أي ثروت، أيها الرجل الحازم البصير! لقد قذفت بك الطبيعة في مضلة السياسة وتيهها، وفي مجاهلها ومهالكها، حيث اشتبهت المسالك، وأشكلت المناهج، وخفيت وجوه الرشاد، وخبت مصابيح الهداية، فانظر ما أنت صانع، وأي السبل تسلك، وأي الوجوه تنتحي. ألا فاعلمن أن راكب الصعاب وولاج المآزق مثلك إذا تشعبت في وجهه السبل، ووقف ينظر أيها يسلك إلى غرضه الأسمى، فلقد يوجد أمامه بلا شك بين هذه السبل منهج واحد هو أقصدها وأهداها، منهج يكون سلوكه في ذلك الظرف وتلك الآونة أحق ما يأتيه وأصوب ما يصنعه، منهج واحد إذا أتيح له سلوكه طوعا أو كرها كان الحازم البصير والأريب الداهية، كان الرجل المكتمل الرجولة الموفق إلى ما يرضي الرجال والآلهة، المساير لأنظمة الطبيعة ونواميسها الغامضة الخفية، فالطبيعة والكون أجمع يرحب بمثل هذا الرجل ويهتف له: «مرحى، بورك فيك وفي عملك»، ثم يكون اليمن رائده والنجاح حليفه. فهل أنت يا أيها الرجل النبيل والوزير الجليل مستبين بين ما يواجهك في تيه السياسة ومضاتها، وفي مجاهلها ومهالكها من متشعب الطرق والسبل، ذلك المنهج القويم الأوحد فسالكه إلى قصدك الأنبل وغرضك الأسمى - النجح والفلاح - إلى ضالة الوطن المبتغاة وبغيته المرتجاة وأمنيته المشتهاة؛ إلى الحرية والاستقلال؟ سنرى ذلك قريبا.
سنراك وقد قذفت بك الطبيعة وسط زوبعة السياسة الهوجاء وعواملها المتنازعة وعناصرها المتكافحة؛ تؤلف بما أوتيت من عزم وحزم بين هذه القوى المتمردة الطاغية، وبين هذه النزعات المتضادة المتعادية - ترد شواردها وتكبح جوامحها - آونة بسوط بأسك وسطوتك، ولكنه بأس الحازم المتدبر المتلهف على مصلحة بلاده، وسطوة المنصف العادل الحدب على منفعتها، وآونة بكف لينك الغريزي المغروس في طبيعتك ورقتك الفطرية المركبة في سجيتك. دأبك ذلك إلى أن تعنو لك عاصفة السياسة الهوجاء فترتد الفوضى نظاما، والزوبعة نسيما، والحرب سلاما. إنك وإن كان قد كتب لك بحكم الظروف والأحوال أن تعمل وسط الزوابع السياسية والثورات الوطنية - وسط ما يصح لنا أن نسميه نوعا ما من الفوضى - فإنك بطبعك ونحيزتك رجل نظام لا رجل فوضى، وتلك طبيعة العظماء كافة، كلهم مجبول على حب النظام؛ بل كلهم النظام مجسدا، وكذلك الرجل العظيم إنما هو رسول النظام في هذا العالم. (وكذلك مما يجب أن يكون شيمة كل إنسان يحمل الصورة الآدمية). أو ليس كل عمل من أعمال الإنسان في هذه الحياة هو «رد الفوضى إلى النظام»؟ أو ليس كل ذي حرفة وصناعة موكل في هذه الدنيا أن يجمع المواد الطبيعية المبعثرة في أنحاء الكون، المشتتة في أرجاء الوجود، المتباينة جوهرا، المتنافرة صفات وطباعا، فلا يزال يوفق بينها ويؤلف حتى يضم شتاتها، ويجمع بددها، ويفرغ تفاريقها في قالب محكم بديع عجيب الصنع محدود بالقواعد الهندسية والحسابية؟ كلنا مولودون بفطرتنا أعداء للفوضى عشاقا للنظام، هذه مزية البشر عموما، وهي في الرجل العظيم أضعاف أضعافها في الرجل العادي.
النظام يقتضي الشدة ويتطلب الصرامة أحيانا، وهذا بلا شك نوع من الحذر والإشفاق على المصلحة العامة. وفي هذه الظروف الضرورية يصبح اسم «الشدة والصرامة» غير منطبق تمام الانطباق على المعنى الحقيقي لما يتبعه الرجل الحازم من خطته الصارمة الشديدة التي يكون أحق بها وأولى، وأقرب إلى معناها الحقيقي أن تسمى «رقة معكوسة» و«عطفا مقلوبا»، إذ كان باعثها الحقيقي هو العطف والرقة، والحنان والشفقة، وكما أن الطبيعة تنجز أعمالها وتنتج نتائجها، آنا بالنسيم اللطيف وآونة بالإعصار العنيف، وتارة بالجدول السلسل وأخرى بالسيل الجارف، فكذلك الرجل المصلح - الذي هو شعبة من الطبيعة وفلذة من كبدها - يحدث آثاره النافعة ومآثره الجليلة باللين تارة وبالشدة أخرى، كالطبيب الحاذق يداوي بالعسل وبالصاب، وربما أزال السم بالسم، وشفى الداء بالداء.
