واستمع إليه إذ يأسر لب السامعين بقوله: «إن رداءنا الجمهوري قد علقت به الأقذار وجر في التراب ذيله، ألا فلنعمل على تطهيره مما علق به، دعونا نرجع إلى الماضي فنغسله في روح الثورة إن لم نستطع أن نغسله في دمائها.»
ذلك منطق ابن الغابة وتلك آياته البينات، وهو الذي نشأ كما رأينا عصاميا لم يعلمه أحد، إنما يصدر الرجل عن طبع ويترجم عن فطرة، مثله في ذلك كمثل غيره من أعلام البشرية وقادة القافلة في طريق الإنسانية.
وماذا عسى أن يقول دوجلاس ردا على هذا مهما كان ما أوتي من فصاحة وما رزق من فطنة؟ انظر إليه يمشي على استحياء، فيتقدم إلى خصمه فيسلم إليه سيفه وقد بهره الحق، قال دوجلاس وهو يومئذ من هو، يخاطب لنكولن: «إنك لتفهم مسألة منع انتشار الرق في الأراضي أكثر مما تفعل المعارضة كلها في الكونجرس، ولست أستطيع أن أظفر بشيء من مجادلتي إياك في هذا الأمر، ولقد وضعت في طريقي هنا وفي سبرنجفيلد من المتاعب ما لا يضع مثله رجال المعارضة في الكونجرس مجتمعين.»
وإنا لنستطيع أن نعود بالسبب في نجاحه في هذه الخطبة إلى صفاته الأساسية التي فطر عليها، وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والإحاطة به جملة وتفصيلا، ثم النفاذ إلى جوهره، والاستعانة بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في بساطة ويسر مع توخي الصدق والأمانة، كما يفعل حين ينهض للدفاع في المحكمة، هذا إلى لقانة عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وذهن منطقي مصقول كأنه الميزان الدقيق، يرى باللمحة أن هذا الرأي عليه ضباب الشك وذاك عليه نور اليقين.
وعمل دوجلاس على الفرار من الميدان فطلب إلى لنكولن أن يقطعا حبل ذلك الجدل، وأجابه لنكولن إلى ما يريد، وهكذا انتصر ابن الأحراج وفر ابن آوى، ولكن كان ذلك إلى حين؛ فلسوف يلتقيان عما قريب في صراع يتضاءل أمامه هذا الصراع.
وانصرف دوجلاس ولكنه قبل أن ينصرف أبى إلا أن يأتي بما يدل على طبعه؛ فقد نقض العهد وألقى بعد يومين خطابا جديدا حاول فيه أن يدافع عن آرائه، ولم يستطع لنكولن إلا أن يظل عند كلمته، فما كان هو من ينقض عهدا قطعه على نفسه.
ولقد كان لانتصار أبراهام على دوجلاس السياسي الملحوظ المكانة أثر بعيد في حياته، وازدادت ثقة ابن الغابة قاطع الأخشاب في نفسه، فأخذ يشتد طموحه ويمتد بصره، واطمأن عامل البريد وفتى الحانوت بالأمس إلى مكانته في نفوس قومه اليوم.
لنكولن والرق
حينما بلغ لنكولن نبأ نجاح دوجلاس في حمل الكونجرس على قبول رأيه في مشكلة كنساس نبراسكا وإصدار اللائحة الشهيرة بذلك، كان في جولة من جولات عمله في المحاماة، ويشهد من صحبه يومئذ أن وقع ذلك القرار كان عظيم الألم في نفسه، لقد ظل مسهدا طول ليله يتفكر في موضوع ذلك القرار ومغزاه، وفي الصباح أفضى إلى أحد زملائه بقوله: «أقول لك يا دكي إن هذه الأمة لا يمكن أن تعيش ونصفها رقيق والنصف الآخر أحرار.»
وظل لنكولن ربيع سنة 1854 في تجواله كما تطلب عمله حتى عاد إلى سبرنجفيلد، وكان بينه وبين دوجلاس ما كان من تحد ونزال.
Shafi da ba'a sani ba