ودأبت ماري على سعيها وصبرها، وليس من شك أنها لولا ما كانت تشعر به نحوه من أكيد الحب لانصرفت عنه، قالت عنه بعد ذلك بسنين: «لم يكن مستر لنكولن من الوجاهة كما كان مستر دوجلاس، ولكن الناس لم يكونوا يلحظون أنه كان لقلبه من الكبر بقدر ما كان لذراعه من الطول.» وقالت في معرض آخر كلاما غير هذا ينطق بطموحها وتعليقها الفوز بأحلامها على الظفر به، ومن ذلك قولها: «إن مستر لنكولن سيكون رئيسا للولايات المتحدة يوما ما، ولولا أني رأيت ذلك فيه ما قبلت أن أتزوج منه، فإنه لم يكن وجيها.»
وحدد اليوم الأول من سنة 1841 موعدا للزفاف، وأخذ لنكولن ينظر إلى ذلك اليوم، وكلما اقترب منه أحس في جسمه بما يشبه الحمى من فرط اضطرابه، فلما كان اليوم السابق لهذا الموعد المحدد، رآه الناس في حال من الهم مخيفة، ولكنه على الرغم من ذلك كان مكبا على عمله في مكتبه وفي المجلس كأن لم يكن به شيء.
وفي الموعد المضروب أخذ أهل العروس أهبتهم لاحتفال يليق بمكانة أسرتهم، واستعدوا للقاء الأصدقاء والصديقات، وأخذت العروس زخرفها وازينت، ولكن وا عجبا أين الزوج؟! أبلع به الخبل هذا البلغ؟! لقد غاب والجمع في انتظاره! يا له من موقف! ويا لها من صدمة تصيب ماري المدلة المتكبرة!
وظن أبراهام أنه بفعلته هذه يستطيع أن يسترد حريته ويخلص من هذا الرباط الذي أوشك أن يوثقه، فلا تجدي في الفكاك منه حيلة، وأكب على عمله يحاول أن يخدع الناس أو يخدع نفسه بأن ليس في الأمر شيء، ولكنه ما لبث أن أحس أن فعلته هذه ضد الشرف فحاق به اليأس، وزاده غما على غم تفكره في أنه ألحق الضرر بفتاة رقيقة قوية العاطفة بيديه القبيحتين، كتب إلى زميله ستيوارت: «إما أن أموت أو تتحسن حالي، ولكن بقائي فيما أنه فيه ضرب من المستحيل.» وبعد ذلك بأيام انقطع عن شهود جلسات المجلس؛ إذ كان عند الطبيب.
صديق صدوق
وما حيلة الطب في نواز توبق الروح وهواجس تعمي القلب، وإن بدت آثار هذه وتلك في نواحي البدن؟ عجز الطبيب ولا عجب أن يعجز، وجاء الصديق ليفعل ما لم يستطع الطبيب أن يفعل وهو خبير بالعلة عليم بموضعها من نفس صاحبه.
باع سبيد حانوته، وعول على الرحيل إلى كنطكي، فعرض على صاحبه لنكولن أن يذهب معه إلى هناك عله يشفى مما به في تلك الأحراج التي درج منها أول ما درج. دعاه سبيد أن ينزع نفسه وجسمه من ذلك البلد الذي يكربه العيش فيه، بعد أن كان مهوى خواطره ومنتجع آماله، ورحل أبراهام مع صديقه، وقد اخترم الهم جسده فزاده نحولا على نحول، وزين له الشيطان أن يطلب النجاة من الحياة.
ولبث في كنطكي أياما لقي فيها من كرم صاحبه وكرم أمه وأخته ما هون عليه أمره شيئا قليلا، وصاحبه لا يفتأ ينصح له ويسري عنه، وهو يشكو إليه اضطراب أعصابه، ويظهره على هواجس نفسه ويذكر له، والألم يبرح به فعلته التي فعل، فكان غير كريم، بل كان من الضالين!
على أنه كتب وهو في كنطكي رسالة في الانتحار ترينا أن اليأس كان قد أوشك أن يذهب عنه. خذ لذلك مثلا قوله: «إني لم أصنع في حياتي شيئا يذكر أي إنسان أني عشت، ومع هذا فإن ما أود أن أعيش من أجله هو أن أربط اسمي بحوادث يومي وجيلي، وأن أقرن ذلك الاسم بصنيع يكون لمن حولي من الناس فيه جدوى.»
بيد أنه لم يلبث وقد كان يلتمس العون من صديقه أن رأى ذلك الصديق في حاجة إلى من يعينه، فلقد طاف به على حين غفلة طائف من الحب ملك عليه قلبه وعقله.
Shafi da ba'a sani ba