وكان أنصار الرق من أهل الجنوب ومشايعوهم من الشماليين ينشرون في طول البلاد وعرضها مبدأ دوجلاس الخلاب؛ وهو تقرير سيادة الشعب، ولن يكون ذلك إلا أن يترك الناس أحرارا في نظرهم إلى الرق، وكانت كنساس حتى ذلك الوقت لا يزال يتوزعها أنصار الرق وأنصار الحرية، وكان النضال بينهم فيها عنيفا، كل يطمع أن ينتصر مبدؤه.
ومما يذكر من فكاهات لنكولن في معركة الرياسة هذه أن فاجأه أحد المستمعين في جهة من الجهات بسؤال أراد به أن يزعزعه فقال: «أحقا يا مستر لنكولن أنك دخلت هذه الجهة أول ما دخلت حافي القدمين تسوق أمامك عددا من الثيران؟» وأجاب لنكولن: «إن لدي هنا «دستة» من الرجال على الأقل يشهدون بصحة هذه الواقعة إذا كان إثباتها أمرا ضروريا في القضية التي نحن بصددها.»
وتحمس لنكولن فقال إن ما بلغه من مكانة إنما كان ثمرة من ثمار الحرية، وعلى ذلك أليس محقا في أن يمقت الرق الذي يوبق الروح، ويستذل النفوس في صفوف السود والبيض جميعا، ويمجد الحرية التي يبلغ المرء في كنفها ما يطمح إليه من رفعة؟ وختم خطابه بقوله: «نعم سنتكلم في سبيل الحرية وضد العبودية طالما يتيح لنا دستورنا حرية الكلام؛ حتى لا تشرق الشمس على هذه الأرض العريضة ولا ينزل الغيث ولا تهب الريح على رجل يقسر على ما لا يؤجر عليه من عمل.» وكان يستطيع أن يقول على رجل يسترق، ولكنه لم يزل حريصا لا يحب أن يندفع في محاربة الرق إلى حد الجهر بالتحرير.
وانجلت المعركة الانتخابية عن فوز بوكانون، ولكن نجاح الحزب الديمقراطي كان ينطوي على معنى الضعف، فإن ثلث عدد أصواته انضم إلى الحزب الجديد الذي كان يتلو على حداثته الحزب الفائز في عدد الأصوات، حتى لقد اعتقد الكثيرون أن الفوز الحقيقي إنما كان للجمهوريين، ولولا الخوف من دعوة التحرير وسرعة انتشارها في البلاد وشدة إشفاق الجنوبيين وأنصار الرق في الشمال منها؛ لجاز أن كانت تأتي نتيجة الانتخاب يومئذ بخلاف ما انتهت إليه.
أحداث ونذر!
ما لبثت أن بدرت في البلاد بوادر الطامة الكبرى؛ فقد تلاحقت الأحداث، وجرت الشائعات بالنذر وانبعثت الإحن والحزازات، وتنابذ الناس وتباغوا، وأصبح بأسهم بينهم شديدا. فما هي إلا رجفة ثم ينفجر البركان ويزلزل البنيان.
وكانت أولى تلك الأحداث ما وقع في مجلس الشيوخ؛ فقد كان في المجلس رجل يدعى سمنر، وكان أستاذا للقانون بجامعة هارفارد، وتلقى العلم أثناء شبابه بأوربا، وقد عرف بقوة الجنان وزلاقة اللسان وتوقد القريحة، وكان ممن يكرهون الرق أشد كره، فحمل في قوة وجرأت على قرار نبراسكا، وأهاب بالناس أن يتمسكوا باتفاق مسوري، وكانت لهجته لاذعة وحجته قاطعة وعبارته مقذعة، وقد تهكم تهكما قاسيا على أحد الأعضاء وهو المدعو بنلر وجعله سخرية الساخرين، فلما كان ذات يوم بعدها جالسا إلى مكتبه في المجلس يكتب في سكون، إذ هجم عليه أحد أقارب بتلر فأهوى على أم رأسه بعصا غليظة فخر على الأرض صعقا! وظل بعد ذلك سنوات يقاسي آلام العلة من هذه الضربة.
وكانت هذه الضربة في الواقع أولى ضربات الحرب الأهلية؛ فأهل الجنوب بدل أن يستنكروا هذه الفعلة هللوا لها واعتبروا صاحبها بطلا جديرا بالإعجاب والتوقير، وقدم له جماعة من الطلبة عصا ذات رأس من الذهب، أما أهل الشمال فلك أن تتصور مقدار ما بلغته الفعلة من نفوسهم وما تركته من الغيظ في صدورهم، فذلك ما لا ينهض لتصوره كلام.
وجاءت بعد ذلك قضية دردسكوت، فكانت حادثا رج البلاد من أركانها وإن كان هينا في ذاته؛ وذلك أن عددا من العبيد رحلوا مع سيدهم إلى ولاية من الولايات الشمالية الغربية، وكان فيهم عبد ذكي رزق حظا من التعليم ويدعى دردسكوت، أدرك أنه وراء الحد الفاصل بين ولايات الرق والولايات الحرة - أي حد اتفاق مسوري - فرفع أمره إلى القضاء يطلب أن يتمتع هو وأسرته بالحرية ما داموا في ولاية حرة.
ولكن هذا العبد كان يحمل ومن معه بالقوة من جهة إلى جهة، فصار ينقل قضيته من محكمة إلى محكمة، وحجته أنه ظفر بالحرية فعلا؛ إذ كان وراء خط اتفاق مسوري؛ ولذلك فإن نقله بالقوة إلى الجانب الآخر من خط الاتفاق - أي إلى الجهات التي تأخذ بالرق - لا يذهب عنه حريته؛ لأنه انتزاع رغم أنفه.
Shafi da ba'a sani ba