص ١٠١.
1 / 18
أولًا: الكلمة الطيبة والعبارة المناسبة:
إذا تتبع القارئ حوارات مصعب بن عمير ﵁، يجد حرصه على الكلمة الطيبة، وانتقاء العبارات المناسبة، رغم الذي يلاقيه من فحش القول. فعندما كان في المدينة ومعه أسعد بن زرارة ﵁، جاءهما أسيد بن حضير ﵁ " فوقف عليهما متشتّما، قال: ما جاء بكما إلينا تسفّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع " (١)، فهذا أسيد بن حضير ﵁، وقف على مصعب بن عمير ﵁ يشتمه ويهدده، فما قابل ذلك مصعبٌ ﵁ إلا بكلمةٍ طيبةٍ وبأسلوبٍ حسنٍ، فطلب منه الجلوس ليسمع منه، وترفع عن الكلام الفاحش؛ لأنه يعلم أنه طريق لقطع الحوار.
ومع أمه لم يسمع منها إلا ألفاظًا سيئةً وأفعالًا مشينة، ولكنه استمر على خلقه الراقي، وطيبة نفسه، فلاطف أمه واختار أفضل العبارات وأحسنها، فكان مما دار بينهما " إنك لعلى ما أنت عليه من الصَّبْأَةِ بعدُ! ... فأرادت حبسه، ... فقال مصعب ﵁: يا أماه إني لكِ ناصحٌ عليك شفيقٌ " (٢)، فهذه الكلمة الطيبة والعبارات الرنانة لها وزنها ووقعها في القلب، ولا بد أن يجني مصعبٌ ﵁ من ورائها ثمرة.
ثانيًا: حسن العتاب:
فكما يحرص المحاور على الكلمة الطيبة فهو كذلك يستعمل العتاب أحيانًا ولا يكثر منه، ويفضل استعمال العتاب في الحوارات الفردية، كأن يكون بين الزوجين أو بين صديقين أو نحوهما، وإلا تحول العتاب إلى توبيخ.
_________
(١) ابن هشام: السيرة النبوية، ١/ ٤٣٥.
(٢) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
1 / 19
فقد استعمل مصعب بن عمير ﵁ العتاب في حواره مع أمه، وإنما كان ذلك بأسلوبٍ لطيف، بعد تهديد أمه له بالسجن والتعذيب، ثم كان ذلك في حوارٍ فردي، إذ قال لها: "لئن أنتِ حبستَنِي لأحرصن على قتل من يتعرض لي، قالت: فاذهب لشأنك" (١)، فهي أرادت حبسه كخطأ تكرر منها سابقًا، ثم عاتبها بتلك الألفاظ، فاستطاع ﵁ تعديل ذلك الخطأ، فقد تركته أمه ولم تتعرض له.
ثالثًا: التذكير والوعظ:
كان مصعبٌ ﵁ يهتم بالوعظ والتذكير، ويغتنم الفرص السانحة، والتي يتوقع فيها أن للوعظ أو التذكير أثرًا في محاوره، فعندما أرادت أمه صده عن الدين، استعملت معه شتى الوسائل، ولم تستطع إلى ذلك سبيلا، " فجعلت تبكي، فقال مصعب ﵁: يا أماه إني لكِ ناصحٌ عليك شفيقٌ، فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قالت: والثوَاقِبِ (٢) لا أدخل في دينك فيُزرى برأيي، ويضعَّفَ عقلي " (٣)، فبكاء أمه كان مسلكًا للوعظ والتذكير، فاغتنم ذلك مصعبٌ ﵁ وذَكَّرها بالحق ووعظها بالدخول في الإسلام، وإن لم يصل إلى ما يريد، ولكنه أقام عليها الحجة، وسَلِم مما كانت تريده من سجنٍ وتعذيب.
رابعًا: أدب السؤال:
يلزم المحاور الناجح التأدب في طرح السؤال، وذلك في اختيار السؤال المناسب في الوقت المناسب، مع مراعاة اختيار الألفاظ الحسنة، ونبرة الصوت
_________
(١) المصدر السابق، ٣/ ٨٨.
(٢) الشهب المضيئة. الرازي: مختار الصحاح، ص٤٩.
(٣) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
1 / 20
الهادئة، وتعبيرات الوجه الطلقة، فالتزم مصعب بن عمير ﵁ الأدب في السؤال مع أسيد بن حضير ﵁، رغم الذي لاقاه من شتم وتهديد، فاختار له من ألطف الأسئلة إذ قال له: " أوَ تجلسُ فتسمعُ؟ " (١)، فكان أدبًا لطيفًا يطلب منه الجلوس ليسمعه ما يريد، فلم يتمالك أسيد ﵁ أمام هذا الأدب الجم إلا أن استجاب له وجلس ليستمع لما يقوله، مما يبين أهمية هذا الأدب وضرورة الالتزام به في أثناء الحوار.
