وفكر أبراهام في المسيحية وقلب الرأي على وجوهه في تلك العقيدة، وكان شأنه إذ يفكر فيها كشأنه في كل ما يعرض له من أمر، فاستقلال الفكر قوامه والمنطق سبيله، والإحاطة بالموضوع من جميع أقطاره غايته، ثم إنه يقابل بين الآراء ويتقصى تفاصيل كل رأي في غير تحيز، حتى يتبين ما لهذا الرأي وما عليه، ويخلص من هذا إلى النتيجة التي يراها فتكون في ذهنه واضحة كل الوضوح.
وكان في صدر شبابه لا يتحرج من إعلان رأيه في هذه المسألة، وهي ما يتحرج منها معظم الناس، ولقد أشيع عنه وهو في نيو سالم أنه كافر ينكر الله على الرغم من تمثله في أحاديثه وخطبه بالإنجيل ومواعظ الإنجيل، ولكنه أخذ يتحفظ في رأيه بعد ذلك فلا يفضي بما يعتقد إلا إلى خواصه، على أنه لم يظهر مرة غير ما يبطن، فما يتكلم إلا بما يعلم، على قدر ما يتفق له من فهم.
حدث هرندن عن صديق لأبراهام كتب عنه وهو في الثلاثين من عمره، فقال: «لقد كان يركن أحيانا إلى مبدأ إنكار الله، ولقد ذهب في هذه الناحية إلى مدى بعيد روعني، وكنت وقتها حدثا أعتقد فيما تقوله لي أمي الطيبة، وكان يأتي إلى مكان الكتاب حيث كنت أجلس وبعض الفتيان، وقد أحضر معه الإنجيل فيفتحه ويقرأ فصلا منه ثم يأخذ في تفنيده.»
وحدث ستيوارت أول شريك لأبراهام فقال: «لقد ذهب في معارضة العقائد المسيحية وقواعدها ومبادئها إلى أبعد مما ذهب إليه أي رجل سمعت عنه ... وقد أنكر لنكولن دائما أن المسيح ابن الله كما تفهم وتدين الكنيسة المسيحية، وبعد ذلك بعشرة أعوام علمت من القاضي دافسن أن أبراهام لا يؤمن بالمسيحية كما تأخذ بها الكنيسة، وليس يؤمن إلا بالقوانين والمبادئ والعلل والنتائج.»
وحدث آخر عنه فقال: «كان يصدق بخالق خلق كل شيء لا أول له ولا نهاية، وله القدرة كلها والحكمة، وقد وضع ذلك الخالق مبدأ تتحرك العوالم طوعا له وتقوم به، ويعيش الحيوان والنبات على مقتضاه. ويورد لعقيدته هذه سببا هو أنه بالنظر إلى ما في الطبيعة من نظام واتساق، نجد أن مجيئها على هذه الصورة المحكمة بطريق المصادفة أدعى إلى العجب مما لو كانت من خلق قوة عظيمة مدبرة أحكمتها ... إن ما جاءنا من بينة على ما في المسيح من الله قد أتى على صورة ما، يحيط بها الشك، ولكن نظام المسيحية كان نظاما جيدا على الأقل.»
ومما ذكره كذلك عنه، هذا الرأي: «إن ما عبر به لنكولن عما يرى في هذا الأمر وما يتصل به يخرجه من دائرة المسيحية، ومع هذا فإن مبادئه وما يجري عليه من أمور حياته والروح المسيطرة على حياته كلها، لا تخرج عما يتفق الكافة على عده من المسيحية.»
وقالت زوجه بعد موته: «لم يكن لمستر لنكولن عقيدة ولا أمل فيما يصدق عادة من تلك الكلمات، ولم يتصل بكنيسة قط، بيد أنه مع هذا كان كما أعتقد رجلا دينا بفطرته ... وكان الدين نوعا من الشعر في طبيعته، ولم يكن مسيحيا بالمعنى المتعارف عليه.»
وقال أبراهام مرة إن مذهبه كمذهب رجل شيخ سمعه مرة يقول عقب اجتماع من اجتماعات الكنيسة: «إني إذا فعلت الخير أحسست بالخير، وإذا فعلت الشر أحسست بالشر، وهذا هو ديني.» وذكر هرندن رأيه فيه فقال: «ما من رجل يؤمن بالله في قوة وثبات أكثر مما يؤمن لنكولن، ولكن ينبغي ألا نأخذ تكراره لفظ الله في آخر حياته على أنه يعني إلها مجسدا. وفي سنة 1854 طلب إلي أن أحذف كلمة الله من خطاب كتبه وقرأته عليه لينقده؛ وذلك لأن عبارتي كانت تشعر بأني أقصد إلها في شخص، وإنه ليصر على أن مثل هذه الشخصية لم يكن لها وجود قط.»
وما يعنينا من أمره هذا إلا مبلغ ما فيه من دلالة على استقلال رأيه، وإصراره على تبين ما يأخذ مما يدع من أمور الحياة كلها، ولو كان ذلك الأمر هو الدين، ثم حرصه في كل شيء على الاقتناع والفهم، ثم تصريحه بما يعتقد في غير التواء أو مواربة، وما ذلك إلا لأن الرجل قد جبل على أن يسير على سجيته، وأن يعمل بوحي من فطرته، وفي هذا جانب من جوانب عظمته وناحية من دعائم قوته.
وعجيب بعد ذلك ألا يخلو هذا الرجل الذي يتفلسف في دينه هذا التفلسف، ويتدبر فيه هذا التدبر، من صفة تحملنا على العجب منه أعظم العجب، وتجعلنا من أمره حيال تناقض ليس من الدهشة منه بد؛ وذلك أن لنكولن يؤمن، أو على الأقل يذعن، لتلك الناحية الخرافية من أوهام الناس؛ فيصدق في فائدة حجر من الأحجار مثلا، ويرى في بعض الظواهر أمارات خير أو شر مقبل، كما يفعل بسطاء الناس إذ يرون مثل ذلك في رفيف العين مثلا، ويعلن أهمية كبيرة على الأحلام، ويجتهد في استنباط ما عسى أن تنبئ عنه أو تدل عليه، وتحدثه نفسه أحيانا وتوسوس له فيترقب في اطمئنان أو في خوف.
Shafi da ba'a sani ba