بسم الله الرحمن الرحيم
عونك اللهم وحدك وصلواتك على محمد وآله، الحمد لله ولي الحمد وأهله: أما ما سألت عن صفة القلب وأسمائه، وصفة الصدر وأحواله، وصفة النفس. وصفة إبليس وجنوده، وبيان سلطانه عليها وعللها وشأنها وأحوالها وبدئها، وصفة المعرفة وما في حشوها، وصفة النور ولباسه، وصفة خلق آدم ﵇ المائة خلق، وصفة جنود المعرفة، وصفة العقل ومعدنه ومجلس قضائه وأعوانه، وصفة مدائن المعرفة، وقراها وأسوارها وعُمّارها، وبيان صفة المعسكر وبيوت الدواوين وخزائن الطاعات ومعادن الحكمة وسجون النفس، وخلقة آدم، وبيان اسمه، وترجمة لا إله إلا الله، وبيان قوله: (ألستُ بربِّكم)، وتفسير اسم إبراهيم خليل الرحمن ﵇، وتفسير اسم إبليس واسم فرعون، وتفسير قوله: (الله نور السماوات والأرض) . وتفسير شجرة الزيتون، وتفسير شجرة طوبى. فهذه ثلاثة وثلاثون مسألة ولها غور بعيد لا يمكن استقصاؤها لبعد قعرها، وسنذكر منه ما يفهمه ذو اللب، فإن الفؤاد أول مدينة من مدائن النور، وللنور سبع مدائن: أولها: الفؤاد ثم الضمير ثم الغلاف ثم القلب ثم الشغاف ثم الحبَّة ثم اللباب.
فالضمير قلب الفؤاد، والغلاف قلب الضمير، والقلب قلب الغلاف، والشَّغاف قلب القلب، والحبَّة قلب الشَّغاف، واللباب قلب الحبَّة وهو معدن النور، فهذه سبع مدائن بعضها في بعض. ولكل واحدة منها باب، ولكل مفتاح، وعلى كل باب ستر، وبين كل واحد وواحد حائط، ومن وراء كل حائط خندق.
صفة الأبواب
أما باب الفؤاد فمن نور الرحمة، وأما باب الضمير فمن نور الرأفة، وأما باب الغلاف فمن نور الجود، وأما باب القلب فمن نور المجد، وأما باب الشَّغاف فمن نور العطاء، وأما باب الحبَّة فمن نور الألوهية، وأما باب اللباب فمن نور العطف، وأما نور العطف فمن نور القربة، ونور القربة من نور الشفقة، ونور الشفقة من نور الإرادة، ونور الإرادة من نور نور الإرادة وهو نور المحبة، ونور المحبة من نور المنة، وهو علم دقيق لا يمكن فحصه.
صفة الستور
فأما ستر الفؤاد فالجمال، وأما ستر باب الضمير فالجلال، وأما ستر باب الغلاف، فالسلطان، وأما ستر باب القلب فالهيبة، وأما ستر باب الشُّغاف فالقدرة، وأما ستر باب الحبَّة فالعظمة، وأما ستر باب اللباب فالحياء، والحياء من ستر الملك.
صفة المفاتيح
فأما مفتاح باب الفؤاد فالإقرار، وأما مفتاح باب الضمير فالتوحيد، وأما مفتاح باب الغلاف فالإيمان، وأما مفتاح باب القلب فالإسلام، وأما مفتاح باب الشُّغاف فالإخلاص، وأما مفتاح باب الحبَّة فالصدق، وأما مفتاح باب اللباب فالمعرفة.
صفة الصدر
فأما الصدر فإنه مصدر الأمر ومعدن المشورة والقضاء ومجلس الملك وهو العقل، وهو ربض المدينة وما والاها.
وللمدينة فيه أربعة أبواب؛ شارعة إليه وهو ميدان عظيم ومجلس بهي فيه قناديل الرحمة، ومصابيح النور تزهو فيه من النور الذي في القلب، وشموع لواحة تبرق بضوئها ونورها، من ذلك ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وما روى الربيع عن أُبَي بن كعب في قوله ﷿: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة)، قال المصباح النور والزجاجة القلب والمشكاة الصدر، فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء فكذلك أضاء الصدر ثم نزل الضوء من الكوَّة وهي المشكاة، فكذلك نزل النور من الصدر فأضاء الجوف كله وهو النفس، وقال (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)، وفيه معادن ودرجات ومحاصل من قوله: (وحصل ما في الصدور) وفيه ساحة لطي الملك ومعسكره، وموضع قضائه، وتزيين العمال، ومحشد الجيوش، وبحث الجنود وستور الرحمة، وله سبع حيطان وسبع خنادق.
صفة الحيطان والخنادق
فأما حيطانه فله سبعة حيطان حوله ما بين كل حائطين منها خندق، فأما الحائط الأول وهو الذي بينه وبين النفس فهو الاستعاذة، والثاني: من الذكر، والثالث: من الاستنصار، والرابع: الاستغاثة، والخامس: المجاهدة، والسادس: من التوكل، والسابع: من التسليم.
وأما خنادقه: فالظفر، والذكر، والعون، والنصرة، والهداية، والحسبية، والنجاة.
تفسير الخندق
1 / 1
فأما الظفر، فهو خندق الاستعاذة من قول الله ﷿: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون)، فوعد على الاستعاذة حيث قال: (ليس له سلطان على الذين آمنوا)، سلب سلطان العدو، وسمي المستعيذ مؤمنا، وسمِّي المؤمن متوكلا حيث قال: (وعلى ربهم يتوكلون)، ثم وصف سلطانه، فقال: (إنما سلطانه على الذين يتولونه) .
وأما الذكر: فإنه خندق الذكر من قول الله جل وعز: (فاذكروني أذكركم)، فوعد على ذكرك له ذكره لك، ثم قال: (ولذكر الله أكبر)، جلل ذكره وعظمه من أن تناله أحد كما هو له أهل، وقيل في الحكمة، ذكر العبد بين ذكر الربّ بذكره الربّ بالرحمة، فبذكره العبد من ذكره له بالثناء والحمد والعبودة، فبذكره الرب بالتوبة والشكر والمغفرة والقبول، فذكر الله حرز وثيق وحصن حصين.
وأما العون: وهو التوفيق فإنه خندق الاستعانة إذ أمر بذلك في أم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم، وشرط لعبده على نفسه أن نصفه له ونصفه لعبده وأن لعبده ما سأله فقال: قل، (إياك نعبد وإياك نستعين) ثم قال: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، فشهد لمن استعان به بالخشوع، واليقين بلقائه، والرجوع إليه عند البعث، فقال: (إنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون)، ثم قال: (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة)، ثم شهد في الآية بالهداية لمن استعان به فقال: (أولئك هم المهتدون) .
وأما النصر: فإنه خندق الاستنصار من قوله جل وعز: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) فوعد النصر على حد الاستنصار حيث قال: (فقد جاءكم الفتح)، ثم قال: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) .
وأما الهداية: فإنه خندق الجهاد في قوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سمّاكم المسلمين) الآية فأمر بالجهاد حق الجهاد ثم بين لهم منزلتهم عنده وخصوصيتهم، فقال مبرزا لمنته عليهم طالبا لشكره منهم هو اجتباكم، فأنتم أهل جبايتي جبيتكم من بين خلقي، فأنتم عبادي المجتبون ثم برهم وألطفهم وأظهر لهم العذر وبين الحجج فإنه لم يحملهم إلا ما يطيقون، فقال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، ثم نسب ملتهم إلى خليله إبراهيم يحرضهم عليها، فقال: (ملة أبيكم إبراهيم)، وشهد لهم بالنبوة لإبراهيم ﵇، أي كأنه إذًا هم من نفسه، أي بكرامة الآباء ألحق بهم الأولاد وأحفظ لهم وأتعدهم، من ذلك قوله: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم)، ومن قوله: (وكان أبوهما صالحا)، أي فإني إنما حفظت كنزهم تحت ذلك الجدار وعينت خليلي الخضر لإقامته بسبب صلاح أبيها، ثم قال: (رحمة من ربك فإن رحمتي قريب من المحسنين)، ثم قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، فوعد على الجهاد الهداية لسبله لا لسبيل واحد ثم شهد له بالإحسان ونصره بمعيته.
رجعنا إلى ما كنا فيه، فقال: (هو سماكم المسلمين)، فشهد لهم بالإسلام ونسب تلك التسمية إلى خليله إبراهيم أي أنه أبوكم ومن أحق بتسمية الأولاد من الآباء بودّ خليله وملته إليهم، ثم قال: (وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس)، حيث تجحد الأمم تبليغ رسل الله إليهم الكتب، وحجج الله، ثم ذكره في آخره: (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير)، حيث يتولى أموركم الكافر والمسلم وينصركم إذا استنصرتوه ويرضى اليسير ويشكر الكثير ويكرم المطيع ويرحم العاصي ويقبل التوبة والحسنة ويضاعفها، ويحط السيئة ويبدلها ويرفع الدرجة ويقبل العترة.
أما الحسبية: فإنه خندق التوكل في قوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، ومن قوله: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)، فشهد على المؤمن بالتوكل.
1 / 2
وأما النجاة: فإنه خندق التسليم حيث ذكر من شأن إبراهيم وابنه ﵈، فقال: (فلما أسلما وتلَّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) . ثم قال: (وفديناه بذبح عظيم)، (ونجيناه من الغم)، ثم وعد بمن فعل فعله بأن يعامله معاملته، فقال: (وكذلك ننجي المؤمنين)، ثم شهد له بالإيمان وسماه عبده، فقال: (إنه من عبادنا المؤمنين)، ثم قال: (إنا كذلك نجزي المحسنين)، والإحسان هاهنا الإخلاص أي اختلس نفسه من نفسه ووفاء لربه بما أمره به وتوكل عليه.
باب صفة الأبواب
التي على الصدر والبوابين
فالصدر له بابان شارعان إلى النفس، باب الأمر وباب النهي وبواباهما المشيئة والقدرة، وعليهما ستران من الجبروت والملكوت وعلى البوابين لباسان من نور الوحدانية والإلوهية حشوهما الرأفة واللطف والعطف والرحمة قد نسجهما بنور السلطان والعظمة والهيبة والكبرياء.
باب صفة أساس الحيطان
فإن أساس الحيطان على سبعة أشياء على الشكر والرضا والصبر والإخلاص والنية والقبول والإقرار.
باب المرمة والتعاهد
فأما استصلاح الحيطان ومرمتها وقوامها كي لا تنقض فتنهار أو تصيبها آفة من ثقب أو ثلمة، أو نقص فثمانية أشياء وهي التهليل والتحميد والتكبير والتمجيد والاستسلام والتسبيح والاستغفار والصلاة على النبي ﷺ.
