وبفضل مجهودات الشعب المصري ذاته الذي ما قصر في المطالبة بكامل حقوقه، ولا فرط ولا ونى ولا تبلد، والذي أظهر في الساعة العصيبة والمحنة النكراء (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) من ضم الصفوف، وتوحيد الكلمة ما شد أزر الوزير الجليل ثروت باشا وأيده، وكان من ورائه حصنا حصينا في مناهضة الخصم، وكهفا منيعا، وعروة وثقى.
وكذلك في أول مارس 1922 هب على مصر من نفحات رضوان الله نسيم الاستقلال، وحيا مسامعها من موسيقى النظام الأبدي نغمات الحرية المطربة الشجية، فحيا الله في الأيام ذلك اليوم الأغر المحجل، وقدس الله في الساعات تلك الساعة السعيدة الزهراء: ساعة هبط علينا البشير يحمل إلينا صحيفة السعادة الخالدة ممسكة بأذكى من شذى العطر، مصقولة الطراز بأبهى من سنا الفجر، وأي ساعة أجل وأعظم، وأحق بالتحميد والتمجيد من ساعة تنطلق فيها الروح الإنسانية بعد طول أسر واحتباس من قيود الرق، وأغلال الخسف والعسف فتنهض وتنبعث - ولو غشيها أثناء ذلك شيء من الدهشة والارتباك والحيرة - وتنشط من عقالها حالفة بالذي خلقها وسواها لتكونن حرة ولتبقين طليقة! الحرية وما أدراك ما الحرية؟ هي جوهر الروح، وعنصر النفس وملاكها الذي لا تقوم بغيره، وقوامها الذي لا تصح ولا تسلم إلا به، وهي البغية والطلبة التي لا تزال تنزع إليها الروح من أعماق أعماقها، وتشرئب وتطمح، وتصيح مفصحة أو معجمة، مبينة أو مجمجمة تطالب بها السالب المغتصب، مناوئة منابذة، ولو هددها بما في الأرض والسماء من قوة، وهي التي في سبيلها وحدها يبذل بنو الإنسان، بحكمة أو بلا حكمة، كل كد وعناء ومجهود وجهاد، ويغشون كل ملحمة ومعترك، ويقاسون كل ألم وكربة وبلاء. أجل، ما أجل تلك الساعة وما أعظمها! ساعة تنسم الأمة أنفاس الحرية المنعشة، ساعة يبدو للقافلة المكدودة الظمأى خضرة الروضة العشيبة وسط القفرة الجرداء، ويقر أعينها رفيف أيكها النضر في وقدة الهاجرة ولفحة الرمضاء.
لما قبلت إنكلترا شروط ثروت باشا وأجابت مطالبه انفكت الأزمة الوزارية، ورأى ذلك الوزير الجليل أنه لا بأس عليه في تلك الظروف الحسنة من قبول الوزارة، وحينذاك رأت جلالة الملك أن تسند إليه الرياسة، فلبى دعوة مليكه المعظم تلبية مسرع إلى طاعته، صادع بأمره، محتملا في سبيل خدمة البلاد أعباء تلك المهمة الشاقة. ثم اختار دولة الرئيس للوزارات المختلفة رجالا هم - صفوة أبناء الأمة ونخبتها، وعتادها في الأزمات والشدائد، وذخرها في الملمات والعظائم - من كل فاضل كفؤ وحازم، بصير مديد الشأو، رحب الذراع، بعيد الهمة، وحسبك أن يكون بينهم رجل كصاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا، ذلك الفذ النابغة، الذكي الألمعي الذي كأنما تتوقد بين جبينه كواكب الفلك ومصابيح الحلك، ذلك المشهود له بدقة الذهن وصفاء القريحة، لا يطيش له في حومة النضال سهم، ولا يخبو له في ظلمة الشكوك نجم، وقد طالما عجمته الحوادث، وعركته الكوارث، فألفته صلد الصفاة، جلد الحصاة، لا تحل حبوته، ولا تفل عزمته، وكم دفعت به خطوب السياسة في المآزق والمضايق، فما راعنا إلا خروجه منها ظافرا وادع القلب وضاء الجبين، وكفاه نبلا وشرفا أنه كان موضع اختيار الرئيس الأجل، وأنه ما زال موطن ثقته واعتماده.
