وكان يكره لنكولن دائما ما يزعمه الجنوبيون من مبررات لتمسكهم بالرق، فلا يفتأ يرد على مزاعمهم بما يدحضها، وإنه لحريص على أن يلزم جانب الحق والإنصاف فيما يرد به؛ لتكون لحججه وقعها الطيب في النفوس كما هو شأنه في كل ما يقول، كما أنه حريص على الإبانة والوضوح والسهولة، تجد خير مثال لذلك في قوله: «نعلم أن أهل الجنوب يقولون إن رقيقهم أحسن حالا من العمال المأجورين عندنا، ألا ما أقل إدراكهم ما يقولون! ليس لدينا طبقة دائمة من الأجراء، فمنذ خمس وعشرين سنة كنت أنا نفسي أجيرا، وإن أجير الأمس ليعمل اليوم لحسابه وسوف يأجر غيره ليعملوا له غدا، إن الرقي والتقدم من طبيعة الجماعة المكونة من نظراء، وبما أن العمل هو العبء المشترك في هذا الجيل، فإن محاولة بعض أهله أن يلقوا بنصيبهم من هذا العبء على عواتق الآخرين لهي النكبة الخطيرة التي يقدر لها الدوام، وهي في أصلها نكبة تتنقل في الجيل كله، فإذا حصرها الرق في طائفة منه، فإنها تصبح بذلك نكبة مضاعفة يصيب الله بها عباده. إن العمل الحر يمتاز بأنه يبعث الأمل في النفوس، أما العبودية فلا أمل فيها، وإن للأمل لقوة عجيبة في جهود الإنسان وسعادته، ويدرك هذه القوة مالك الرقيق نفسه، ومن ذلك كان نظام العمل بين الرقيق، فإن العبد الذي لا تستطيع أن تدفعه بالسوط ليقطع خمسة وسبعين رطلا من الألياف اليوم، إذا أنت دفعته ليقطع مائة ووعدته أن تدفع له أجره على هذه الزيادة، فإنه يقطع مائة وخمسين؛ فلقد أحللت الأمل محل العصا، ولعله لم يخطر ببالك أنك بقدر ما تكسب من فائدة بهذه الطريقة قد تركت نظام الرق إلى نظام العمل الحر.»
وكان يحس أبراهام أن قضية الرق تزداد خطرا في وضعها يوما بعد يوم، تجد مصداق ذلك في هذه العبارة، وقد نطق بها في جماعة من خلانه سنة 1854 قبيل منازلته دوجلاس، قال يصف الفكرتين، فكرة الرق وفكرة الحرية: «مثلهما كمثل وحشين كل منهما على مقربة من الآخر، ولكن يرتبط كل منهما في سلسلة ويحال بينه وبين الآخر، ولسوف يكسر أحد هذين العدوين اللدودين أو الآخر سلسلته يوما ما، وعندئذ يوضع حد للمسألة.»
ولن يزال منذ قرار نبراسكا يعلن سخطه على الرق، قال ذات يوم عن امتلاك الرقيق: «إنه أكثر أنواع الملك في العالم بريقا وفخرا وغرورا، فإذا تقدم شاب ليخطب فتاة فإن أول سؤال يتلى عليه كم من الرقيق يمتلك، ويسأل هو كم تمتلك فتاته، إن حب امتلاك الرقيق يبتلع كل امتلاك آخر، ألا إن الرق لظلم صارخ عظيم، وإنه لجريمة قومية فادحة.»
وأبدى لنكولن تعجبه ذات يوم قائلا: «إن من العجب ألا ترى المحاكم سقوط حق الرجل في متاع له سرق منه، ولكنها ترى أن حقه في نفسه يسقط بمجرد أن يسترق هو!»
من هذا ومن كثير مثله يتبين لنا إلى أي مدى كان لنكولن عدوا للرق، وإلى أي مدى كان يعده ظلما وإثما، وقد رأينا ما كان منه أثناء مجادلته دوجلاس في خطبتيه في سبرنجفيلد وبيوريا.
ولكن أبراهام على الرغم من هذا الكره يرى - كما رأى جفرسون قبل ذلك بسنوات - أن مشكلة الرق «كالذئب نمسكه من أذنيه؛ فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا نستطيع أن نطلقه ونضمن السلامة»، فإنه يخشى أن يؤدي التطرف في دعوة التحرير إلى انسحاب الجنوبيين من الاتحاد، فينهار بناء الوحدة وتكون الطامة الكبرى على البلاد، وكل همه الآن أن يظل الرق منحصرا حيث هو، فيقوى الأمل في فنائه يوما ما، أما أن يسمح بانتشاره في مواطن جديدة فلا أمل مع هذا في فنائه.
لذلك نراه في موقف دقيق بعد خطابه في بيوريا، فلقد أعجب به دعاة التحرير وبلغ من إعجابهم به أن دعوه ليكون قائدا لجماعتهم، ورأى لنكولن أنه إن أجابهم إلى ذلك أغضب الذين يقصرون همهم على معارضة قرار الكونجرس؛ لأنهم يخشون من دعوة التحرير أن تفصم عرى الاتحاد، وإن رفض دعوتهم أغضبهم هم، وإنه ليشاركهم عاطفتهم وإن كان يخالفهم في سياستهم، كما أنهم خصوم لدوجلاس وإن عددهم ليزداد يوما بعد يوم، ولم يجد أبراهام مخرجا من هذا المأزق إلا الهرب مؤقتا، فذهب في جولة من جولات عمله في المحاماة.
والواقع أن لنكولن المحرر الأكبر في غده يخشى أشد خشية من دعاة التحرير اليوم؛ لأنه يرى في عملهم إذ ذاك ثورة في غير أوانها، قال يرد على أحدهم: «إن المقاومة الدامية أمر يعد خطأ من أساسه وهو عمل غير دستوري بل إنه خيانة، ففي الديمقراطية التي تحكم فيها الأغلبية عن طريق الانتخاب العام وفق القانون لا يوجد مكان لتلك الثورة ... فإن شئتم أن تثوروا فليكن ذلك خلال صناديق الانتخاب.»
طموح وفشل!
أراد أبراهام على أثر انتصاره على دوجلاس أن يخطو خطوة جديدة في مضمار السياسة، فطمع أن ينتخب عضوا في مجلس الشيوخ، وأمل بذلك أن يعود إلى وشنطون، ولم يك يرى نفسه دون دوجلاس مقدرة ومكانة وهو قاهره على أعين الناس في أمر له عند الناس خطره، وكان قد انتخب في تلك الأثناء عضوا في مجلس مقاطعة إلينوى، ولكنه ما لبث أن استقال منه، وأخذ يدعو لنفسه ليختار عضوا في مجلس الشيوخ للولايات.
Shafi da ba'a sani ba