باب صفة النفس وما فيها
فإن النفس، نفسان: نفس ظاهرة، ونفس باطنة.
فأما الباطنة؛ فهي المذمومة، وأما الظاهرة فهي متابعة لمن قادها وغلب عليها واستولاها من ذلك قول الله جل وعزّ عما يحكي عن شهادة يوسف ﵇ بالسوء فقال: "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء".
وقوله: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون)، فإنما تجادل في النفس الظاهرة النفس الباطنة، فقوله: (فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي) . وقوله: (تعلم ما في نفسي)، فهذه صفة النفس الباطنة
وأما صفة النفس الظاهرة
فأنها تابعة لمن غلب عليها، "فإن غلب عليها" الملك وهو النور والعقل كانت تابعة لهما فإن غلب عليها النفس الباطنة انقادت لها فمن قوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) لغلبة الملك عليها (وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه)، أي نفس الشيطان وذلك أن هذه النفس الباطنة نفس الشيطان ولها شأن نصفه في موضعه إن شاء الله، وقوله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من ذكاها)، أي زكى، أي أصلح النفس الباطنة لتصلح النفس الظاهرة بصلاحها، ومنه قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية)، وإنما قال المطمئنة لأن الباطنة إذا قمعت وسجنت ووقى شُحها، ضعفت وخمدت نيرانها، سكنت الظاهرة واطمأنت من إساءتها لها ووقعت في راحة، ألا ترى إلى قوله تعالى: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)، فهاتان نفسان ظاهرة وباطنة كما وصفنا من شأنهما، وهما مدينتان عظيمتان، "وبينهما تفاوت وتفاضل" وهما خارجان من ثلل الحيطان والخنادق التي وصفنا وفيه أشياء ما لا يقدر وصفه مخافة طول الكتاب.
صفة النفس الباطنة
1 / 3
فأما صفة النفس الباطنة، فغن جوهرها من أخس التراب وأدناه وأخبثة وذلك أنها من موضع موطئ إبليس ومرتكضه ومتخطاه وممشاه إذ كان فيها ملك ورئيس في زي الملائكة مع ذلك الملأ فأصابها شؤم كفره لمواطئه عليها أياما في دهره مع الشرك الذي كان فيه والكفر والتكبر إذ وصفه الله بالكفر وهو في لباس التوحيد فشهد عليه بالكفر فأبطل ما أظهر من دينه بما كان في باطنه وضميره من الجبلة عليه يوم خلقه فقال: (وكان من الكافرين)، فلما خلق آدم من تراب وجهه جميع الأرض أسودها وأحمرها خبيثها وطيبها سهلها وجبلها امتزج التراب والموطئ والخطى بالأخرى فلما خلقه صار خلقة آدم ﵇ على موطئه وخطاه وصار الموطئ أخبث وأردأ من الخطوه "وسنصفه في موضعه إن شاء الله" فصارت تلك التربة جوهر خلقة النفس، نفس آدم جبلة عليها ومنها، وصارت أس النفس وقاعدتها، فلما فرغ منها وضعه تحت العرش فمر عليه إبليس وهو في زي الملائكة. فقال لهم: أرأيتم أن أمركم الله بأمر أفتطيعونه! قالوا: نعم، قال: فأنا لا أطيعه!! وذلك أنه نظر في أصل خلقته فعرف أنه خلق من ذاك التراب فتهاون به، وقال إن أمرني أن أطيعه لم أطعمه وإن لم يُطعن استنفرت المجهود في استطاعته ونصبت الحرب بيني وبينه، قالت له الملائكة: ولِمَ؟ قال: لأنه خلق من تراب موضع قدمي وموطئ خطوتي وممشاي، فلي فيه وجهان: أما أحدهما فهل يسجد الأب لابنه، والسيد لعبده، فإنه مني بمنزلة الابن أو العبد إذ خلق من مرتكض رجلي وممشاي وما مسحت به قدمي منذ ألفي سنة.
أما الوجه الآخر فإن موطئ الواطئ وخطوته كبعض جسده، فلا بد لبعض الجسد من الطاعة لبعضه، ولا بد لبعض الجسد الأدنى والأقل من الطاعة لبعض الجسد الأعلى والأكبر، فقاس بهذه الأشياء أمر الله وخلقه، فأول من قاس اللعين أبعده الله.
احتجاج إبليس
فيم احتج؟ قيل له: ما الدليل على ما احتج إبليس وما بيانه، وبيان حججه، ما هو موجود مما قصده، قال: أرى احتجاجه في ذلك من قول الله تعالى: (فقبضت قبضة من أثر الرسول)، أي كان تلك القبضة من موطئ فرس جبريل ﵇ وكان على فرس الحياة، وإنما أخذ موضع حافره لما كان فيه من الحياة، فأينما طرح من تلك القبضة أحيا كل شيء، وهو في قصة السّامري يقول: فلو لم يكن ذلك التراب من الفرس لما كان يحيا منه كل ميت ومنه قوله: (إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين)، يقول: فإن الله يكتب للمؤمن وعلى الكافر ما قدم من خير أو شر وآثارهم؛ والآثار: أي ما تحت القدم، فيلحق الآثار بالأفعال، والآثار من الأجسام كما أن الأفعال من الأجسام، ومن قوله ﷿: (ولا يطئون موطئا يغيض الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كُتب لهم به عمل صالح)؛ كقول الله تعالى: نلحق، أي نجعل الموطئ من العمل فموضع الوطء، والموطئ من الجسد كبعضه، فكأنه يقول: لو لم يكن الموطئ من الوطئ كبعض الجسد لما جعل النيل والموطئ في الأجر سواء، فكما أن الوطء من الواطئ، كذلك موضع الوطء من الموطئ، فهذه صفة النفس الباطنة والظاهرة.
1 / 4
رجعنا إلى ما كنا فيه من شأن النفس، فالموطئ إنما هو موضع القدم وخطوته، وكان إبليس يوم وطئ تلك التربة كافرا في علم الله مطيعا في الظاهر كما وصف الله، وكان من الكافرين ومن قوله: (اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) . فكما وجدنا لمقام إبراهيم ﵇ من الكرامة والمنزلة ما جعله الله قبله لمن آمن، وأمرهم بأن يتخذوه مصلى وليس هو إلا أثر قدم في حجر فوقع لقدمه من الحرمة ما إن اتخذ موضعه وأثره قبله لخلقه لا تقبل الصلاة في الآفاق إلا به، فلم تقع له هذه الحرمة إلا أنه عدّ من القدم ولحقه به، كأنه هو القدم نفسه، والقدم قد زال عنه وأبلته أيدي اللامسين واختلاف الزائرين، فليس إلا رسم قد ذهبت عنه آثار الأصابع، فذلك لمقامي وقدمي وموطئي وآثري وخطواتي من المنزلة مني، أي أعدّه من نفسي وبعضي وعضوي، ومنه في حديث آدم ﵇ حين أُهبط إلى الأرض، في أرض عند ما يلي مطلع الشمس فجال جميع الدنيا، فما كان تحت قدمه نالته رحمته وبركته فصار مدينة وما كان بين قدمه صار قرى، وما لم يصيبه قدمه صار مفاوز، ومن ذلك فضل أهل المدينة على أهل القرى، فكما نالت تلك التربة قدمه كذلك نالت شؤمه وكفره وكبره، وكما أضيف ذلك إلى آدم ﵇، كذلك أضاف عدو الله ذلك الشؤم إلى نفسه وذلك أنه أدعى أن الشؤم والكفر والعتو كان فيه قلما نالته التربة امتزج بها وصار كالشيء الواحد ومنه سمي الخضر خضرا، لأنه أيما مشى في الأرض نالت بركته ولطفه وطيبه فاخضرَّ ما حول قدميه، وأصل الخضرة من نور الجلالة، وقوله ﷿: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) أي كونوا على الصلح الذي صولحتم عليه، وهو الحلال والحرام خُيِّر أبوكم بين الحلال والحرام، وخُيِّر العدوّ، فاختار أبوكم الحلال واختار العدوّ الحرام والفحش، واصطلحا على ذلك واصطلحت ورثة إبليس على ذلك، فاصطلحوا نتم يا بني آدم على صلح أبيكم وما قد اختار لنفسه ولكم من الطيبات، وما قد أباح لكم من خلال، (ولا تتبعوا خطوات الشيطان)، أي لا تتبعوا نفوسكم الباطنة، فإنها خُلقت من خطوات الشيطان فإن نهمتها نهمة الشيطان وما اختاره من الحرام فهذا السّلم حصن لكم وكهف فادخلوا في حصنكم وكهفكم إذ أحزنكم أمر من العدوّ (فإنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربّهم يتوكلون)، فالسّلم حصن، والتوكل حرز وثيق وخندق قعير وبحر عميق.
وأما ما وصف في شأنه (وكان من الكافرين)، فلما وطئها نالها من شؤمه وشؤم كفره وظلمته وتمرده واستكباره الذي ظهر منه يوم السجود، فصار بهذا المعنى كعضو منه فلما لعن صارت تلك التربة ملعونة حيث كانت، نالها ذلك السخط، فلما رمى إليه الأباطيل صارت نهمة إبليس فيها ومراده من الدنيا ومطلبه ومحبوبه ومسروره ومفرحه، ونالت تلك التربة في آدم ما نال صاحبها إذ كانت قد صارت كعضو منه، فدبّر إبليس عدوّ الله وقاس فوجدها في آدم ﵇ قائمة بعينها فاستغنمها منه إذ وجد آدم ﵇ مجبولا على نهمة نفسه، أي كأنه وجد مجبولا على عضو من أعضاء إبليس، فقال جسدي لا يعصيني، كيفما كان فقوي بها عدوّ اله وفرح بما نال من الفرصة.
