132

Ƙidaya da Gina Dan Adam

الأعداد وبناء الإنسان: العد ومسار الحضارات الإنسانية

Nau'ikan

بقيادة بيشنس إبس من جامعة تكساس، قام فريق من علماء اللغويات مؤخرا بتوثيق تعقيد أنظمة الأعداد في العديد من لغات العالم. وقد اهتم الباحثون تحديدا بالحد العددي الأعلى في اللغات، أي أكبر كمية لها اسم محدد. وليس من السهل تأسيس هذا الحد في حالة بعض اللغات، مثل لغة الباردي؛ فهذه اللغة الأسترالية تستخدم كلمات للتعبير عن الكميات 1 و2 و3، لكن وضع الكلمة التي ترمز إلى الكمية 4 أقل وضوحا؛ إذ إنها تنطوي على تكرار الكلمة المستخدمة للعدد 2. (مثلما أشرنا في الفصل الثامن، فإن الكلمة التي تعبر عن العدد «أربعة» في اللغات الأسترالية، غالبا ما تتكون من أعداد أصغر.) إضافة إلى ذلك، فإن كلمة «ني-مارلا» أو «يد» يمكن أن تشير إلى العدد 5، لكن ذلك بين بعض متحدثي الباردي فحسب. ومثل هذا العدد المميز يجسد مثالا على التحديات العرضية في تأسيس الحدود العليا في أنظمة عددية معينة. بالرغم من ذلك، ففي معظم الحالات يكون تحديد العدد الأكبر في لغة ما مهمة مباشرة بدرجة كبيرة. وقد توصل الفريق المعني من علماء اللغويات إلى الحد العددي الأكبر في 193 لغة في الثقافات التي تقوم على الصيد وجمع الثمار في أستراليا والأمازون وأفريقيا وأمريكا الشمالية. إضافة إلى ذلك، فقد فحصوا الحد العددي الأكبر في 204 من اللغات في الثقافات الزراعية والرعوية في هذه الأماكن أيضا، واكتشفوا أن الحد العددي في لغات الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، عادة ما يكون أصغر. وينطبق ذلك تحديدا في أستراليا والأمازون، وهي المناطق التي تعتمد في أسلوب العيش على الصيد وجمع الثمار بشكل كامل. وقد ذكرنا الأعداد المحدودة التي تستخدمها هذه اللغات في الفصل الثالث، أما الآن فسوف نربط هذه القيود بالعوامل الثقافية.

3

في حالة اللغات الأسترالية لاحظت الدراسة المعنية أن 80 بالمائة من اللغات، محدودة من ناحية الأعداد، وأكبر كمية تمثل فيها لا تزيد عن 3 أو 4.

4

وقد أشارت الدراسة إلى أن لغة أسترالية واحدة، وهي لغة الجاميلاراي، هي التي يزيد حدها العددي الأكبر على العشرة، وأعلى عدد تمثله هو العدد 20. ونظرا إلى أن كل جماعات السكان الأصليين في أستراليا تعتمد عادة على الصيد وجمع الثمار، فإن العلاقة بين وجود عدد محدود من مصطلحات الأعداد ونمط العيش، يؤثر بشدة على الاتجاه المتوقع في تلك القارة. وتتضح هذه العلاقة بقوة أيضا في أمريكا الجنوبية، أو الأمازون على وجه التحديد؛ فعادة ما يكون الحد الأعلى في اللغات التي تستخدمها ثقافات الصيد وجمع الثمار في هذا الإقليم، أقل من عشرة، فلا توجد سوى لغة واحدة من هذه اللغات هي التي تمتلك أعدادا للكميات الأكبر من 20، وهي لغة هاوراني. إن ثلثي اللغات التي تستخدمها جماعات هذا الإقليم يكون الحد الأكبر فيها 5 أو أقل، وأما الثلث الآخر فلا يزيد الحد الأكبر فيه عن عشرة. وهذه النسب من الأنظمة العددية المحدودة أكبر كثيرا مما قد نتوقعه من عينة عشوائية من الثقافات. واختصارا، فإن العلاقة بين أساليب العيش الأساسية والتعقيد العددي متغلغلة في هذه الأقاليم.

