ومن طرائف ما حدث لنا من ذلك، ونحن ندرس «الإنشاء» في إحدى المدارس الثانوية أن تلميذا نقل في موضوعه عدة أسطر من الشواهد الفلسفية نسبها إلى الشاعر ملتون الإنجليزي، واتفق في ذلك الحين أنني كنت معنيا بمعارضة قصائد ملتون على رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وكنت أعيد النظر في كل ما كتب ملتون من المنظوم والمنثور، ولم يكن الكلام الذي نسبه التلميذ إلى ملتون مما يناسب أقوال هذا الشاعر وموضعاته، ولم أذكر أنني رأيت له كلاما مثله، فلما حققت الأمر علمت أن التلميذ قد جرى على هذه العادة للتهويل على أساتذة اللغة العربية الذين لا يعرفون لغة أجنبية، وأن التلميذ رأى أمامه مدرسا عربيا، فلم يخطر له أنه يعرف لغة غير العربية، ولم يخطر له بطبيعة الحال أن ملتون كان موضوع قراءته الوحيدة على وجه التقريب في ذلك الحين، فادعى ما ادعاه وهو يحسب أنه في أمان، وأنه على ثقة من زيادة درجة أو درجتين.
ولما سألته على مسمع من زملائه بالإنجليزية: أين وجدت هذه العبارة من كلام ملتون؟ دهش ولم يكد يصدق أذنيه، ثم تبين أنه من الجهل بملتون وكلامه، بحيث لا يعلم أنه صاحب كتب ومصنفات، وكل ما عرفه عنه أبيات من المحفوظات سمع أخاه يستظهرها، وسمع أن ملتون هو ناظمها!
وليس أكثر بين العامة والجهلاء من الإحالة على أقوال المشاهير الذين لا يعرفون عنهم شيئا غير أسمائهم، فمنهم من يحيل على مشاهير عصره، ومن يمعن في التعالم، فيحيل على مشاهير العصور الغابرة، ومنهم من له لباقة الوضع والاختلاق فهو مجتهد في وضع الأقوال التي ينحلها مشاهير الرجال حسبما يتوهم مقدرتهم ومأثور أقوالهم؛ ولهذا يتفق أحيانا أن تنحرف «الشخصية النموذجية» من دلالتها الأولى إلى غير تلك الدلالة، حتى يتباعد ما بينهما وتصلح كل منهما لتمثيل شخصية نموذجية غير الشخصية الأخرى.
وعلى هذا النحو انحراف شخصية «لقمان الحكيم»، فإنها تستحق وحدها دراسة مستقلة من هذه الوجهة دون غيرها، ونعني بها دلالة «الشخصية النموذجية» في العصور المتتابعة، وكيف يطرأ عليها الانحراف عن وضعها الأول شيئا فشيئا حتى يصح أن تصبح عنوانا على إنسان آخر، أو عدة أناس غير صاحبها.
ففي مبدأ الأمر عرف لقمان بطول العمر وامتداد الأجل في أزمنة متعاقبة، ثم تأول المتأولون طول عمره بحكمته وسحره، وعرفانه سر الحياة والموت، وأنه بهذه المعرفة قرن عمره بأعمار سبعة نسور كان يربيها عنده واحدا بعد واحد، حتى انتهى أجله بانتهاء أجل النسر السابع، فمات معه في لحظة واحدة، ومن حكمة المواعظ والسحر والعلم بأسرار الحياة تحولت حكمة لقمان «الحكيم» إلى الطب والعلاج، وغلبت عليه خلة القدماء الذين تعودوا أن يكتموا عن الناس أسرار صناعاتهم، فلا يبوحون بها إلا على قدر، ولا يختصون بها غير الصفوة المختارين من تلاميذهم ومريديهم، ولا شك أن حكاية «ماء اللفت» هي أحدث هذه الأخبار الموضوعة أو المختلقة، ولكنها مع ذلك حملت معها بقايا العصور الغابرة من أوصاف هذه الشخصية النموذجية، كما عرفها على التتابع أبناء تلك العصور.
وخلاصة الحكاية التي تروى على عدة روايات أن ولي الأمر في عهد لقمان حبسه لغضبه عليه، أو خوفه من سحره ومكره، أو لضنه عليه وعلى الناس بأسرار حكمته وطبه، ثم سمع في حبسه بمرض إنسان يوشك أن يموت ودواؤه في ماء اللفت، وشق عليه أن يخالف عاداته أو يخالف أمر الحاكم، فلم يشأ أن يبوح بسر الشفاء إلا بأسلوب التورية والجناس، فصاح في سجنه يقول: «مات العليل وما ألفت له دوا». فسمع السامع العليم بأسلوبه أن ماء اللفت هو دواء العلة، فأعطاه الدواء وشفاه.
وفي هذه الحكاية مسحة من كل شخصية نموذجية تشكل بها لقمان في تاريخه، وآخرها شخصية الطبيب التي لم تظهر في العلم الحديث، إلا حين شاعت تسمية الطبيب بالحكيم، وشاع التداوي بماء اللفت بين العامة، وهم يتداوون به إلى اليوم.
الشخصية النموذجية
وقد انحرفت «الشخصية النموذجية» التي عرف بها أبو نواس على هذا النحو، فصارت في آخر هذا النموذج الأخير، وذاك هو نموذج الحاذق اللبق السريع إلى الجواب المفحم، ذي الدراية بالمخارج السهلة من الورطات العسيرة، وقد كان أبو نواس ولا ريب على حظ من اللباقة غير قليل، وكان يحسن الجواب ويتحيل على اللذات، ولكنه لم يكن آية الآيات في زمنه على سرعة الجواب والخروج من المآزق، بل لعله كان إلى التورط في المآزق أقرب منه إلى الدراية بمخارجها، ولعله كان من أولئك الذين نسميهم في عصرنا «باللخمة»؛ لتعذر الجواب عليه في مواقف الحرج، فلم يكن يحسن الدفاع عن نفسه حين تتألب عليه التهم بين أيدي الخلفاء والأمراء، ويروى في أخبار مجونه أنه كان يذهب إلى مجالس القيان متعمدا إخجالهن، فينقلب الأمر عليه ويخجلنه ويفحمنه، فلا يحير جوابا ولا يقد على البقاء في المجلس، وأبياته في جنان مشهورة حيث يقول:
وإن وقفت له كيما يكلمني
Shafi da ba'a sani ba