وحسبك أيضا أن يكون من بين من اصطفى الرئيس أيضا صاحب المعالي مصطفى ماهر باشا، وهو ذلك الرجل الجلد القدير على العمل الناهض بأعبائه مهما كدت وفدحت، وكم له من موقف في ميادين الأعمال الجسام أظهر فيه الحكمة مقرونة بالصرامة والتؤدة مشفوعة بالعزم والمضاء، وقد أحسن الرئيس كل الإحسان في اختيار مثل هذا الشهم الهمام لوزارة المعارف؛ لأنها أحوج الوزارات إلى عميد ينفحها بروح من عنده، ويبعث في كيانها تيارا ملتهبا من «بطارية» ذهنه المتقد، وجذوة حامية من مرجل حميته المحتدمة، وماذا عسانا بعد أن نقول في رجل رآه الرئيس أهلا لما ناط به من ذلك العمل الجليل والمنصب العظيم.
كذلك تألفت الوزارة باختيار ثروت باشا من رجال أكفاء سبقت لهم في خدمة البلاد أياد بيضاء، ومآثر غراء، تجلى فيها إخلاصهم وصدق وطنيتهم في حذق وبراعة، وقد تبوأ أولئك الوزراء مناصبهم في وزاراتهم المختلفة حيث أخذوا بالمبدأ السياسي الجديد - مبدأ الانفراد بالعمل والاستئثار بالسلطة - فقبضوا على أزمة الحكم وتسلموا مقاليده، وحققوا معاني ذلك المبدأ الجديد وأغراضه تحقيقا تاما لا يقبل شكا ولا ريبة؛ فأصبح الموظف الإنكليزي مهما علت درجته مرءوسا للوزير مرغما أن يخضع لإرادته ويصدع بأمره، وليس رئيسا مستبدا مطلق السلطة متحكما في جميع من حوله يأمر وينهى لا ناقض لحكمه ولا راد لكلمته، وربما استبد على الوزير نفسه، واغتصب سلطته، وأخضعه لمشيئته ورغبته - كما شوهد كثيرا في العهد السالف - فها نحن أولاء أصبحنا نرى بعين قريرة جذلى كبار رجالات الإنكليز يتقلص ظل سلطانهم عن منصات الحكم داخل بلادنا، ويطوى بساط نفوذهم عن دوائر حكومتنا، وينملس شبح صولتهم المرهوبة ويزول عن أبصارنا، ويحل محل هذا كله سلطة وزرائنا - أهل جلدتنا وأبناء آبائنا، وإخواننا في الله والوطنية، وشركائنا في السراء والضراء - الواردين معنا حياض المناعم والمكاره، والشاربين بالكأس التي بها نشرب إن علقما وإن شهدا، ورفاقنا في قافلة الجهاد وزملائنا في سفينة الأقدار، السائرين معنا إلى الهلاك أو النجاة، إلى الموت أو الحياة، المقرونة أسماؤهم إلى أسمائنا في سجل القضاء الأزلي، المخبوء لهم من القسم والحظوظ مثل ما خبئ لنا في خزانة الغيب ومستودع المجهول، الجاري لنا ولهم بالسعود والنحوس نجم واحد في فلك واحد. فليس من المعقول ولا من الجائز قياسا أو فرضا، ولا مما يسوغ في الضمائر أو يمر على الخواطر أن إخواننا الوزراء - من تجيش عروقهم بدمائنا وتنبض قلوبهم على دقات قلوبنا - ينزلون إلا على إرادتنا، أو يتوخون سوى أغراضنا ومقاصدنا، ولا سيما في هذا العهد المبارك، وفي هذا الدور المتقدم من قضيتنا، وبعدما أعلن الإنكليز رسميا إلغاء الحماية والاعتراف بسيادة مصر في الخارج وفي الداخل، فكان في ذلك أوضح برهان على ما عدلت إليه وعولت عليه الحكومة الإنكليزية من صحة العزم وصدق النية على عدم التعرض لإدارة مصر الداخلية، والحيلولة بينها وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية.
أجل، إن الوزارة الحالية لا تألو جهدا ولا تدخر وسعا في استرضاء الأمة والنزول عن حكمها، وإن قامت العقبات والعثرات مؤقتا دون قيامها بإبلاغ الأمة كل رغباتها وجميع مشتهياتها، ولكن الوقت كفيل أن يبرهن للشعب على أن ما يؤجل الآن من أمانيه وبغياته - بحكم الظروف القهرية الناشئة عن حالة الانتقال والتطور السياسي - لن تلبث الوزارة أن تعمل على قضائه وتحقيقه في الحين المناسب متى تراخت الأزمة، وانفسح المجال، وتيسرت الظروف المسعدة المؤاتية، وفي سبيل تيسير هذه الظروف، وإرخاء تلك الأزمة، واستعجال ذاك الحين المناسب تبذل الوزارة الآن أقصى الجهد وتخطو أفسح الخطى.
