فالتفت فرأيت حنا البستاني وهو يناهز الأربعين من العمر، وله وجه جميل غير أن الجنون ذهب بجماله.
وقد تقدم من ولده وهو يهدده بقبضتيه، ويقول: لقد أصبحت الآن بهلوانا أيها الشقي، فلو رآك أبوك الكونت على هذه الحال لقال ما يقوله جميع الناس أنك ابن بستاني، ولما صدق أنك فيكونت ابن كونت، وهجم عليه يريد ضربه، ولكن كوكليش حال دون قصده، فنظر إليه حنا وقال: أأنت هو مدير الجوق؟ قال: نعم.
قال: إذا كان الأمر كذلك، فإني أبيعك هذا الغلام، فتعلمه صناعتك، وتربح منه ربحا طائلا. فاشمأز كوكليش من هذا الاقتراح، وقال له: لست من الذين يسرقون، وليس هذا الغلام بسلعة فيباع ويشترى، فاذهب من هنا أيها الشقي، واعلم أنك إذا ضربت ولدك بعد الآن شكوتك إلى الحكام.
أما الغلام فإنه طوق عنقي بذراعيه وقال لي: لماذا لا يريد أبوك أن يشتريني؟ فإني أسير معك بملء الرضى والسرور إلى حيث تذهبين، فقلت له: إن ذلك لا يجيزه الشرع، فابق هنا سيحميك شيخ القرية، وعسى أن يقدر الله لنا اللقاء.
وقد سافرنا في اليوم التالي، ولكننا ما اجتزنا بضع مراحل حتى رأيت غلاما يسير راكضا إلينا، فخفق قلبي، وقلت لرفاقي: هذا هو المنحوس قد أدركنا، ولما وصل إلينا جعل يقبلني ويقول: لقد قدر الله لنا اللقاء كما قلت، وإني لا أفارقك بعد الآن.
وكانت يده اليسرى مربوطة إلى صدره بمنديل، فقلت له: ما أصاب يديك؟ قال: فقد ضربني أبي فكسرها.
وقد كان جوقنا فقيرا لا يستطيع القيام بأود الغلام، فاختلفت الآراء فيه، وقاموا ينوون إرجاعه إلى القرية، غير أني تعهدت بتعليمه وتدريبه على مهنتنا، فرضوا بعد أخذ ورد أن يكون معنا، وسافر وإيانا، فلم يمر به شهر حتى تمرن، وبات عضوا عاملا في الجوق. •••
مضى على ذلك ستة أعوام فترعرع الغلام حتى كاد يبلغ مبالغ الشباب، وكبرت أنا، فباتوا يحسبونني من جميلات النساء، فقد كنت في الثامنة عشرة من عمري، وكان هو في الرابعة عشرة.
وقد ارتقينا في المهنة حتى صرنا من الممثلين، وعرف مدير الجوقة رخامة صوتي، فكنت أغني في فترات الفصول أناشيد، كان يطرب لها الحضور، ويأتون في كل ليلة لسماعها.
فبينما كنت أغني ذات ليلة، دخل دار التمثيل فتى جميل الطلعة حسن الهندام، يدل كل ما فيه على أنه من طبقة أرقى من طبقة الحاضرين، ولست أدري أهو صوتي أم هو جمالي الذي جذبه إلى حضور تمثيلنا دون تمثيل الأجواق الشهيرة، ولكني أعلم أنه كان ينظر إلي نظرات منكرة، فلما انتهيت من الغناء دخلت في المكان الخاص بالممثلين، وتواريت عن أنظاره بين الكواليس، غير أنه لم يحفل باحتجابي، فاخترق صفوف الناس ودخل إلي.
Shafi da ba'a sani ba