وبالرغم مما تجلبه مثل هذه النتائج من فائدة، فإنها تنطوي على إحدى المشكلات، وهي أنها مبنية على أساس التصنيف المبسط للثقافات إلى نوعين: ثقافات تتبع نمط الصيد وجمع الثمار مقابل ثقافات لا تتبع نمط الصيد وجمع الثمار. وهذا التصنيف ضروري لإجراء هذا العمل الاستبياني، غير أنه من المهم أيضا أن نراعي أن أنماط إعاشة البشر تتنوع تنوعا أكبر مما ينطوي عليه هذان المسميان. فعلى سبيل المثال، نجد أن المجموعات التي تعيش على الصيد وجمع الثمار تختلف بدرجة كبيرة في مقدار ما تحصل عليه من سعرات حرارية من خلال الصيد، وفي أنواع الصيد الذي تمارسه. وبالرغم من كل شيء، فإن مجموعات الصيد وجمع الثمار في أستراليا والأمازون وغيرها من الأماكن، تصطاد أنواعا مختلفة من الحيوانات، وتعيش في أنظمة بيئية مختلفة. وهذا الاختلاف في الأنظمة البيئية، يتضمن الاختلاف في إمكانية الوصول إلى مصادر الماء العذب، ومن ثم اختلاف معدلات الاعتماد على الأسماك وغيرها من الحيوانات المائية كمصدر للحصول على السعرات الحرارية. إضافة إلى ذلك، فالعديد من الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، تعتمد على أساليب القطع والحرق في الزراعة، بدرجة ما على الأقل، حتى وإن لم يمارسوا الزراعة المستقرة على الإطلاق. وأخيرا، فإن أنواع الشبكات الاجتماعية الأكبر التي تتضمن مجموعات الصيد وجمع الثمار، تختلف اختلافا كبيرا؛ فبعض مجموعات الصيد وجمع الثمار في الأمازون تعيش في انعزال بدرجة كبيرة. وفي الواقع، وفقا لتقنيات التصوير بالقمر الصناعي الجديدة، توجد العديد من جماعات السكان الأصليين المنعزلة التي تعيش في الإقليم. وعلى العكس من ذلك، فإن معظم جماعات الصيد وجمع الثمار التي تعيش في منطقة الحوض العظيم بجنوب غرب أمريكا (وهي المنطقة التي ركز عليها إبس وزملاؤه)، طالما كانت متصلة مع بعضها البعض، ومتصلة بالمجتمعات الأكبر منها أيضا. ومع هذا التواصل يأتي انتشار التجارة وتقييم السلع، مما يزيد من فائدة مفردات الأعداد، بينما يؤدي هذا الترابط المجتمعي الكبير إلى استعارة مفردات الأعداد. وموجز القول أن ثقافات الصيد وجمع الثمار المختلفة، تواجه ضغوطات اجتماعية ثقافية كبيرة التنوع، فيما يتعلق بزيادة استخدام الأعداد. ومن ثم، فبالرغم من أن الاستخدام المتجانس لمصطلحات مثل «مجموعات الصيد وجمع الثمار» أمر منطقي، فهو يعتم على بعض الاختلافات المهمة بين أنواع الثقافات؛ ولهذا فليس من الغريب أن مجموعات الصيد وجمع الثمار في أمريكا الشمالية، تمتلك أنظمة عددية أكثر تعقيدا، من تلك التي تمتلكها مجموعات الصيد وجمع الثمار التي تعيش في الأمازون على سبيل المثال.

5

وبالرغم من محدودية المصطلحات المستخدمة لتصنيف الجماعات السكانية البشرية، فلا يزال لدينا ارتباط واضح بين أنواع أسلوب العيش، وتعقيد أنظمة الأعداد: الجماعات التي تعتمد على الصيد وجمع الثمار، ولا تستخدم الزراعة أو غيرها من الأساليب الزراعية المعقدة إلا قليلا، تستخدم تقنيات عددية متواضعة في معظم الأحيان. وينبغي أن أؤكد على «في معظم الأحيان» هنا؛ إذ يوجد بعض الاستثناءات من المجتمعات التي لا تعتمد على الزراعة، لكنها تمتلك حدودا عددية كبيرة نسبيا. ويوجد عدد قليل من المجتمعات الاستثنائية التي تطبق بعض الممارسات الأساسية في الزراعة، لكن حدودها العددية منخفضة (مثل جماعة الموندوروكو التي تناولناها في المناقشة في الفصل الخامس.) بالرغم من ذلك، فما من جماعات زراعية كبيرة، سواء في الوقت الحالي أو في التاريخ المسجل لدينا، دون أنظمة عددية معقدة. ومع ذلك، يجب أن أوضح أن التفسير الذي أطرحه ليس تفسيرا حتميا يقضي بأن الأنظمة العددية التي تتسم بوجود حدود عددية مرتفعة، تؤدي حتما إلى ظهور الزراعة. وإنما أقترح أن الأنظمة العددية القوية (كانت) ولا تزال عاملا مهما يساعد في ابتكار الممارسات الزراعية. غير أننا في نهاية المطاف نفترض وجود تطور مشترك بين الأنظمة العددية وأنماط الإعاشة، أي إن أنواعا محددة من أنماط الإعاشة (مثل الزراعة المستقرة) تشكل بعض الضغوطات لتطوير أنواع أكثر تعقيدا من الأعداد.

