وقضى جاكسون ما بقي من مدة رياسته الثانية في هدوء، ولو كانت له شهوة للحكم كما ادعى خصومه لقبل رياسة ثالثة، ولكنه آثر أن يفعل كما فعل وشنطون؛ فرفض الترشيح على الرغم من إلحاح الشعب، وذهب إلى عزلته حيث عاش تسع سنوات ثم قضى نحبه بعيدا عن السياسة وأعاصيرها، وانقضت حياة الرجل الذي كتب بأفعاله صفحة مجيدة في تاريخ أمريكا، فوطد سلطة الشعب وقضى على سيطرة الفئة القليلة من السياسيين، وأقام بنيان الاتحاد وقد أوشك أن ينقض، وجعل سلطة الرئيس مستمدة من الرأي العام، متمشيا في ذلك مع روح الديمقراطية.
عضو في مجلس إلينوى
في سنة 1834 تقدم لنكولن ثانية للناخبين، وكان يومئذ قد ناهز الخامسة والعشرين! وبعد جهود متصلة فاز أبراهام بأغلبية الأصوات، فأصبح عضوا في المجلس التشريعي لولاية إلينوى، وكان ذلك في رياسة جاكسون الثانية، ولقد منحه بعض الديمقراطيين أصواتهم وهو هوجي؛ وذلك لفرط محبتهم إياه.
وكانت قاعدة الولاية مدينة فانداليا، وهي على نحو خمسة وسبعين ميلا جنوبي نيو سالم، وفيها ينعقد مجلسها التشريعي، فكان على لنكولن أن ينتقل إليها، فاقترض بعض المال ليشتري من الملابس ما يصلح لمن يمثل الناس في المجلس التشريعي، وبهذا أضاف بعض الجنيهات إلى دينه الأهلي!
وكان هذا المجلس يمثل نحو ربع مليون من السكان، ويبلغ عدد أعضائه نحو ثمانين، يجلس منهم الثلثان في قاعة وهم النواب، والباقون في قاعة أخرى وهم الشيوخ.
وكان مقعد لنكولن بين مقاعد النواب، ونظر عامل البريد ومخطط الأرض حوله يتطلع إلى زملائه ويقارن في صمت بينه وبينهم، ويذكر أنه قرأ كثيرا من الكتب وعني بينها بكتب القانون، وأنه سافر في تجارة مرتين، وأنه خبير بالطرق ومجاري الأنهار، وأنه عليم بحال الناس في مقاطعته منذ أن عمل في البريد وفي تخطيط الطرف؛ فهل يقل مرتبة عن هؤلاء السادة الذين يجلسون حوله؟! إنه يفسح لهم ويقدمهم على نفسه ويخفض جناحه لهم جميعا، وينصت إلى مناقشاتهم في صمت، لا يقاطع، ولا يدفع بنفسه إلى الظهور كما يفعل غيره، ولكن مرد ذلك كما يحس بينه وبين نفسه إلى خلقه لا إلى تهيبه أو فقدانه الثقة في نفسه.
وهو مغتبط أن يرى لونا جديدا من الحياة وبيئة جديدة من المجتمع، وإنه ليفكر ويتدبر ويدير عينيه إلى كل شيء ويختزن في رأسه كل شيء، وإن طول قامته ليلفت إليه الأبصار أينما ذهب. على أنه أخذ يجتذب القلوب كذلك بشيء يلازمه أبدا؛ وذلك هو ما يقص من أنباء وما يروي لجلسائه من قصص!
وهو في السياسة وأساليبها معجب بهنري كليي وما أوتي من مهارة وكياسة، وعلى الأخص في تقريب مسافة الخلف بين المتخالفين؛ فما ينشأ خلاف إلا كان هنري صاحب اليد الطولى في إزالة أسبابه، وإنه كذلك لخطيب يقل أنداده، ثم إنه رجل برلماني يتمنى الرجال أن يكون لهم مثل ما أوتي من لباقة وفصاحة، وما توافى له من قوة عارضة وبلاغة بيان ومهارة جدل.
أما من حيث المبدأ فهو وإن كان من الهوج إلا أنه يحب جفرسون حبا عميقا، ويعجب بإخلاصه في ديمقراطيته، وبشدة وطنيته، وصادق حرصه على بناء الاتحاد، وعميق إيمانه بالشعب ومبدأ سيادة الشعب، وهو يكبر جاكسون ولكنه يحس بشيء من القلق يشبه الكراهية إزاء بعض تصرفاته؛ فهو وإن كان يستند فيها إلى الشعب إلا أنه يشعر المرء بما هو أقرب إلى الأساليب الديكتاتورية.
ثم اتضح من خلال أبراهام في المجلس ما عطف عليه القلوب؛ رأى منه زملاؤه الإخلاص والحماسة في غير تعصب؛ فهو يدافع عما يعتقد أنه الصواب في قوة وفي إصرار يشبه أن يكون عنادا، فما إن يتبين الحق في جانب مجادله حتى يسلم له في سرعة تسليم الرضاء والغبطة، وأنس فيه زملاؤه فوق ذلك قوة في التعبير عما يريد، كان مبعثها لقانة عجيبة تواتيه بالكلمة المطلوبة لا تزيد ولا تنقص عما في خلده من معنى، وتلك خلة ستكون في غد جانبا من أهم جوانب زعامته.
Shafi da ba'a sani ba