1 / 5
رجعنا إلى ما كنا فيه فلما أكرم الله آدم ﵇ وأبرز فضله على جميع الخلق، وأمره بالسجود فتكبر وأنف ليسجد لشيء رفع من تحت قدمه أدنى شيء وأخسه، وقال (أنا خير منه خلقتني من نار)؛ ذكر جوهره، والنار؛ من النور، والنور من العزّة، فأنا أحق أن يسجد لي، ثم ذكر جوهر آدم ﵇، فقال: (وخلقته من طين)، إن الطين من تراب والتراب ما الأرض، والأرض ممشاي وموطئي فأسجد لنفسي؛ وأسجد لتحت قدمي، وأسجد لهوائي؛ فوصف الله ذلك في التنزيل وحذر خلقه فقال: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين)، أي لا تتبعوا الخطوة التي هي خلقتكم فإنها دعوة إبليس وهي تابعة صاحبها، وقال: (وما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى)، أي نهى النفس الطاهرة عن الهوى والهوى الخلقة التي خلقت عليه وهي النفس الباطنة، وإنما سمى تلك التربة نفسا لأن عدو الله ادعاها وإنما سماها هوى لأنها منتهى غلبت في النفس الظاهرة وهويت بها إلى أمها فأمها الهاوية، وذلك أن إبليس خُلق من النار وذلك قوله: (وأما من خفت موازيمه فأمه هاوية)، وقال: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)، ويقول: (اتخذ الهوى)، أي نفسه الباطنة إلهه فجعل يطيعها فيما تأمر أو تنهى، قد نصبها ربّا بين عينيه ثم شهد عليهم إنهم كالأنعام ثم ذكر بأنها أظل من الأنعام.
رجعنا إلى ما كنا فيه فلما صارت النفس الباطنة هوى إبليس وعضوا منه كما ذكرنا أطاعت إبليس بما كان يأمرها من الفحش والأباطيل والمعاصي ولم يكن للنفس الظاهر بدّ من الانقياد لها والطواعية فيما تشير فكانت تواتيها فيما يكره الله وتخضع لها إذ كان فيها من الخبث مثل ما فيها وذلك إنها من تحت القدم وهذه فيما بين القدمين الذي لم يطأها فأيّد الله عبده بما وسَّع عليها من الحلال وأباح لها وأحل وحرم؛ فنبذ الحرام والفحش إلى إبليس فرفعه ورمى الحلال والحسن إلى العقل فرفعه، فأمر بالحرام إبليس فأطاعته النفس الباطنة، فاشتهت النفس الظاهرة فأرادت أن تطيعها وتنقاد لها إذ كانت من جوهرها وإذ كانت الشهوة فيها متحركة نبذ الله إليها بالحلال فتعلقت الظاهرة بها إذ كان الغالب عليها ملكها فلم تنقذ للباطنة فعسكرت عليها الباطنة بجنود إبليس وعسكر عليها الملك وهاجت الحرب فيما بينها وهي مذبذبة بين ذلك وتلك دار الحرب لا سلم أبدا، والجوارح فيما حولها قرأها فمتى كانت الغلبة للملك اطمأنت النفس الظاهرة ورضيت بما أحل الله لها ومتى كانت الغلبة لها كانت منقادة منهوكة في الحرام.
1 / 6
رجعنا إلى ما كنا فيه من التحليل فأيّد الله النفس الظاهرة بما أحل حتى حلها من وثاق الهوى، وخلصها من سجنها، وأخرجها من رقها، فقال: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق)، وقال: (كلوا مما في الأرض حلالا طيبا) ثم قال على فوزه (ولا تتبعوا خطوات الشيطان)، ثم بين سبب النهي فقال: (إنه لكم عدوّ مبين)، فاعلم إن خطوات الشيطان هي التي تأمرك بالسوء والفحشاء، وهي نفسك الظاهرة حتى تشتهي فأطعمها الحلال فإن الله أحل وحرم فمن انتهى عن الحرام أبدل مكانه الحلال، وقال: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) أي لم يكن لي فيما خلقت حاجة إنما خلقتها من أجلكم فخذوها من وجهها ووحيها ما أحللتُ لكم فقد جعلت الحلال بينا والحرام بينا وما حرّمت إلا الخبائث والفواحش ومما لا لذة فيه، وما أحللت إلاَّ الطيب واللذيذ فقال: (كلوا من الطيبات واعملوا صالحا)، أي لا تطيعوا النفس الباطنة فإنها تأمركم بالفحشاء والمنكر وقال: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا)، أي من طاعتي في الحلال فإن في الحلال غنية عن الحرام، قال الله جل وعز: (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إياه تعبدون)، فأباح أكل الحلال من الطيبات واقتضى الشكر على ما أحل وأباح لا على النعمة، ثم قال: (إن كنتم إياه تعبدون) فجعل شكرك على إباحته لك الحلال عبودة وتوحيدًا، ثم اعتذر فيما حرَّم ووصف الحرام، فقال: (إنما حرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله)، أي إني لم أحرم عليكم إلاّ مثل هذه فلو كنت أحللت لكم مكان هذه الطيبات تلك الفواحش والحرام ما كنتم تصغون، وكيف كنتم تتأولون ذلك فاشكروني على إني أحللت لكم شهوتكم التي تشتهون وحرمت عليكم ما تتقذرون وتخبث نفوسكم إذا ذكرتموها، وقوله: (وما أهل به لغير الله)، فالذي إذا ذبح لم يذكر عليه اسمي ما يصنع به ذلك فقد اجتمع عليه سمّ الدنيا وذلك أن اسمي مبارك واسم الطاغوت والشيطان شؤم وسم، فإذا لم يذكر اسمي وذكر اسم الطاغوت والشيطان كيف يهنئ ذلك في البطون فإني إنما حرمت مثل هذه الأشياء، فقال: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)، فاقتضى الشكر أيضًا على أنه أحل لك الحرام في أوقات الضرورة وأباح لك التناول، ثم قال: (إن الله غفور رحيم)، أي لا يأخذ على ذلك التناول من الحرام رحيم من رحمته أباح لك الحرام عند الضرورة، فهذا في الدنيا، وما في الآخرة، (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى)، أي نهي نفسه الباطنة عن الحرام، وأعطاها من الحلال، وقال: (لكم فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين) لما انتهى عن اتباع النفس الباطنة عن الحرام؛ فهذه صفة النفس الظاهرة والباطنة.
ولها أبواب سبعة شارعة إلى الجوارح، والجوارح سبع قرى حولها، فإذا كان الملك لها أميرا عليها جاريا سلطانه كانت لها ساكنة والقرى مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فإذا كفرت بأنعم الله فأطاعت الباطن بالحرام وتركت الحلال أذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون من موافقتها لما كره الله لها.
1 / 7
وجعلنا إلى ما كنا فيه من شأن إبليس فلما أمر بالسجود تكبر فلُعن، وقيل له اخرج منها فأنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين، فأبلس وصار شيطانا رجيم أبلس من كل خير، وسلب لباس الرحمة وصار عريان آيسا من رحمة الله وفاسقا اجترا على الله، إذ قال له: خلقت خلقا أدنى مني وفضلته علي وهو ممن يعصيك ويفسد في الأرض ويسفك الدماء وأشقيتني في جنبه وهو لم يطعك طرفة عين وأنا قد عبدتك عبادة لا يصف الواصفون صفتها فما كان سبب ذلك؟ قال الله: (إني أعلم ما لا تعلمون)، قال: إذًا سلطني عليه! قال: وما تصنع، قال: أجعله عابدا لي؛ قال: هو لن يطيعك في ذلك، قال: إذًا سلطني عليه، قال: لك ذلك، قال: وهل يمكنني ذلك إلاّ بأجل والعمر الطويل، قال: ما تشاء، قال: (ربِّ فانظرني إلى يوم يبعثون قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم)، قال: فبعزتك لأغوينه وولده أجمعين، قال: وكان آدم ﵇ رجلا حييًا كريما لا يعرف الشر في الجنة مع زوجته يأكل منها رغدا حيث شاء فاحتال عدو الله بكل حيلة للعداوة التي كانت فيه والحقد على ما شقى في جنبه وطرد من الملكوت وغره بكل غرور حتى دخل الجنة كما هو في الحديث الطويل والقصة الطويلة ثم لما دخلها تقدم إلى أهلها بالنصح والعطف، فقال داركما هذه إن لم يكن لها خوف وموت، قالا ما هو؟ قال: هل نهاكما ربكما عن شيء؟ قال: نعم عن هذه، قال: أف وأخذ بجبينه منحازا مريئا لهما أنه يحزن لهما، قالا: ما لك؟ قال: أنا من الملائكة الذين يعلمون الغيب! قالا: وما تعلم من شأننا؟ قال: (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) . ثم ألحق القسم بآخر الكلمة (إني لكما لمن الناصحين) فبما أعلمتكما من آخر شأنكما، قالا: وما الحيلة؟ قال: (هل أدلكما على شجرة الخلد وملك لا يبلى) فكلا من هذه فغرهما باسم ربهما، قال الله تعالى: (وقاسمهما أني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور) الآية فأخرجهما من الجنة فلما هبطوا إلى الأرض قال اللعين معيرا من جرأة الكفر وحرقة الحقد ألم أقل لك أنه يعصيك ويطيعني ويعبدني فمن أطاع شيئًا عبده ومن عبده صار عبده فهو عبدي وفيه لي في أصل الخلقة دعوى إذ خلقته من التراب، والتراب في الأرض، والأرض أثر قدمي وموطني وممشاي وكان بها مسكني فخلقته في ملكي وملكي وموضع قدمي وقدم الواطئ حقه في الحكم وبه عصاك إذ كان أصابه شؤمي وجرأتي وبه ظفرت عليه، قال: فما تشاء، قال: سلطني عليه، قال: اذهب فقد سلطتك عليه فاطلب منه دعواك، قال: إذًا سلطني عليه فبعزتك لأغوينه وولده أجمعين، قال الله أن لي منه عبادًا مخلصين ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين، فقال إبليس اللعين (إلا عبادك منهم المخلصين) فاستثناء اللعين على استثناء الرب جل وعز.
باب معاينة إبليس
وسؤاله الإله جل وعز الحرب على آدم ﵇ وولده والعون والظفر
فقال يا رب إذ سلطتني عليه وشفيت صدري منه بما نبذت إليّ مما سألت فزدني قوة إلى قوتي، قال: تجري منه مجرى الدم، قال: يهزمني بذكرك، قال: قد وضعت فيه النسيان والخطأ والغفلة، قال: ويغلبني بكثرة الولد، قال: لا يولد له ولد إلاّ ولد لك مثلاه، قال: يغلبني بالقوة التي فيه، قال: اجلب عليهم بخيلك ورجالك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم إن لا جنة ولا نار، فقال: شفيت صدري منه لآتينهم من بين أيديهم الدنيا فأزينها في أعينهم ومن خلفهم فأنسيها لهم وعن أيمانهم الذنوب فأزينها وآمرهم بها وعن شمائلهم بالتوبة فأدخرها.