فها هي قد تسلمت - كما أسفلنا - مقاليد العمل، وقبضت على أعنة السلطنة فنحت المستشار المالي عن حضور جلسات مجلس الوزراء - كما هو معروف - وتخلصت من معظم وكلاء الوزارات ومستشاريها الإنكليز، واستبدلت بهم وكلاء وطنيين، وها نحن أولاء لا يكاد يمر بنا برهة من الزمن إلا رأينا بعض كبار الموظفين الإنكليز يعتزل منصبه في الحكومة المصرية فيعين مكانه مصري من أبناء البلاد، وها نحن نرى الوزراء المصريين قد ملكوا نواصي الشئون والأحوال، وأمسكوا بدفة المسائل والأعمال في وزاراتهم المختلفة؛ فأحاطوا علما بكل دقيقة وخطيرة، ولم يغادروا صغيرة ولا كبيرة، ومن ذا الذي لم يطلع في الجرائد السيارة على قرار صاحب المعالي إسماعيل صدقي باشا بهذا الشأن وفي ذلك الصدد، ذلك القرار الحاسم الجازم الذي أماط كل لثام، وجلى كل شك وشبهة عن هذا الأمر الخطير، فلم يدع مجالا للنقد ولا موضعا للاعتراض.
هذه كلها من فوائد العهد الجديد، ومن ثمرات الفوز السياسي المبين الذي أحرزته البلاد بمعونة الله عز وجل، وبفضل جدها ومجهودها وهمتها وتضحيتها - وعلى الأخص بما أظهرت من الاتحاد والتضامن (عقب إعلان المذكرة الإيضاحية) والقيام في وجه الخصم الألد المعاند متساندة متعاضدة كأنها روح واحدة في جسد واحد - وبفضل مجهودات وزيرها الأجل ومهارته وحنكته السياسية وكفاءته النادرة؛ فهو الذي استطاع أن يتخذ من صدق موقف الأمة وقوة تضامنها أحسن وسيلة، وأضمن ذريعة إلى إقناع الخصم واستمالته والتأثير في أعصابه حتى أمكنه أن يستخلص للبلاد من قبضته ما استخلصه من تلك الفوائد الجمة والغنائم العظيمة.
ولكن كيف كان موقف الأمة إزاء هذا التغير السياسي العظيم، وبماذا استقبلوا هذا العهد الجديد، وماذا كانت آراؤهم فيما قد تأتى للبلاد من تلك الفوائد والغنائم؟
انقسمت الأمة - بهذه المناسبة وفي هذا الموقف - من حيث الظنون والآراء شيعا بددا وطرائق قددا، فمنهم المستبشر المتفائل الفرح الجذلان بما نالته البلاد من ذلك الغنم العظيم وإن وقع دون أقصى غاية البغية والمراد، وتقاصر عن أبعد مرامي المقصود والمرغوب، ولم يسم إلى ما تطمح إليه الأمة من الاستقلال التام بأكمل معانيه وفي أسمى مراقيه وأسنى مجاليه. فهذا الفريق من أهل البلاد يعتقد أن هذه المرحلة الأخيرة فوز صريح وربح حاصل، وأنها بلا أدنى جدال خطوة إلى الإمام، وخطوة واسعة قد قربتنا من الغاية المقصودة شوطا بعيدا وشأوا مديدا، وحسنت موقفنا، وحصنت مركزنا، ورفعتنا من وهدة ضعف وحضيض مهانة كنا فيه تحت مدفعية الخصم نصلى نيران سطوته، ولهيب صولته، لا نستطيع له مطاولة ولا مصاولة - فرفعتنا هذه الخطوة إلى ربوة عزة ومنعة، وهضبة حصانة وقوة أصبحنا بها أولي قدرة على مناهضة ذلك الخصم ومناجزته، وأقدر على مواصلة سعينا إلى أمنيتنا المنشودة، أعني الاستقلال التام المطلق من كل قيد، المجرد من كل شائبة - أو لم يصبح هذا الغنم الذي استفدناه أخيرا أقوى سبب، وأمتن وسيلة نستطيع أن نتذرع بها إلى إحراز الفوز الأتم والنجاح الأكمل، أعني تحديد الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى، ونقصها وتلطيفها بما لا يتعارض مع استقلالنا ولا يضيره إلى أن يحين الوقت للعدول عنها، وإطراحها فتخلص مصر الخلاص التام من كل قيد من هذا القبيل وخلافه.
Shafi da ba'a sani ba