ونحسب كذلك أننا لم ننحله رأيا ينكره لو أنه عاد إلى هذه الحياة الدنيا في زماننا هذا، لأننا شفعنا آراءه الحاضرة بأقواله المحفوظة فيما عرض له من خطوب زمانه، فتشابهت الأقوال وتقاربت الأحكام، وبقي على من يخالفنا أن يزعم أن هذه الآراء غريبة عن منحى أبي العلاء في تفكيره، ويثبت ذلك بكلامه وآرائه في مثل ما نحلناه. ويومئذ يظهر أن الإنكار هو الدعوى التي تفتقر إلى الشواهد والبينات. •••
وقد مضى الآن زهاء ست سنوات منذ كتبنا هذه الفصول، دارت فيها الأيام دورتها واضطربت فيها الحوادث اضطرابها. فلا شك أننا حين وصفنا الحوادث كما وصفناها واستطلعنا العواقب كما استطلعناها، لم نقحم على حكيم المعرة رأيا كذبه الواقع وأنكره الحق الصادع، ولم ننحله قولا يزري بصائب فهمه أو يقدح في صادق حكمه. فإن كنا وافقناه فقد أرضيناه، وإن كنا خالفناه فما أخجلناه.
ومن محاسن الاتفاق أن تحتفل الأمم العربية بتمجيد أبي العلاء وهي تتطلع إلى استقلال كريم يرضي الحكيم العربي الصميم، وتنهض إلى مجد طريف يستجد لها معالم المجد القديم، وأن تعاد «رجعة أبي العلاء» في طبعتها الثانية والدعوة إلى الاحتفال جارية إلى مجراها، ووفود الحجيج المعري مستبقة إلى ملتقاها، فهي تحية في الأوان، وقربان على ذلك المحراب ... مزاجه الشكر والعرفان.
عباس محمود العقاد
تمهيد
منذ سنة وشهور نشرت الصحف من أنباء سورية «أن حكومتها فرغت من مراجعة رسم التابوت الذي أزمعت إقامته في المعرة على قبر أبي العلاء، وأنها تعد العدة للاحتفال بانقضاء ألف سنة هجرية على وفاته، أو على ميلاده كما هو الأصوب ...» فالمعري كاره الحياة يعاد طوعا أو كرها إلى الحياة كرة أخرى!
خطر لي هذا الخاطر فأحببت أن أتخيل «رهين المحبسين» يجوس بيننا خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر، فماذا هو قائل؟ وماذا هو فاعل؟
لا شك أن أحوالا كأحوال العصر الحاضر قد كانت مشهودة معهودة في أيام أبي العلاء، ولا شك أننا واجدون في كلامه حكما مكشوفا أو ملفوفا على جميع تلك الأحوال، فأما ما يختلف من شئون زماننا وزمانه فهل يستطاع قياسه والنفاذ إلى رأي أبي العلاء فيه وفاقا لذلك القياس؟ وهل في مقدورنا نحن أبناء هذا الزمن أن ندعو الحكيم للجهر برأيه فيه؟
ذلك ما قد حاولناه في هذه الصفحات،
1
Shafi da ba'a sani ba