باب سؤال آدم ﵇
النصر والظفر على عدوه وإله الحرب وما يمنع به العدو من نفسه
1 / 8
فقال آدم صلى الله عليه سلطت علي عدوك وأيدته بقوتك فكيف أقواه، قال أحفك بملائكتي، قال: زدني، قال: لا آخذك بالخطأ والنسيان، قال: زدني، قال: لا أكتب عليك نية السيئة، قال: زدني، قال: فإن لم تعملها جعلتها حسنة، قال: زدني، قال: أكتب لك ما نويت، قال: زدني، قال: إذا عملتها كتبت بعشر أمثالها، قال: زدني، قال أزيدها سبعمائة، قال: زدني، قال: إلى أضعاف، قال: زدني، قال: إذا عملت سيئة لم تكتب عليك إلى سبع ساعات، قال: زدني، قال: رحمتي سبقت غضبي، قال: يا رب يغلبني بجنده وخيله، قال: لا يولد لك إلا وكلت به من يحفظه، وذلك قوله تعالى: (له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله)، قال: زدني، قال: التوبة مبسوطة إن تبت أو تاب أحد من ولدك إلى سنة قبلت، وقال: زدني، قال: أرسل عليك رسلي، قال: زدني، قال: وأؤيدك بالصدق ما لم تفارقه لن يغلبك، قال: زدني، قال: أعلمك كلامي، قال: زدني، قال: جعلت الآذان وارثه لك في ولدك، قال: زدني، قال: اتخذ لك مسجدًا تزورني فيه، قال: زدني، قال: جعلت ذكري شرابا لك، قال: فما جنودي، قال: مائة خلق رأسهم وقائدهم العقل، قال: ما العقل؟ وما الجنود؟ قال: العقل ملك الملك وهو المعرفة وقائد العقل ومعدنه في الدماغ ومسكنه في الصدر وسلطانه في جميع الجسد وله مائة أعوان كل عون على أمر.
باب سؤال إبليس المدد
وإله الحرب والجنود والأعوان على آدم ﵇
ثم تقدم عدوّ الله إبليس، فقال سلطت آدم عليَّ بعد ما جعلتني مذموما مدحورًا وأشقيتني في جنبه وسلبتني خلعة الكرامة ولباس الملائكة من أجله وأعطيته إله الحرب والجنود ونصرته وقويته وقضيت الحرب بيني وبينه فما آلتي؟ وما جنودي؟ قال: ما تشاء، قال: أعطيته الكتب فما كتابي؟ قال: قال كتابك الوشم، قال: فما رسلي؟ قال: الكهنة، قال: فما حديثي؟ قال: الكذب، قال: فما قرآني؟ قال: الشعر، قال: فما مؤذني؟ قال: الغناء والمزمار، قال: فما مسجدي؟ قال: السوق، قال: فما بيتي؟ قال: الحمام والكنائس، قال فما طعامي؟ قال: ما لم يذكر عليه اسمي، قال: فما شرابي؟ قال: كل مسكر، قال: فما مصائدي؟ قال: النساء، قال: فما سلاحي؟ قال: النساء، قال: أعطيته جنودًا، فما جنودي؟ قال: من مائة خلق من أخلاق السوء، والهوى مليكهم ضد كل خلق من أخلاق آدم صلى الله عليه، قال فرضي اللعين.
باب صفة المعرفة وصفة لباسها
1 / 9
قال الله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)، فالقلب مضغة خلقها الله من بطانة الأرض مما لم يمسه وطء إبليس ولا خطوته لأنه كان في سابق علمه أنه معدن معرفته ومن ذلك لا يجد الشيطان عليه سبيلًا، حيث قال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)، أي على قلوبهم، ومنه قيل القلب بيد الرحمن ومنه في الحديث أنه سأل ربه خصلة فقال ما هي يا إبليس، قال: السبيل على قلبه، قال: ذلك محرم عليك أن تدخله أو تسلط عليه، ولكن لك سبيل ومجرى من النفس في العروق إلى حد القلب وأصل العروق في النفس ورأسها في القلب، فإذا دخلت العروق وجريت فيها عرقت من ضيق المجرى فامتزج عرقك بماء الرحمة في مجرى واحد وجرى إلى القلب مع شؤمك ونفخك ونتنك وظلمتك ووصل إلى القلب سلطانك فغلبت صاحبه ومن أردت به ضرًا أو اخترته وجعلته وليًا وصديقًا ونبيًا، قلعت العروق من باطن القلب ونزعتها منه فصار القلب سليمًا فإذا دخلت العروق وجريت فيها لم ينله شؤمك ولم يصل إليه سلطانك ولا ظلمتك إذ كانت أصل العروق منقطعة من باطن القلب وصار ما بين القلب وبين أصل العروق فرجة فرضي اللعين بذلك، وقد ذكر الله تعالى في كتابه فقال: (إلاّ من أتى الله بقلب سليم)، القلب السليم الذي نزعت منه أصل العروق ثم ختم عليه، فالقلب وإن كان شريفا فإنه قد خلق مما خلقت منه النفس ولكن التفضيل مما بينهما أن النفس خلقت من أديم الأرض وظاهرها، والقلب من بطانة الأرض، والأرض خلقت من كدورة الماء وخبثه وزبده وأصلها من الماء فهي يابسة خشنة، والنور من اللطف فإذا تخلّى القلب من النور ومائه ورطوبته ولطافته، رجعت إلى جوهرها من الأرض يابسة خشنة فإذا دام بها ذلك قسا القلب أي يبس وصار إلى حالتها وجوهرها، ولما احتج إبليس بما احتج على آدم ﵇ وفضل نفسه عليه نظر في نفسه واعتبر جوهره فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) والنار من النور وخلقته من تراب، والتراب من الظلمة، ولم يلتفت اللعين إلى أن التراب من الطين والطين من الماء والماء حياة كل شيء، والماء يطفئ النار فلذلك احتج بما احتج.
أما أصل معرفة المعرفة ومعرفة جوهرها
1 / 10
فإن الله لما أراد أن يخلق آدم ﵇ جمع وجه أديم الأرض في الموضع الذي أراد أن نتخذ منه البيت وهو الكعبة، ثم رفع تربتها منه وعجنها بماء الرحمة، ثم جعل فيه نور المعرفة، وامتزج بها ماء الرحمة، ثم جعل فيه نور المعرفة كالخميرة، ثم خمرها ووضعه أربعين يومًا حتى نشف فيها نور المعرفة، وامتزج بها ماء الرحمة، وخرج ونزع ما كان في باطنها إلى ظاهرها من النور والبهاء ثم فتح خزائن الصور فاختار أحسن صورة فرفع مثاله وصورته منها ثم رفعها فصور منها آدم ﵇ على أحسن صورة، ثم نفخ فيه من نور الحياة فأحياه بالنور وحركه بالنفخ، والنور الروح وهو روح الحياة فإن للروح حياة فلم تدب الروح في جسد آدم ﵇ ولم تمد عروقه منه حتى قذف الله المعرفة وهو اصل النور الذي كان وضع في آدم ﵇ حيث خمر طينته به فلما التقى نور المعرفة والمعرفة في القلب انتشرا وابتهجا واقتربا حتى اتصلا، فلما اتصلا حتى تعارفا فلما تعارفا عرف النور المعرفة والمعرفة النور إذ كانا متصلين في البدء في مكان واحد عند الملك الأعلى منتصبا بين يديه فاجتمع نوراهما على القلب وسطعا بنوريهما فأنارا القلب وأضاء في سلطان النور وسطع منهما شعاع إلى العرش فوقف بين يدي الجليل فأتبع القلب بصر عينه حتى انتهى منتهى الشعاع فشاهد المعرفة وأبصر الجلال وحجب إليها فالتقى نور المعرفة ونور الشعاع وهو نور المعرفة والمعرفة بنفسها، فعرف ربه فلما أذن له بالكلام أتى بما كان عاين وشاهد وعرف فقال: لا إله إلا الله فلما التمس الروح المنقذ والسبيل للخروج إذ ضاق به ذرعًا في الكون في موضع مضيق كريه هائل وقد كان مخلي عنه في ساحات الملكوت فلم يجد السبيل اضطرب فنظر إليه الرب نظرة حتى خر نار تعد من هيبة سلطانه فسكن فخرج التنفس منه ثم استقر، فقال الحمد لله فلما أخرج ذريته منه نالهم ذلك النور الموضوع في أبيهم يوم التخمير بالجصص فصار لكل منه حظ على قدر ما كان في القضاء في سابق علمه فمن كان في سابق علمه أنه لا يؤمن لم يؤيده بالمعرفة ولم يمده بها وتركه على ذلك النور الذي جُبل عليه أبوه آدم ﵇ فلم يعرف ربه لأنه لم يقذف إليه المعرفة ليعرف النور المعرفة والمعرفة النور فيعرف صاحبها ربه وعلمه أن سألته عنه ولم يعرفه ومن ذلك قوله: (فطرة الله الذي فطر الناس عليها)، وهو النور نور المعرفة، وقوله: (ولئن سألتهم من في السماوات والأرض ليقولن الله)، ومن كان في سابق علمه أنه يؤمن أمده بالمعرفة وقذفها إليه فالتقيا وتعارفا وسطع نوراهما إلى الملك فدلا صاحبهما على ربه فاتبع القلب بصره إلى ما سطع فوحدهما بين يدي الجليل في نور القربة فعرف العبد ربه، فمن ذلك قوله تعالى: (أفمن كان على بينة ربه)، وهو نور المعرفة ويتلوه شاهد منه وهو المعرفة وإنما جمع تربته في موضع الكعبة كان في سابق علمه أن يتخذها لهم قبلة.
وأما المعرفة
فأنه سئل أفعل الله هي أم فعل العبد، قال: المعرفة هي من العْبُد والمنسوبة إليه وبها يصير محمودا عند ربه وبخلوه عنها يصير مذموما ولكن السبب الذي به يصل العْبُد إليها خمسة أشياء، وهن لسن إليه ولكن محمود عند ربه باستعمالها ومدرك ربه معرفة وبه وهن: الفهم والذهن والذكاء والحفظ والعلم، وهو ذكر الفطرة وهن من الله لعبده وليس إلى عبده منهن شيء ولكنه محمود باستعمالهن مذموم بترك استعمالهن.