خامسًا: الإعراض اللفظي:
إن الإعراض قد يكون بالجسد أو بالعين أو بالوجه أو باللفظ، ويستعمل المحاور هذا الأدب، حين لا يُجدي الحوار، ولا يُغني العتاب، ويكون ذلك عند كثرة أخطاء الخصم وإصراره، أو ارتكابه خطأً فادحًا قد يتضرر به المحاور.
ومصعب بن عمير ﵁ أعرض عن أخيه أبي عزيز، وذلك مقابل تأييده ووقوفه مع أمه عليه، فعندما وقعت غزوة بدر وانتصر المسلمون، وكان من بين الأسرى " أبو عزيز بن عمير، أسره أبو اليسر، ثم اُقْتُرِعَ عليه فصار لمُحرِزِ بن نضلة، وأبو عزيز أخو مصعب بن عمير لأمه وأبيه. فقال مصعب لمُحْرِزٍ: اُشدُدْ يديك به، فإن له أُمّا بمكة كثيرة المال. فقال له أبو عزيز: هذه وصاتُك بي يا أخي؟ فقال مصعب: إنه أخي دونك! فبَعَثَتْ أُمّهُ فيه بأربعةِ آلافٍ، وذلك بعد أن سألت أغلى ما تُفَادِي به قريش، فقيل لها أربعةُ آلافٍ" (٢)، فكان أبو عزيز يكلم أخاه مصعبًا ﵁ فلا يجيبه، فيعرض عنه مصعب بن عمير ﵁ لفظًا ويجعل كلامه إلى محرزٍ ﵁، وما ذاك إلا من شنيع ما لاقاه مصعبٌ ﵁ منه، ولما يعرف من عداوة أخيه له.
_________
(١) ابن هشام: السيرة النبوية، ١/ ٤٣٥.
(٢) الواقدي: المغازي، ١/ ١٤٤.
1 / 21
سادسًا: البعد عن التعميم:
لقد كان مصعب بن عمير ﵁ في حواره مع أمه، ورغم محاولاته الجادة في إسلامها، إلا أنها أبت، بل أرادت حبسه والتضييق عليه، فقال ﵁: " لئن أنتِ حبستِنِي لأحرصن على قتل من يتعرض لي " (١)، فلم يعمم ﵁ على قومه كلهم، بل حدد في ذلك من يتعرض له، إذ إن من الإنصاف أن تكون العقوبة والجزاء على المخطئ، كما أن للمحسن الإحسان، ومن التعدي والظلم تعميم الخطأ، وإنزاله على أناس لم يكن لهم في ذلك مشاركة ولا تأييد، فلعل أمه اقتنعت بحسن أدب ابنها وإنصافه في حواره؛ لذلك قالت له: " فاذهب لشأنك " (٢)، وفي ذلك يقول المصطفى ﷺ «إن أعظم الناس فرية لرجل هاجى رجلًا فهجا القبيلة بأسرها» (٣)، فهذا من تمام العدل الذي أمر الله به وحث عليه، إذ كيف يخطئ فرد من الأفراد فيؤاخذ بخطئه مجتمع كامل.
_________
(١) ابن سعد: الطبقات الكبرى، ٣/ ٨٨.
(٢) المصدر السابق، ٣/ ٨٨.
(٣) ابن ماجه: سنن ابن ماجه، كتاب الآداب، باب ما كره من الشعِر، ٢/ ١٢٣٧، رقم ٣٧٦١. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، مكتبة المعارف، الرياض، ط١، ١٤١٥هـ، ٢/ ٣٩٠، رقم ٧٦٣.
1 / 22
الفصل الرابع: الآثار التربوية للحوار من خلال سيرة مصعب بن عمير ﵁ -:
في حياة مصعب بن عمير ﵁، ظهرت آثار تربويةٌ كانت نتيجةً لتلك الجهود التي قام بها، وذلك من خلال حواراته المختلفة والتي كانت ناجحة ومثمرة، وما ذاك إلا لالتزامه وإتقانه لآداب الحوار المختلفة، فهي كما يأتي (١):
أولًا: ظهور العلم
ثانيًا: تمييز الحق من الباطل.
ثالثًا: كف عدوان المبطلين والمعاندين.
رابعًا: توحيد الصفوف وجمع الكلمة.
خامسًا: الثواب والأجر من الله سبحانه.
فهذه من الآثار التي يجنيها المحاور الناجح، وقد ظفر بها مصعب بن عمير ﵁ في حياته، وهي كما يأتي:
أولًا: ظهور العلم:
في حوارات مصعب بن عمير ﵁ ظهر العلم في المدينة حتى دخل أكثر دُورها، فعندما نجح في حواره مع أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ ﵃ وأسلما،
_________
(١) ينظر: الموصلي، فتحي بن عبدالله: فقه الحوار مع المخالف في السنة النبوية، الدار الأثرية، عمّان، ط١، ١٤٢٨ هـ، ص٢٠٤ - ٢٠٨.
1 / 23