نقول: لما أعضل على الأمة المصرية لغز السياسة المعقد واعتاص حله، ولم تفلح فيه سهام المنطق الأجوف وزخارف الآمال وأخاديع الأماني، ولم توفق إلى حله طمحات الأوهام، وسبحات الخيال، والاستناد على النظريات المستحيلة، والاحتجاج بالافتراضات الوهمية معززة بقذائف «الهتاف» والقنابل «الإسقاطية الإحيائية»، تقدم إلى معالجة هذا اللغز المعضل العويص رجل الحقيقة والجد والعمل عبد الخالق ثروت، ووقفت مصر وإنكلترا أو العالم أجمع ينظر إليه نظرة العجب والدهشة؛ ليرى ما هو صانع إزاء ذلك المشكل المعضل.
وقف رجل العمل والذكاء والدهاء أمام ذلك اللغز المخوف، وكأنا بذلك اللغز يخاطب الرجل العظيم قائلا له: «أتفقه معنى هذه الساعة العصيبة؟ أتفهم لغز الحياة في هذه العقبة الكئود والموقف الحرج؟ إن الآلهة تواجهك بسؤال معجز ولغز معضل، فهل عندك جوابه وهل لديك حله؟»
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «لقد جاء في أساطير الأولين أن جنية كانت تربض على قارعة الطريق للمارة، تواجه كل عابر بأحجيتها الصعبة ولغزها العويص، فإذا استطاع حله مر سالما آمنا في سربه، وإلا أهلكته وأوردته حتفه، ويزعمون أن هذه الجنية كان لها وجه حورية حسناء وصدرها الناهد وأعطافها اللينة، ولكن بدنها الغض الرشيق ينتهي بعجيزة لبؤة ضارية ومخالب سبعة عادية.
وكذلك الحياة هي كتلك الجنية لا فرق ولا خلاف؛ فالحياة تواجهك بجمال حورية وحسنها الفردوسي الذي معناه النظام البديع والحكمة العالية والخضوع لقانون العقل الأزلي السرمدي، ولكن فيها مع ذلك عنفا وطغيانا وظلمة وهلاكا - أحق أن تسمى آفات جهنمية - وهذه الحياة أو الطبيعة لا تزال - كتلك الجنية - تلقي على كل إنسان يعبر سبيلها بصوت رقيق رخيم هذا السؤال الخطير المرعب: أتفهم معنى هذا اليوم الذي أنت فيه؟ أتفقه مغزى هذه الساعة؟ أتدري أي مشكلة تواجهك وكيف تحلها؟ وأي سبيل تسلك إلى ذلك؟
أجل، إن الحياة أو الطبيعة أو الوجود أو القدر - كيفما سميت هذه الحقيقة الهائلة التي لا يستطاع تسميتها - والتي نعيش في وسطها ونجاهد - لهي حورية فردوسية وعروس سماوية، وربح وغنيمة للأريب اللبيب، والذكي الألمعي الذي يستطيع أن يتفهم أسرارها، ويحل لغزها، ويتبع قوانينها، ويصدع بأوامرها، وهي جنية فتاكة وشيطانة مهلكة لمن لا يفعل كذلك ولا يستطيعه، فافهم أسرارها وحل لغزها تسلم وتغنم.
أما إذا لم تعن بذلك ولم تأبه له، ومضيت في سبيلك دون أن تحل ذلك اللغز، وتجيب ذلك السؤال، فستحله لك جنية الحياة وشيطانة الطبيعة، ستحله لك بمخالبها وتجيبك ببراثنها وأنيابها الحادة، ثم لن تصادف فيها سوى لبؤة ضارية وسبعة عادية وحية رقشاء، أباءة صماء، لا تسمع دعاك، ولا ترق لشكواك، ولا تلين لرقاك.»
تقدم رجل الحقيقة والجد والعمل إلى العقدة الصعبة والمشكل المعضل بعدما أعجز أهل الخيالات والأوهام وطلاب المعجز والمستحيل، وقف ثروت باشا على قارعة السبيل، وواجهته شيطانة السياسة بلغزها العويص وطالبته بالحل والجواب، فهل هو مخطئ أو مصيب؟ هل هو معرض نفسه وبلاده لمخالبها وأنيابها أو مشيع منها بنظرة الرضى وابتسامة الارتياح إلى منهج التوفيق وسبيل النجاح؟ سنرى ذلك قريبا، سنرى رجلا ليس بأسير خيالات وأوهام، ولا متعلقا بأذيال الخوارق والمستحيلات، ولكن رجل الحقيقة والواقع، رجل الممكن والجائز، رجل الغريزة الصادقة والبديهة الحافلة والبصيرة النافذة، رجلا يسلط شعاع عينه الثاقبة على المشكل والمعضل فيبدد عنه ظلمات الشكوك وغيوم الريب والشبهات - كما تسلط العدسة البلورية طائفة الأشعة على الأشباح فتجلوها في أسطع مظهر من الوضوح والبيان - رجلا ينفذ بنور بصيرته إلى أكناه الأمور وجواهر الأشياء وأكباد الحقائق حتى يقهرها ويمتلكها آخذا بنواصيها قابضا على أعنتها - وذلك بفضل ما فاق به غيره من رجاحة العقل وصدق العزيمة وقوة الروح؛ ذلك رجل لا ينظر إلى الدنيا ومشكلاتها بمنظار النظريات والقياسات، ولكن بعين مجردة نافذة البصر ساطعة الشعاع كشافة اللمحات، رجل الإخلاص العميق، والغيرة الملتهبة، والقلب الذكي المتأجج، والروح الحي المتوهج.
Shafi da ba'a sani ba