وأما نور المعرفة
1 / 11
فهو من الله ربه ليس إلى العبد منه شيء وذلك أن الله ﷿ لما أراد أن يخلق آدم ﵇ خمر طينته بيده وولي تصويره نفسه وخلقه من شيئين من أدنى شيء وأخسه وهو التراب وأعلى شيء وأشرفه وأطيبه وألطفه وهو ماء الرحمة ووضع فيها شيئا أشرف الأشياء وأبهاها وأنورها أخرجه من خزان الربوبية وقده بعلم الوحدانية عليه لباس الألوهية محشو بنور الجلال والفردانية، يحكي عن رب كريم وإله عظيم وقادر لطيف ليس كمثله شيء وهو الحكيم الخبير، وهو نور المعرفة ثم وضع فيه تلك الخمسة الأشياء التي ذكرناها ثم وضع الطينة تحت عرشه أربعين خريفًا حتى تشرب فيه كل ما وصفنا وخلص إلى كل عضو وعرق ومفصل منه من قرنه إلى قدمه ثم نفخ فيه الروح حتى امتلأ منه واستقر فأخذ كل شيء في آدم حظه من نفخ الروح ومن النور الذي وصفنا ومن قربة التصوير وصنعة اليد ومن تلك الخمسة الأشياء التي وصفنا وأصابت جميع ذريته حظوظهم من ذلك كله هم في صلبه كل على حياله وحصّنه وصارت تلك الثلاثة عندهم آية لربهم ودليله عليه واستدلوا بها على ربهم إذ نالوا من التصوير وصنعة اليد القربة ونالوا من النفخ الحياة إذ كانت الحياة من حياته فحيوا به، ومن النور الذي ذكرنا وهو نور المعرفة بالرؤية بلا كيفية ولا حد وإنما رأوا ذلك بتلك الخمسة التي ذكرنا لو لم يكن تلك لم يقيموا على ذلك كله ولم يقدروا على معرفته.
أما الذهن
فيه يوصل إلى كل ما خفي عليه، وأما الفهم فبه يدرك الغيب، وأما الذكاوة فبه يستخرج المكنون بالتحقيق، وأما الحفظ فبه يحاط، وأما العلم فبه يذكر ما غاب، فباستعمال هذه عرفوا ربهم وبها فهموا عن ربهم، ووقفوا على صانعهم وحفظوا ما نالوا منه وأسماؤهم في المقادير وهم في صلب أبيهم آدم ﵇ ذلك هدي العلي العظيم العليم، فلما أخرجهم من صلبه يوم الميثاق ووضعهم على كفه ونالهم قربته واستعملوا الأشياء الخمسة دلتهم تلك القربة على هذه القربة أن كليهما من الرب الرحيم فأيقنوا به فلما كلمهم دلهم نفخ النور على أن الكلام من الذي نفخ الروح يومئذ إذ كان له عليهم بينه فيه ثم لما تجلى لهم عن وجهه الجليل سطع منه نور على وجوههم وغشيهم به دلهم ذلك النور الذي وضع في أبيهم وهو نور المعرفة على أن النور الذي غشيهم اليوم من الجليل الجميل فعرفوه ربًا واحدًا أحدًا فردًا وذلك أنه لما اتفق النوران والتقيا سطع على أعين قلوبهم النوران الربانيان دلهم على ربهم الفرد الواحد فعرفوه وأيقنوا به، ويرون ذلك كله باستعمال تلك الخمسة التي وصفنا فالعبد في استعمالهن محمود وفي تركهن مذموم على كل حال وفي كل وقت وفي كل مكان وذلك أنه إذا لم يستعملهن في كل وقت ونسي صنع ربه به وما أكرمه به من النفخ والنور والقربة يوم آدم ولم يذكرها ولم يحفظها بالفهم والذهن لم يعرف ربه يوم الميثاق إذ لم يكن عنده ما يستدل به على كلامه وقربته ونوره الذي ينالهم وهم في كفه، فالمعرفة واستعمال تلك الخمسة على العبد هو مطلوب بهن ومحاسب عليهن محمود على استعمالهن، مذموم على تركهن، ونور المعرفة من الرب ليس إلى العبد منه شيء ولا عليه ذم ولا مدح إذ كان ذلك من فعل الله بعبده وإكرامه له به فإذا استعمل العبد تلك الخمسة فإن استعملهن خرجت المعرفة فإذا استعمل المعرفة برز النور المتمكن فيها وهو نور المعرفة فالتقى النور الميثاقي الذي غشيهم وسطع من الجليل عند التجلي فتشاكلا ولك يتشابه دلًا على ربهم فاستدل العبد بما سطع يوم الميثاق بما كان عنده من النور الذي وضع في آدم يدل كل واحد منهما على نفسه أمن العبد وأيقن وعرفه ومثل ذلك مثل القدح فالنور كالنار والمعرفة كالحديد متمكن فيه النار وهو النور الأول يوم المقادير والحجر التجلي يوم الميثاق والنور متمكن فيه والقلب والفطنة المندوق فلما قدح العبد الحجر بالحديد خرج منهما النار فالتقيا على القلب فيلهما القلب فنوراه ودلاه على الله ﷿.
وأما الكافر
1 / 12
فإنه لما سطع نور الجليل على عينه يوم الميثاق وناله قربة الكف وقربة الكلام لم يكن عنده ما يستدل عليه فيعرفه تاه وتحير وذلك أنه نسي الصنع الأول فترك استعمال تلك الخمسة فصارت حديدته وهي المعرفة كأنه لا يعي ما الرحمة فيه فلم يعمل ذلك السطوع وتلاشي النار وبطل لم يقبله القلب إذ لم يجد شاهدًا على ذلك فصار مشبهًا مشتركًا، قال الله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه)، فالبينة التي هي من ربه هي النور المقاديري والشاهد الذي يتلوه من النور الميثاقي، وقال: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)، وقال: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)، ألا ترى أن العيون هذه بنورها لا تبصر شيئا حتى تؤيد بنور المدد ليلتقيا بنوريهما على الشيء فيبصر الإنسان ما أحب فنور العين نور المعرفة متمكن فيها وهو النور الذي وضع في آدم ﵇ ونور المدد النور الميثاقي من الجلال وهو نور البهاء أو السراج فما لم يلتق النوران على العين لم يبصر الإنسان الشيء فكذلك ما وصفنا ألا ترى أن إبراهيم خليل الله صلى الله عليه لما نظر إلى الكواكب والقمر والشمس قال: (هذا ربي)، فلما استعمل الخمسة الأشياء واستدل بما كان عنده فلم يتفق ولم يتشاكل نفاه، فقال: (لا أحب الآفلين)، وتبرأ من كل واحد منها، وذلك أنه لما وقع بصره على النور ظن أنه نور ربه فقال هذا ربي، فلما استدل بما كان عنده من النور المقاديري الرباني ونور الميثاقي المؤيدي واستعمل قدحه الذي ذكرنا لم يعمل شيئا وتلاشى ذلك النور في جنب ما كان عنده ولم يتشاكلا ولم يدل على ربه كما دل الأولان ولم تقبله فطنة قلبه ورآه زائلًا علم أنه ليس من ذلك النور وتبرأ منه وفرغ إلى ربه فقال: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض)، إلى آخره، وذلك من الله له ابتلاء واختيار إذ أراد أن يتخذه لنفسه خليلا ولا يتوهم عليه أنه شرك في ربه ولهذا غور بعيد لا يمكن صفته وفي قدر ما وصفنا كفاية للمستنبط العليم.
تفسير قوله ألست بربكم
قال له قائل: فقوله: ألست بربكم ما هذه الألف هاهنا، قال له وجهان: وجه باطن، ووجه ظاهر.
أما الوجه الظاهر
فهو وجه الاستفهام، والاستفهام من السائل للمسئول يصف الجواب وهو التلقين والإشارة إلى ما عند المسئول في قلبه من الموجود والمدرك والمفهوم عليه والمعلوم والموصوف كذا وجدنا في مجاري كلام العرب وإنما استفهم الرب في ذلك الوقت لأن نور المعرفة كان عندهم بالحظوظ التي أصابوا من أبيهم يوم الخلقة وقربة النفخ وقربة التصوير وصنعة اليد، فقال: (ألست بربكم) ويذكرهم ويستحفظهم ويستجلبهم الذكر من ذلك الصنع الذي صنع بهم يوم آدم ﵇ وما أكرمهم من النور ونفخ الروح وصنعة اليد ليذكروا ذلك ويستعملوا أفهامهم وأذهانهم فيبرزوا بهن نور المعرفة فيستدلوا به على ذلك فيعرفوه ويؤمنوا به ولا تكون المعرفة أبدًا دون الرؤية أو السمع أو القربة كان بديًا قبل ذلك فإذا لاقاه بعد ذلك وقد سبق منه إليه قبل ذلك من قربة أو رؤية أو لقي أو سمع أو صفة دالة عليه أو آية تشير إليه بما فيها من معنى يؤدي عنه فذكر نفسه ذلك واستعمل الذهن في إصابته والوقوف على معرفته دلَّه الذهن والفهم والحفظ عليه فعرفه فقيل عارف ولا يقال لهذا علم فهو عالم إذ قد يستفهم العالم بالشيء الجاهل فيقول ألست بعالم بالكتابة والحساب. والمستفهم لا يعلم أن المستفهم كاتب أم لا؟ ولا يستفهم العارف بالشيء غير العارف لا يقال لغير العارف ألست بالكاتب حتى يعلم أنه بها عارف فإذا كان له منه معرفة قبل ذلك به استفهمه، فقال ألست بكاتب فيقول المستفهم بلى فدلّك هذا المثال على أن بني دم قد كانوا أصابوا حظوظهم يوم الخلقة من صنعة اليد والنفخ وصار ذلك عندهم رسمًا على أعين قلوبهم فلما رأوا نوره يوم الميثاق وسمعوا كلامه ونالوا قربة كفه استنار ذلك بما كان عندهم فدلهم ذلك عليه فعرفوه فلما استفهمهم قال: ألست بربكم أي ألستم تعرفوني بالعلائم والشواهد والبينات والآيات التي عندكم قالوا بلى فقبل الله شهادتهم وإقرارهم فجعلهم عبيده من بين الخلق وصفوته ومجتباه وأحباءه وأولياءه.