إن تداعيات هذا الاستنتاج لا تقتصر على وعينا بالبشر في الوقت الحالي فحسب، ولكنها تؤثر أيضا على فهمنا للبشر على مدار التاريخ. فقد عاش نوعنا في الغالبية العظمى من فترة وجوده على الصيد وجمع الثمار في أفريقيا، دون ممارسات زراعية ولا شبكات تجارة معقدة؛ إذن فمن التفسيرات المنطقية للتوزيع المعاصر لأنواع الأنظمة الثقافية والعددية، هو أن البشر لم يستخدموا الأنظمة العددية المعقدة على مدار الجزء الأكبر من تاريخهم. ومن التفسيرات المنطقية الأخرى أن التحول إلى ثقافات أكثر استقرارا وتعتمد على التجارة بدرجة أكبر، قد أسهم في دفع العديد من المجموعات إلى تطوير تقنيات عددية أكثر تعقيدا. وقد كان هذا التحول واضحا بالفعل في نقاشنا لنشأة الكتابة في الفصل الثاني؛ فقد تطورت الأعداد المكتوبة، والكتابة بوجه عام، في منطقة الهلال الخصيب بعد أن بدأت الثورة الزراعية هناك؛ فحين بدأ البشر الذين كانوا يعيشون في هذه المنطقة في تطوير مزارع كبيرة، وأصبحت الحياة في تلك المنطقة تعتمد بصورة أكبر على الزراعة، ظهرت ضغوطات جديدة دفعت البشر الذين يعيشون في هذا الجزء من العالم إلى تسجيل كميات السلع بدقة. فقد كان عليهم مثلا أن يعدوا مخزون القمح والشعير والدخن، وأن يسجلوا أعداد هذه المحاصيل وغيرها من السلع الناتجة عن الزراعة أو التصنيع أو كليهما، وذلك في المراكز الحضرية التي تعتمد على الزراعة. وفي النهاية نتج عن هذه الضغوطات اختراع الأرقام وغيرها من الرموز، وذلك مثل الأرقام القائمة على العملات الفخارية، التي ناقشناها في الفصل الثاني. وقد أتاحت هذه الأرقام وجود أشكال جديدة من الزراعة والتجارة، التي كانت تستلزم تمثيل الكميات والتمييز بينها بدقة. ومن ثم، فإن المثال القديم لبلاد الرافدين، يوضح السبب وراء الربط الحالي بين نمط الإعاشة وأنواع الأعداد؛ فالأنظمة الاقتصادية الكبيرة التي تقوم على الزراعة والتجارة، تستلزم وجود التعقيد العددي كي تنجح. ومثل الأرقام المكتوبة فإن الحدود العددية الكبيرة تؤدي إلى نجاح الزراعة والتجارة؛ إذ إنها تمكننا من التمييز الدقيق بين جميع الكميات المعنية.

حتى بعض الممارسات الزراعية التي يفترض بأنها بسيطة، لن تكون ممكنة إن لم يسبقها وجود أنظمة عددية معقدة. فمن جميع الأدلة التي استعرضناها، يمكننا القول بأن الثورة الزراعية لم تكن لتحدث إن لم يطور البشر مجموعات واسعة من الأعداد. فمثلما رأينا يحتاج البشر إلى الأعداد كي يتمكنوا من التمييز بين معظم الكميات بدقة؛ ومن ثم فمن الواضح أن مفردات الأعداد وغيرها من الأدوات العددية ضرورية لنا لكي نتمكن من متابعة دورة القمر، وغيرها من السمات البيئية الضرورية لتطوير العديد من الممارسات الزراعية. وبسبب هذه الضرورة؛ فإن العديد من السجلات العددية المبكرة في مناطق مختلفة مثل أمريكا الوسطى وبلاد الرافدين، تتبع الدورات الفلكية والفصول. وبدون التقويمات المفصلة المستندة إلى الأعداد، لم يكن للبشر أن يتتبعوا الأنماط السماوية غير الواضحة، مثل تكرار مواقع الشمس في أوقات مختلفة من العام. لقد اخترعنا أدوات عددية، وقد أصبح من الممكن أن نستخدم هذه الأدوات بعد ذلك بطرق غير متوقعة، ويمكن تحسينها لتلبية احتياجات غير متوقعة أيضا. إن استخدام الأعداد قد مكن البشر من تتبع حدوث الاعتدال الربيعي والانقلاب الشتوي على سبيل المثال، وقد ثبت أن ذلك أمر محوري للزراعة. إضافة إلى ذلك، فالأنظمة العددية التي تتضمن حدودا عددية كبيرة، قد مكنت السومريين وغيرهم من تحديد عدد صفوف الشعير بدقة، أو قياس مخزون الحبوب للشتاء على وجه التحديد. وبدون الأعداد لن تكون مثل هذه المهام صعبة فحسب، بل مستحيلة. ويمكننا أن نقول هذا الآن بثقة؛ نظرا إلى الأبحاث التجريبية الحديثة التي ناقشناها في هذا الكتاب؛ إذن فالأعداد تمكننا من الزراعة، وفي نهاية المطاف تؤدي الزراعة إلى وجود مجتمعات أكبر وأكثر استقرارا، وهذه المجتمعات تنتج شبكات أكبر من العقول التي تتشارك اللغة نفسها؛ ومن ثم تنتشر الأدوات العددية خلالها بسرعة.

Shafi da ba'a sani ba