لم تخطئ باكيتا فيما روته عن ثروة هذا الأمير الروسي، فقد كان له على حدود آسيا من الأراضي ما تبلغ مساحته مساحة مملكة ...
وكانت أمه قالت له حين أرسلته إلى باريس: اذهب بحراسة الله إلى عاصمة العواصم، وافعل كل ما يوحيه إليك الشباب، وأنفق ما تشاء من غير حساب، فإنك مهما أسرفت لا تنفق إلا القليل من ريع ثروتك. وقد قالت له هذا القول؛ لأنها كانت من ذلك العنصر الروسي القديم الذي أخذ تقاليده وتعاليمه من عهد الإمبراطورة كاترين العظيمة، فقد كانوا يعتقدون أن الشريف لا يصير من أهل الدربة والسياسة إلا إذا استرسل في صباه إلى ملاذ الشباب، واندفع مع تيار ملاهيه، غير أن هذه الأميرة كانت فراستها مخطئة في ولدها، فقد كان شديد الرزانة على حداثة سنه، كثير الميل إلى الفنون الجميلة، شديد التعلق بأصحابها إذ كان منهم، فقد كان شاعرا موسيقيا.
وهو في باريس منذ عامين لم يقل أحد عنه كلمة سوء، وقد اشتهر بميله إلى الرسوم والتماثيل، حتى إنه إذا عرض شيء منها للبيع كان في مقدمة الشارين.
وقد اتفق مرة أن دوقا عرض أمتعته للبيع، وبينها صورة من خير ما جادت به قرائح المصورين، فذهب لشرائها وزاحمه عليها أحد المولعين بالرسوم، فجعل يزيد في ثمنها حتى امتنع الرجل عن شرائها والدموع تجول في عينيه لعجزه، وقد سأل البرنس عنه فقيل له: إنه رجل أنفق كل ثروته على شراء الرسوم المتقنة لشدة ولوعه بها، فأرسل إليه الصورة في اليوم التالي وكتب عليها: «تذكار من البرنس ماروبولوف إلى فلان.» فاشتهرت هذه الحادثة في باريس، وجعل الناس يتحدثون بكرم الأمير.
وقد قلنا: إنه كان موسيقيا، فكان يختلف إلى مراسح الغناء، حتى استقر على المرسح الذي تغني فيه باكيتا، واستمر يسمع صوتها الرخيم مدة ستة أشهر، ويفرغ كل ما عنده من الجهد في سبيل التعرف بها فلا يجد إلى ذلك سبيلا؛ لأنها كانت تقصي عنها جميع عشاق صوتها، وكان آخر ما فعلته أنها أرجعت إليه رسائله دون أن تفتحها، فتأمل مقدار دهشته حين استوقفته في الطريق، وسلمت عليه دون كلفة، ودعته إلى زيارتها.
وقد كان اضطرابه عظيما حتى إنه عاد من فوره إلى منزله وهو شبه المجانين، فأقام فيه إلى المساء ورأسه بين يديه يفكر في حل هذا اللغز، فلا يجد له حلا إلا أن هذه الحسناء قد مالت إليه بعد ذلك الجفاء.
وفي المساء تأنق في ملابسه، وذهب إلى النادي كي يقضي الوقت بين أصحابه إلى الساعة العاشرة، فأجفل أصحابه لما رأوه من اصفراره، وسأله واحد منهم عما أصابه فقال له: إني أسائل نفسي منذ هذا الصباح إذا كانت السعادة تقتل صاحبها.
فأجابه المركيز دي شاومري قائلا: إنك أدرى الناس بأسرار السعادة، فإنك أغنى رجل في أوروبا.
وأقام بين أصحابه إلى الساعة العاشرة، ثم ركب مركبته وذهب إلى باكيتا، فوجدها في قاعة جميلة لا ينيرها غير مصباح واحد، وكل ما رآه كان يدل على أنها لم تكن تنتظر سواه، فأجلسته بإزائها وقالت له: كم لك من العمر أيها البرنس؟ - سبعة وعشرون عاما.
قالت: أما أنا فإني أزيدك بعام، ويحق لي أن أسديك نصيحة؛ فاضطرب وقال لها: بماذا تنصحينني؟
Shafi da ba'a sani ba