وأما الوجه الباطن
1 / 13
فهو أن الألف أول الأسماء وأشرفها ومبتدؤها وأن جميع أسمائه التي تعرف وما لا تعرف إنما خرجت منها فهو محشو بجميع أسمائه وصفاته كما أن الأرضين كلها خرجت من تحت الكعبة ومدت منها من الأديم كذلك خرجت جميع أسمائه منه، والألف في الكتابة حرف منتصف من غير وصل ولا فصل لا انحراف فيه ولا اعوجاج فهو اسم الله دال بحرفيته وانتصابه واستقامته من غير انحراف ولا اعوجاج ولا تمايل على المسمّى الذي هو اسمه أنه واحدًا أحدًا صمد فرد أبد ودائم عدل تام بارئ قائم بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم وهو في التهجي واستعمال الأدوات ثلاثة أحرف ألف، ولام، وفاء ثم الألف منها ثلاثة أحرف، واللام حرفان والفاء حرفان في التهجي وفي الكتابة حرف فاللام في التهجي لام وألف وميم، والفاء فاء وياء، فمن الألف وهو الثلاثة الأحرف يخرج ثلاثة أسماء الله واللطيف والفاضل، الله من الألف واللطيف من الاللام والفاضل من الفاء، ثم تخرج من لام الألف اسمان لطيف ومجيد، اللطيف من اللام والمجيد من الميم، ثم تخرج من ميم الميم الذي خرج من لام الألف اسمان ملك ومهيمن، ثم تخرج من ميم الملك ولامه وكافة أسماء المولى والمحيي والمميت ومن ميم المهيمن وهائه ويائه وميمه الآخر ونونه خمسة أسماء المعطي من ميمه الأول والهادي من الهاء واليد من الياء والمكرم من الميم الآخر، والنون والناصر من النون فعلى هذا المثال يخرج من الألف جميع الأسماء والصفات وهو في الكتابة حرف وفي التهجي ثلاثة أحرف فقوله: (ألست بربكم)، لما أراد الله أن يأخذ عليهم الميثاق أبرز لهم هذا الألف على مثال الذي وصفنا حرفا منتصبا في صدورهم على أعين قلوبهم ثم أشار لهم إليه حتى إذا رأوه ونظروا إلى حرفيته وانتصابه واستقامته من غير انحراف ولا اعوجاج وفرديته من بين الأحرف وصموته ووقفوا على معنى ربّهم وهو في القول ثم قال: (ألست بربكم) والألف تماثله على أعين قلوبهم يشير لهم إلى وحدانية الملك ويدلهم بآياته وصفاته عليه فأجابوا ربهم ببلى واستدلوا باسمه الألف بحرفيته واستقامته ودلالته على ربهم وشهدوا له بالوحدانية وأقروا له بالربوبية وأيقنوا بالفردية وأعلموا أن الله إنما أبرز لهم هذا الاسم من بين أسمائه وصوره على أعين قلوبهم ليشهدوا به عليه ويعرفوه بالآيات التي تشير الألف بما فيه إليها ويوقنوا بالمعاني التي تؤدي الألف عنها يوقروا بالصفات التي تدلهم الألف عليها فاستدلوا بوحدانية الألف على أن المسمى الذي الألف اسمه واحدًا أحدًا واستدلوا بفرديته على أنه فرد واستدلوا بصموته على أنه صمد واستدلوا بحرفيته على أنه وتر واستدلوا ببراءته عن الوصل والفصل على ديمومته وقدمه واستدلوا ببعده عن أن يشبه الأشكال على كونه وبعده عن الكيفية ومنتهاه وحدوديته فعرفوه بالصفات والآيات والبينات معرفة بلا كيفية ولا محدودية وأقروا له بالربوبية ولأنفسهم بالعبودية فأجابوه بثلاثة أحرف وهو الباء واللام والياء فقالوا بلي فرضي عنهم وقبل منهم وجعلهم في كنفه ثم صبّ عليهم النور وأشهدهم على أنفسهم وأشهد الملائكة بذلك عليهم وكفى بالله شهيدًا ولهذا غور بعيد لا يمكن استفراغه ولا استفحاصه ولكن في قدر ما وصفنا كفاية وهداية لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وإنما أجابوه ببلى ولم يجيبوه بنعم، وبلى ثلاثة أحرف ونعم أيضًا كمثله ثلاثة أحرف لأن في بلى ما ليس في نعم وما في نعم ما ليس في بلى وإن كانا من الحروف سواء ولأن نعم ليس لها عند الاستفهام موضع ولا معنى لأنه ليس في حروف نعم ويكون جوابًا للاستفهام ولهذا غور بعيد لا يمكن وصفه ولكن سنشرح منه شيئًا لتفهموه، إن الباء اسم يخرج منه اسم البرَّ والبرِّ والرب واحد في القلب فلما قال الله يوم الميثاق: (ألست بربكم)؟ نظروا فقالوا إن لله أسماء كثيرة وإنما استقررنا من بين أسمائه باسمه الرب والرب من البر والبر مخرجه من الباء، والباء حرفان باء وألف فإنما يريد ربنا أن نقرّ له باسمه البر ونجيبه به، والباء الذي في أوله باء الإضافة، والثاني اسمه البر والبر من البار وفي البار الألف وهو اسمه الأول فأقروا له به وأجابوه باسم هو في الحرف حرفان باء وراء والألف فيما بينهما مندمج لا يبرز إلا في وقت تهجي الباء ليكون إقرارهم له باسمه الله وجوابهم له بحرف يوافق حرفه الأول الذي ابتدأ به أول
1 / 14
كلامه في قوله بربكم الباء الذي قبل الراء وذلك أنهم نظروا فقالوا لم نقل ربنا ألست بخالقكم ولا رازقكم ولا مولكم ولا إلهكم فإن له أسماء كثيرة ما تعني ربنا في استقرارنا بهذا الاسم وهو الربّ فتبين لهم أنهم إذا أجابوه بالباء دخل فيه أشرف الأسماء وأولها وهو الألف مع ما وافقوا في جوابهم له بباريهم الذي ابتدأوا جوابهم من قول الربّ بربكم وقولهم بلى فجعلوا مفتتح الجواب بمفتتح الاسم الذي استقر ربهم واستفهمهم به ليتفق الباطن من الكلام من قوله بربكم بلى فوافقوا في الجواب بابتداء الباء ببائه وهو باء البر لا باء الإضافة ووافقوا في المعنى الذي أراد أن يقروا له من جميع أسمائه بألف الإله على ما أشار إليه ومثّل لهم بديًا فالباء هاهنا قالب الألف وهو المعنى ما في القلب لا في القالب فقوله باء إنما هو ألف فالمعنى ما في القالب والمشار إليه والقالب الاستعمال ألا ترى إلى حروف أبجد إنما ابتدأوا أول حروفه بالألف ثم الباء فقالوا أب نجد الألف منه معنى اسمه الله والباء معنى قولهم بلى وإلى حروفها الثمانية والعشرين ألف باء تاء ثاء وإنما جمعوا بين الألف والباء هاهنا وجعلوا مفتتحه بالألف وتاليه الباء لأنهم لم يكتفوا بالألف المندمج للعامة عند الاستعمال فقبلوه وجعلوا مفتتح كلامهم ألفًا مندمجًا وجعلوا تاليه الباء كما هو في الأصل لأنهم علموا أن المبتغى الألف والباء للاستعمال فأبرزوا ما كان مندمجًا وجعلوه مفتتح الكلام وجعلوا التالي الباء فقالوا أب وقالوا ألف وباء ولو تركوه على ما كان سبيله أن يقال هنا بباء باء البر وباء بلى والألف مندمج فيما بينهما ولكنهم علموا أنهم إذ قالوا ألف دخل فيه كل اسم ثم إذا قالوا باء كان قد دخل الباء مرة من الألف ومرة الآن فهذان باءان ومبتدأهما الألف فترجموا إحدى الباءين وهو الذي من الألف مندمج فيه وتركوا الباء الآخر المبرز على حاله تاليًا للألف علامة ورسمًا على القلوب ليوم الميثاق وجوابهم ربهم ببلى، فاسم آدم ﵇ ما لي أراه ألفًا والدال تاليه وليس تالي اسمه الباء وهو أبُ البشر، قال: له اسمان، أحدهما اسم الخلقة، والآخر اسم الفعل، أما اسم الفعل فإنه أبُ البشر ففيه ألف والباء تاليه، وأما اسم الخلقة، فهو آدم الألف مبدأه والدال تاليه لأنه لم يوجد عليه الميثاق يوم الميثاق ولم يستفهم وإنما عفي عنه لأنه كان مصوّر يده قد شاهد القربة ونال نور الجلال وأبدل مكان الميثاق عرض الأمانة فجعل مبتدأ اسمه الألف علامة لمعنى اسمه الله، والدال علامة الخلقة، أنه خلق من أديم الأرض ونما خلق من الأرض لأن الله كان عالمًا به أنه إن خلقه من نوره وبهائه اغتر وتجبر باتفاق النور "ومال إلى الزهو" والعوز والقربة وغلبا عليه فأهلكاه. ألا ترى إلى إبليس كيف تجبر واستكبر بأصل خلقته وهو نار العزّ على آدم في سجوده حتى كفر، وكيف مارى آدم في الخلقة فقال: (خلقتني من نار وخلقته من طين) فعطف الله علينا بني آدم إذ خلق أبانا آدم من التراب وعصمنا من دواهي أنفسنا وخلصنا من المهالك برأفته وليست تجري أسماء ذريته على هذا السبيل إنما ذلك سبيل آخر وسبيل مجرى الأسماء أسماء الخلق ومدارها على نحو آخر وهو ما يخرج من أفعالهم وأخلاقهم وطبائعهم وتصرفهم من حال إلى حال وأما الموضع الذي يجعل تالي الألف واللام فهو سبيل مجرى الكلام وهو على نحو ما ذكرنا بديًا أن الألف اسم من أسمائه وأول الأسماء وأشرفها وهو الدال على صانع الخلق وخالقهم فالألف ألف المعرفة واللام علم المعرفة ولا تكون المعرفة دالة مع علمها إلا فيما وصفنا بديًا في يوم الميثاق فإن الله أخرج الألف يومئذ بغير علمها وهو قوله: (ألست بربكم) وكان سبيله مع العلم أن يقول أل الألف مع اللام ليكون بروزه مع العلم ثم يقول لست بربكم فإن اللام التي في قوله لست ليست بلام علم المعرفة وإنما هي لام لست نكرة لأن لام لست ليست زائدة كألف كلام الله فالألف مع اللام معرفة مع العلم كقولك الدار والرجل فالألف اسم يدلك ما فيه على المسمى واللام علمها وهو المصدق لها، والنكرة أن تقول رَجُلٌ ودار ليس فيها معرفة ولا علم وهو اسم مصمت وإنما أخرج الله يومئذ الألف وحده من غير علم لأنه أحب أن يعرفوه ربا ويقروا به غيبًا من غير علامة يرون أو إشارة يبصرون سوى الذي في الألف فإن في حشوه
1 / 16
منن الدلائل والعلائم والبينات والدلالات ما يحملهم على وحدانيته ويدلهم على فردانيته من غير علم المعرفة فأخرج الألف دالًا بصفاته عليه من غير لام كالنكرة وليست بنكرة إنما هي معرفة بلا علم ليكون معرفته به وإقرارهم به غيبًا كما دعاهم إليه غيبًا فيمدحهم ويثني عليهم ويباهي بهم خلقه الآخرين، وقال: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) .ل والعلائم والبينات والدلالات ما يحملهم على وحدانيته ويدلهم على فردانيته من غير علم المعرفة فأخرج الألف دالًا بصفاته عليه من غير لام كالنكرة وليست بنكرة إنما هي معرفة بلا علم ليكون معرفته به وإقرارهم به غيبًا كما دعاهم إليه غيبًا فيمدحهم ويثني عليهم ويباهي بهم خلقه الآخرين، وقال: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب) .
