على أن هذه المبارزة قد أدت إلى ما لم يقع له في حسبان؛ فإن ماري تذيع في الناس أنه إنما أقدم عليها دفاعا عنها! وما تدري أكانت تؤمن بذلك أم أنها ادعته في مهارة لتكسب به قلب أبراهام، ولعل ذلك هو أرجح الأمرين؛ فهي واسعة الحيلة لا تفوتها في السعي إلى غرضها وسيلة.
وازداد اتصالهما بعد ذلك حتى عادت حياتهما إلى ما كانت عليه قبل فراره، ولكنه لم يشعر يوما أنه يحبها، قال صديق له اسمه هرندن: «لقد علم أنه لا يحبها ولكنه وعد بزواجها.»
ونراه يكتب إلى صاحبه سبيد قائلا: «أود أن أسألك سؤالا؛ أأنت الآن في شعورك وقياسك فرح بزواجك؟ إنه سؤال لم تقدم به غيري لكان تهجما لا يغتفر، ولكني أعلم أنك ستغفره لي، أرجو منك أن تجيب في غير إبطاء؛ فإني أتحرق شوقا إلى إجابتك.»
وأخذ أبراهام يحاول أن يكون في عيني ماري كأحسن ما يكون، حتى لقد مالت به محاولته إلى الفخر وهو الذي يكرهه بطبعه، فنراه يعد قائمة بما نال من أصوات الناخبين في أدوار انتخابه، ويفرح إذ تقع عليها عينا ماري فهو يريد أن يريها مكانته، ويفسر لنا ذلك سببا من أسباب تردده في صلته بهذه الفتاة؛ فإنه كان يستخذي من نشأته وطبقته.
وقضي الأمر فربط بينهما رباط الزواج وهو في الثالثة والثلاثين من عمره وهي في الرابعة والعشرين، وقال الذين شهدوا العروسين حين عقد قرانهما إنهم رأوا لنكولن وعلى وجهه إذ ذاك سحابة من الكآبة والوجوم، كانت تنقشع حينا على ما يتكلف من بشاشة ثم تعود فتنعقد!
ولكنه استنشى نسيم الراحة حين ذهب تردده وتهيبه، وأخذت تتزايل هواجسه، ويتضاءل هوانه على نفسه، وتعود إليه ثقته بتلك النفس سيرتها الأولى.
نضج
كان لنكولن المحامي قد عمل مع شريك آخر غير ستيوارت اسمه لوجان قبل زواجه بثلاث سنوات؛ إذ انتخب ستيوارت عضوا في الكونجرس، وترك سبرنجفيلد، وكان لوجان من أكبر المحامين شهرة في المدينة، وكان له من النظام والدقة والإلمام بأوضاع المهنة وتقاليدها ما يعوز الكثير منه صاحبه لنكولن. وكانت له الرياسة في العمل، ورضي لنكولن بمكانه منه ولم يجد في ذلك غضاضة؛ إذ لم يكن منه بد، وأخذ يتعلم عنه ويكتسب منه المران والخبرة وهو قانع بنصيبه من الأجر وإن كان زميله لا يعدل بينه وبينه، على أنه كان لا يميل في جوره كل الميل. ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرارهما معا لولا أن فرقت بينهما ريح السياسة؛ إذ كان كل منهما ينتمي إلى حزب يخالف الآخر.
واتخذ أبراهام زميلا آخر، وكان هذا الزميل الجديد شابا دونه في العمر بعشرة أعوام اسمه هرندن، وكان هرندن من أشد الناس إعجابا بأبراهام، يحرص كل الحرص على مودته والإجلال له، فتوثقت عرى الصداقة بينهما، وكانت لأبراهام الرياسة هذه المرة، وعظمت ثقة كل من الرجلين بصاحبه. وكان أصغرهما موفور الحظ من النشاط والذكاء، كما كان يدين بمذهب صاحبه في السياسة، وفيما هو أهم عند لنكولن من السياسة؛ أعني مسألة العبيد.
واتضحت للناس آيات نضجه في المحاماة، كما وقفوا منه على ما لم يعرف به أحد قبله في المدينة؛ فهو بسيط في كل شيء، يجعل الأمر فيما يعمل أمر ذمة وأمانة قبل أن يجعله أمر قانون ومغالبة، وكثيرا ما كان ينظر إلى ما يتنازع فيه الناس بما يوحي به قلبه لا بما يصوره عقله. وكان يرد كل شيء إلى أصله، ولا يتردد أن يفصل بين الخصمين بما لو فكر فيه غيره لعده من ضروب الخيال والوهم، وإن من الناس من يرد ذلك إلى ما أشيع من شذوذه.
Shafi da ba'a sani ba