فقال له قائل، فقوله: "هو آية كلمة هي وما في حشوها فإني أسمع الله يشهد وملائكته وأُولي العلم على أنه هو وقال في سورة الإخلاص قل يا محمد (هو الله أحد) "، وقال في آخر الحشر (هو الله الذي لا إله إلا هو) ثم قال في موضع آخر: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) وقال في آية أخرى: (لا إله إلا أنا فاعبدوني)، قال هيهات هيهات أن يكون لهذا العلم في إهابك مساغ، فإن هذا علم جليل دقيق، ولكن سنذكر منه شيئًا لتستدل به على ما تريد قوله هو، فإن هو كلمة محشوة في صفاته الإلهية والفردية والجلالة والملك والعزة والقدرة والسلطان والجبروت وهو حرفان هاء، وواو، فالهاء منها الهداية، إن الله وهو الهادي، والواو الوله لأن الوله لا يجوز ولا يستحق إلا الله فمستقر جميع الصفات الآتية والأسماء الرفيقة في الهاء، والواصف لها، والدليل مما فيه الخلق والمشير إليها والمعبر عنها، والمؤدي عن معناها بكنهة الألف لا ترى أنه لما قال: (قل هو)، لم يَدُل على صفاته حتى قال: الله، فأبرز الألف، ثم قال: (أحد) ثم قال: (الله)، فأبرز الألف، ثم قال: (الصمد)، فأبرز الألف قبل الصفات أولا ترى إلى قوله: (هو الله الذي لا إله إلا هو)، فسكت ثم قال: (الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر)، ثم قال: (هو الله الخالق البارئ)، لم يكتفي بهو في تلك المواضع حتى ذكر بعده الله، ثم وصف فهو كلمة لا ينطبق بما فيها ولا تدل ولا تشير ولا تصف وهو محشو بها، فالألف المعبر عنها بما فيها وهي في الكتابة حرف الألف لا تظهر ألاَّ عند القراءة والتهجي، وأما الواو الذي يتلوه فهو الاسم وله الخلق إليه وإلهية الملك بوحدانيته، فالرب تعالى لما دعا الخلق إليه في المقادير ووصف نفسه وصف بهو لأن فيه علم الغيب، ودعاهم إليه به، فقال: (شهد الله أنه لا إله إلا هو)، ولما دعاهم إليه يوم الميثاق دعاهم إليَّ أنا فقال: (لا إله إلاّ أنا فاعبدون)، هذا إقرار ومر أن يعبدوه في الجملة ولما دعاهم إلى عبادته ودعاته دعاهم إلى اسمه الله فقال: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك)، وقال: (إنني أنا الله لا إله إلاَّ أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري)، فقوله: (هو)، اسم لا ينطبق ولا يدل، وقوله: (أنا)؛ اسم مضمر فيه اسمه الله، وقوله: الله؛ اسم واضح دال الوصف. قيل له: اسمه إبليس، أوله ألف وتاليه الباء، ما معناه، قال: ذاك ليس من هذا المعنى في شيء ذاك اسم سماه الله به يوم أبى عليه بالسجود لآدم ﵇ أخرجه من فعله، وأما اسمه الذي هو اسمه فهو غزازيل فهذا اسم الخلق في البدأ، وذاك اسم سماه الله به من فعله الذي بدا منه.
فأما تفسير اسمه عزازيل
فإن العزاز العبد، والآيل الرب، والعزاز مأخوذ من العزة، وذلك أنه خلق من نار العزة، والعزة ثلاثة أحرف، والعزاز: أربعة أحرف وكل حرف منها يدل على فعله إذ كانت الأسماء تدل على الأفعال، وهو العين والزاي والألف والزاي الآخر فمن العين خرج علوه ومن الزاي خرج زهوه ومن الألف خرج إباءه واستكباره وأما الزاي الآخر فهو ركن الكلام وعقبة لإتمام القالب في العربية كقوله: الرحمن، وسبحان وأما المبتغى منه السبح والرحم، وأما أن منهما فهو القالب على مجرى فعلان فهذا تفسير اسمه عزازيل.
وأما تفسير اسمه إبليس
1 / 17
فإنه خمسة أحرف كل حرف منها يدل على فعله الذي هو فيه ويبدو منه وهو الألف والباء واللام والياء والسين، فأما الألف فإنه ألف الإباء والاستكبار إذ كان إباءه من الاستكبار، كما قال: (أبى واستكبر وكان من الكافرين) فإباؤه من الاستكبار واستكباره من الكفر. وأما الباء فإنه بالبراءة حيث برأ من ربه بتركه السجود، وأما اللام فأنه لام لم، وأما الياء فإنه ياء لم يكن، يقول لم يكن، وأما السين فإنه سين السجود فإذا جمعت الحروف كلها أدى المعنى على أنه أبيَّ على ربه واستكبر ولم يكن من الساجدين لآدم ﵇ مع الملائكة، قال الله تعالى: (إلا إبليس لم يكن من الساجدين)، قيل له فاسم إبراهيم ﵇ أخرج أيضا مبتدؤه الألف ثم الباء.
اشرح لنا منه شيئًا قال: أما تفسير اسم إبراهيم فإن كل حرف منه اسمه دليل على فعله الذي كان من مندمجًا فيه منكمنًا كالنار في الحديدة وعلى ما أخرج منه يوم الابتلاء والاختبار، فأما الألف فإنه ألف الإسلام، حيث قال الله له: (اسلم)، قال: (أسلمت لرب العالمين) . وشهد الله له ذلك ولابنه إسحاق.
فقال (فلما أسلما وتله للجبين)، ويحتمل أن يكون ألف الإخلاص أنه كان مخلصًا ويحتمل أن يكون الألف ألف الإيمان إذ شهد بذلك فقال: (إنه من عبادنا المؤمنين)، ويحتمل أن يكون على ما ذكرنا بديًا من أن الألف اسم الله والباء علامة جوابهم بلى وكل حسن، وأما الباء على التفسير الذي ذكرنا إن الألف ألف الإسلام فإنه باء البراءة حيث قال: (إني بريء منكم ومما تعبدون من دون الله)، ثم قال: (أنا براء منكم ومما تعبدون من دون الله)، وأما الراء فإنه راء الرؤيا حيث قال: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى)، وأما الهاء فإنه هاء الهم، وأما الباء فإنه باء التصديق فإذا جمعت من الحروف صار كلامًا وأدى المعنى المبتغى منه في القول أنه أسلم لربه فيما رأى في الرؤيا وهم أن يصدق رؤياه بذبحه ابنه فاكتفى الله بهمه وعفا عنه ورضي عنه وفداه بكبش، وأما الميم الذي يعقبه فإنه ميم مه حيث هم بذبحه قال الله جل وعز "مه" فسماه الله بذلك الاسم ولم يظهر بعد منه هذه الأفعال لعلمه به وما يبدو منه بعد ذلك.
قيل له فاسم فرعون: أحببنا أن تشرح لنا منه شيئًا ليكون لنا فائدة؛ قال: أما تفسير اسم فرعون فإنه له اسمين: أحدهما الوليد، والآخر فرعون، وكان يدل على فعله وسوء سيرته الذي منه بدا.
فأما الوليد فإنه أربعة أحرف: واو، ولام، وياء، ودال، فالواو واو الويل، واللام لام اللعنة، والياء ياء اليوم، والدال دال الدين فإذا جمعت بينهما أبدى المعنى على أن عليه الويل واللعن يوم الدين، فهذا اسم قد سماه الله به وحشوه ما يصل إليه في الآخرة مندمج منكمن فيه في الويل واللعن.
وأما الاسم الآخر فهو فرعون فهو خمسة أحرف: وهو الفاء والراء والعين والواو والنون؛ فالفاء فاء الفراق والتفريق والراء راء الركوب والركون، والعين عين العلو، والواو واو الويل، والنون نون النار، فإذا جمعت بين حروفه الخمسة أبدى عن المعنى على أنه حيث ملك فارق دينه، وفرق بين بني إسرائيل، وركن إلى الأرض وركب هواه وعلا كما قال الله: (إن فرعون علا في الأرض)، وكما قال: (وإن فرعون لعال في الأرض)، وكما قال بنفسه وادعى الربوبية: (أنا ربكم الأعلى) فهذا ما بدا منه في الدنيا، وأما الواو والنون فله الويل والنار يوم القيامة في خزي وهوان أبد الآبدين.
قيل له فتفسير لا إله إلاَّ الله وترجمته: إن وفق الله لك أن تذكر لنا منه شيئًا شكرنا الله لك بالسداد والرشد، قال فأما تفسير لا إله إلاَّ الله، فإنها في الحروف عشرة أحرف لا آن وهاءان وثلاثة ألفات وثلاثة لامات، فأما إله فثلاثة أحرف؛ والاسم منها في الألف وهو الاسم المنحول المستعار للأصنام مأخوذ من اسم ربنا الله اختلافًا واستراقًا، وأما الله فهو أربعة أحرف؛ والاسم منها في الألف، فالألفان اسمان: أحدهما محق بالتحقيق؛ وهو الله اسم لربنا ﷿ والآخر مستعار مسترق منحول مختلف والهاءان علما إلوهيته إلى المنسوب إليه بالألف وهو اسم في قوله: (إله)، وقوله: (الله) وأحدهما التحقيق والآخر مستعار كما ذكرنا.
1 / 18
فإذا قلت لا إله إلاَّ الله فلا الثاني، لألف الإله، لأن الاسم المستعار فيه وهو اسم الصّنم، وإذا قلت إلاَّ الله، فألف إلاَّ هو المثبت لألف الله لأن السم المستحب فيه وهو اسم ربنا جل وعزّ، وأما لا فهو عماد الألف هاهنا؛ لأن الألف لا يمكن عبارته باللسان دون اللام إذ هو علمه فكذلك اللام لا يمكن استعماله إلاَّ مع الألف وإن استعمل دون الألف ذهب المعنى، وتلاشى المراد، وبطل المبتغى، وصار كلامًا آخر يؤدي إلى معنى آخر، ولأن الكلام التام عند العرب لا يكون من ثلاثة أحرف إلا في أحرف قليلة منها قول الله: (كن)، وهو حرفان خرج منهما الملك والملكوت وشأن الدارين، وأمر الآخرة، وذلك تقدير من العزيز العليم، أخرجه من خزائن الربوبية فقوله كن؛ نما هو في الأصل حرف والنون قائمته، فلو قال ربنا لما شاء أن قال: كن من غير نون كان ما شاء، ولكن أحب أن يخرجه مع القائمة ليفهم خلقه كلامه ومعناه في تنزيله في شرائعهم على لغاتهم وألفاظهم ليكون أيسر على ألسنتهم وأفهم للسامع على المراد ألا ترى إلى بعض رؤوس السور المبهمة كيف تاه الناس فيها، وكيف اختلفوا في تفسيرها وهن "الطَّواسين والحواميم والميمات" وغيرها، وهن ثلاثة أحرف، وأكثر فلولًا إنهم تاهوا فيها إذن لهم أتوب في قوله: طس ويس ونون وقاف، وكل حرف منها محشو بمعان وصفات وكل إنما هو بعض من كلام، كما قالوا إن ألف لام ميم، فالألف منها اسم ربنا الله والله اسمه اللطف والميم اسمه الملك فانظر كم حرف اللطيف، وكم حرف الملك، وكم حرف الله، وكم حرف الألف من الله، وكم حرف اللام من اللطيف، وكم حرف الميم من الملك، وقد قال بعض المفسرين إن الألف إلا الله وإن اللام لطف الله، وأن الميم ملك الله، ويقال أيضًا أن الألف اسم الله وأن اللام اسم جبريل، وأن الميم اسم محمد ﷺ، فقوله (كن) هو حرف كقوله نون وقوله كاف والنون قائمته ليكون للسامع أفهم وللقائل أيسر وأشبع في الكلام وأتم في القالب، فلا كلمة نفي ولا كلمة إثبات ولا يكون الإثبات إلا بالألف ويكون النفي بغير الألف، لأن الألف في لام مضمر مندمج فيه، فإذا قلت لا علمت أنه لام وألف، وإذا قلت إلا علمت أنه لام وألفان أحدهما قبل لا والآخر بعد لا، ولا في الكتابة له فرعان من أصل واحد وفي الكلام لا تظهر إلا في فتحة اللام ومدَّته، فاكتفى الله بنفي كل معبود دونه بحرف لا لأنه وإن كان حرفًا واحدًا في الكتابة فإنه حرفان في الأصل لام وألف، والفرعان اللذان فيه يدلان على ذلك، وإن خفي على الناس معرفة ذلك والألف أشرف أسمائه وأعزها فاكتفى به في النّفي وإن كان مضمرًا فإن له سلطانًا ينفي وحدة اسم كل معبود سموا باسمه الله اختلافا واستراقًا وانتحالًا واستعارة، ولم يكتفي به عند الإثبات حتى أبرز ألف إلاّ سوى الألف الذي في لا وترك اللف الذي في الأعلى حال تأكيد وتثبيت، فقال عند النفي لا حرف واحد وهو اللام وفيه الألف المضمر، وقال عند الإثبات ألاَّ فترك لا على حالة وأبرز ألفًا آخر قبله ليكون حرفان ظاهران؛ ألف، ولام سوى الألف الذي في لا لئلا يكون إثباته بحرف واحد كما إن النفي بحرف واحد فيشبه الإثبات النفي في قوله (لا) فميز افثبات من النفي بالألف الذي أبرز قبل لا.
وأما ترجمة لا إله إلاّ الله
1 / 19
فليس على ما ذهب إليه العامة، ولا على ما فسره المفسرون، ولا على ما ترجمه المترجمون، وقد غلطوا في ترجمته وتفسيره وقصدوا غير سبيله، وشرحوا الظاهر وكتموا الباطن وما في حشوه، وذلك أنهم ترجموا قوله لا بالأعجمية ميست وهو خطأ بيِّن، وكيف يشبه لإبليس، أم كيف يشبه نه بالأعجمية نيست؟ ولو كان كما ذهب إليه الناس من قولهم: لا إله: نيست خداي، لكان ليس إله على قياس قولهم، ولكنهم بالخطأ يتكلمون وبالمحال يترجمون، وإلههم ينفون لا الإله، وسنبين لك خطأ قولهم ومحال ترجمتهم لتفهمه، وتكون على علم منه إن شاء الله والتوفيق بالله، إن لا كلمة نفي وتبرئة أبرزها الجليل لينفي بها كل معبود دونه عن أن يكون مثله، وتنزه بها ربك عن أن يكون له شبيه أو يكون له في ملكه شريك أو ولد كما زعم الكفار والمشركون وكفرة أهل الكتاب، والنفي والتبرئة هو التسبيح والتنزيه، وأما ليس فهي كلمة جحود وإنكار، وليس للإنكار والجحود هاهنا معنى ولا موضع، إنما هاهنا موضع النفي والتبرئة؛ وهما التنزيه والتسبيح، وقد دعا الله ﷾ الخلق إليهما، وبهما أمر لا إلى الجحود والإنكار وذلك أن القوم لم يكونوا ينكرون أو يجحدون أن ليس في السماء إله، ولكنهم يزعمون أن له ولدا يشبهه وهو عيسى، وإن له شريكًا في ملكه وهو هذه الأصنام، وإنه قد اتخذ صاحبة وهي مريم وإنه اصطفى البنات على البنين؛ وهن الملائكة، وأن الشمس والقمر والشجر والكواكب له شركاء في ملكه، وقد قال تعالى في كتابه يحكي عن قولهم (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)؛ فدعا الله خلقه إلى أن ينفوا عنه مقالاتهم الرجسة، وينزهوه عن ذلك كله، وأن ينفوا الآلهة التي اتخذوها من دون الله، ويوحدوه بوحدانيته في ربوبيته، فإذا قال العبد: لا إله، وزعم أن ترجمته ليس إله فإنما أنكر الإله المستحق وله جحد، وهو الربّ تبارك اسمه "لا اسمه المستعار وهو الصنم" لأن الاسم المستعار للصنم من اسم ربنا وهو الإله لا يدخل في قوله: ليس، إنما يدخل الاسم المستحق وهو اسم الرب لأن الجحود إنما يقع المستحق نصًا، لا على المستعار المنحول، وإنما يقع النفي على المستعار والمنحول، ألا ترى أنك إذا قلت ليس إله فقد جحدت اسم الإله الذي هو إله، وإذا قلت لا إله فقد نفيت اسم الإله المستعار المنحول؛ لأن الله تعالى دعاك أن توحده وتنفي ما دونه مما تسمى باسمه الله، وزعموا أنه إله دونه، وتنزهه وتبرئه عن أن يكون دونه أحد أو معه في ملكه أحد، فأطلق لسانك على أ، تقول لا إله وهو بالأعجمية "نه خدايست" هذا الذي تزعمون أنه إله دون إلهي وقد سميتموه باسم الله، ثم تقول إلاَّ الله، وبالأعجمية "جزاز خداي" الذي له اسم الإله المستحق فإذا قلت ذلك فقد أجبتهم به، ورددت عليهم قولهم، وما سمّوا به أصنامهم، ونفيت اسم إلهك عنه، ونزهت ربك عن كل ما أشركوا فيه، وبرأته عن أن يكون في ملكه ما يشبهه، وأثبته ملكًا فردًا ووحدته أحدًا صمدًا، وسبحته بما هو أهل، وأصبت معنى الله بقولك في الرد عليهم وعلى مقالاتهم الرجسة وناضحت عن ربك، وانتقمت منهم نقمة ربك، ولاشيت أقوالهم، وأبطلت حججهم، ودمرت عليهم تدميرًا، ونصرت اسم ربك وقدسته من أقذارهم وفككت أسرته، وإذا قلت لا وزعمت أن ترجمته ليس لم يكن لهم في قولك جواب، وتلاشى كلامك وبطل المعنى، وصار النفي غير ذلك، لأن المعنى في كلامك يؤدي هاهنا على خلاف ما في الضمير، لأن معناك من قولك هذا على النفي وإثبات الرب، وقولك على لسانك يؤدي نفي اسم الله لا اسم الصنم، فكيف يغني عنك لو أنك تقول هات كوزًا من ماء وفي ضميرك معنى الخبز، وإن أردت أن يظهر لك قبح تلك الترجمة وفحشها، ورشد ترجمته وحسنها، وإصابة المعنى في التمييز بينهما، مثلت لك لتدركه، فإن هذا حرف لطيف لا يدرك ما قلنا ولا يفهمه إلاَّ من دقق النظر، وكان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أرأيت لو أن لك فرسًا ولرجل حمار قد سماه فرسًا أتاك فقال هذا فرسي كفرسك ما كنت تقول له: إن قلت له ليس بفرس نفيت فرسك، وجحدت أن يكون فرسك فرسًا لا حمارًا لأن فرسه حمار ومتسمِّي باسم فرسك؛ ولو قلت ليس بحمار كذبت لأنه حمار وليس فرسًا. قيل اشرح لنا كيف سبيله، قال: إن قلت ليس فرس إلاَّ الفرس لم يكن كلامًا لأنك قد نفيت الفرس الذي هو فرسي وجحدته قبل أن تثبته وقبل أن تنفي
1 / 20
فرسهسه إذ أنه ليس بفرس، ألا ترى أنك حين قلت ليس فرسًا نفيت فرسك لأنه هو الفرس، ولم تقع كلمتك ونفيك على الحمار لأنك قلت ليس فرسًا ولم تقل ليس حمارًا، وإنما هو حمار وإن قلت ليس حمارًا لم يكن كلامًا لأنك كذبت في قولك ليس حمارًا، فإذا قلت لا فرس فقد رددت عليه ما جاء به من الاسم المستعار من فرسك على حماره، ثم قلت ألا الفرس، فأثبت اسم فرسك المستحق على فرسك الذي هو اسمه، وكقول رجل للفلس هذا دينار فإذا قلت ليس دينارًا نفيت الدينار لا الفلس، لأن الفلس فلسًا إنما سمي دينارًا، وإذا قلت إلاَّ الدينار، أثبت الدينار الذي هو دينار. إذ أنه ليس بفرس، ألا ترى أنك حين قلت ليس فرسًا نفيت فرسك لأنه هو الفرس، ولم تقع كلمتك ونفيك على الحمار لأنك قلت ليس فرسًا ولم تقل ليس حمارًا، وإنما هو حمار وإن قلت ليس حمارًا لم يكن كلامًا لأنك كذبت في قولك ليس حمارًا، فإذا قلت لا فرس فقد رددت عليه ما جاء به من الاسم المستعار من فرسك على حماره، ثم قلت ألا الفرس، فأثبت اسم فرسك المستحق على فرسك الذي هو اسمه، وكقول رجل للفلس هذا دينار فإذا قلت ليس دينارًا نفيت الدينار لا الفلس، لأن الفلس فلسًا إنما سمي دينارًا، وإذا قلت إلاَّ الدينار، أثبت الدينار الذي هو دينار.
تفسير قوله: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح)
1 / 21