وإنا لنلمح شخص المحامي الناشئ في شخص عامل البريد هذا، على أنه تقدم فعلا ليدافع عن بعض الناس أمام المحلفين في بعض الجلسات الهينة في تلك الجهات، وقد عرف عنه أنه ما وقف يدافع يوما إلا عما يعتقد أنه الحق! كما اشتهر بسداد رأيه وقوة عارضته ومتانة حججه.
ولم يجعل همه جميعا إلى كتب القانون؛ فهو يقرأ كتب التاريخ وبخاصة تاريخ زعماء أمريكا الأولين من أمثال وشنطون وجفرسون، ومما يعجبه من حياة وشنطون، فضلا عما تحفل به من معاني العظمة، أنه كان يكره الرق، وليس ينسى أن ذلك الرئيس قد رفض أن تجبر على العودة إلى صاحبها زنجية فارة وجعل لها في ذلك الخيار.
وقد دله صاحب له على شكسبير بأن أسمعه عبارات يحفظها له، فهام بذلك الشاعر هياما عظيما حتى جعل شعره مسلاته في ساعات همه.
ومست قلبه في تلك الأيام لذعة من الألم؛ فقد ألم به ما يلم بالشباب من علل الشباب، وانعقدت أمام بصره سحب قاتمة من الهم كان مبعثها ما دب في قلبه من حب، يا عجبا! أكل شيء يبتعث في نفسه الهم؟! ألم يأن أن تبتسم له كما تبتسم لغيره الحياة؟
كان قبيل إقباله على السياسة قد أحس في نفسه ميلا نحو آن ابنة صاحب الخان الذي وجهه هذه الوجهه السياسية: مال إليها قلبه لأول نظرة ألقاها عليها، وكان ذلك ذات مساء حيث زار خان أبيها، ولكنه ما لبث أن علم أنها لن تكون له؛ إذ كان لها خاطب غني درت عليه التجارة مالا وفيرا، فاستخذى وكأنه ما أحس مضض الفاقة إلا في ذلك اليوم، وتصرمت الأيام وهو يغالب هذه العاطفة القوية، حتى علم وهو يعمل في البريد أن فتاها انصرف عنها ونسي ما كان بينه وبينها، وقد نزلت بأبيها الفاقة، وخيل إلى أيب أنه اليوم يستطيع أن يصل إلى قلبها، ولكن مزاحما آخر يأخذ عليه الطريق مدلا عليه بماله، وإن كان لا يدانيه في كفايته ولا خلقه. ويذوق أيب مرارة الفاقة ثانية، وذلك ما صور له طيوفا من الشجن أخذت تزداد حتى ليضيق بها قلبه ويكاد يصل به الأمر إلى القنوط. روي عنه يومئذ أنه قال لأحد خلانه: «ربما ظهر مني حين أكون في رفقة أني أستمع بالحياة في نشوة، ولكني إذا ما خلوت إلى نفسي أخذتني حال من الهم حتى لا أجرؤ أن أحمل معي مبراة.»
على أن في انصرافه إلى عمله وهو يحمل الخطابات في قبعته من دسكرة إلى دسكرة ما يلهيه بعض الوقت ، وإن له كذلك في الكتب عزاء وسلوة؛ له في شكسبير وبيرنز ما تأنس به روحه، وله في تراجم العظماء ما يبهج نفسه ويثبت فؤاده.
وأضيف إلى عمله في البريد عمل آخر دله عليه أحد خلصائه؛ وهو تخطيط الأرض ورسم المصورات للطرق الجديدة، التي كانت تنشئها الحكومة يومئذ وتوضح معالمها للناس ليهتدوا بها في مسيرهم في تلك الأصقاع البرية، واختاره رئيس الخطاطين لما عرف من ذكائه، ولكنه كان ديمقراطي المذهب، فاشترط أبراهام ألا يؤثر عمله في حرية رأيه السياسي، فكان له ما أراد. ولقد حذق أبراهام هذا العمل الجديد في أيام قليلة، وصار بعد توزيع البريد يحمل منظاره ولوحته وقلمه ويتنقل بين الأحراج يرسم الطرق، وكان يأتي ذلك بما عرف عنه من الدقة في كل ما يعهد إليه، وكان يتكئ على نفسه عله يستطيع أن يدفع بعض الدين الأهلي، وكان يخفف عنه الجهد تذكره أن وشنطون قد عمل مثله في تخطيط الأرض.
ولكن الدائنين لم يدعوا أيب فيما هو فيه من كد، واشتد إلحاح أحدهم فما يقبل أن ينتظر ساعة؛ لذلك أقبل فباع حصان أبراهام وأدوات تخطيطه في مزاد بأمر من الحاكم، وقد عز على أبراهام أن يشهد هذا البيع فانصرف ريثما يتم، ولكن صاحبا له من ذوي المروءة تقدم فدفع المال المطلوب وخلص له أشياءه! ولقيه فقال له: «رد إلي هذا المال متى قدرت على رده، فإن لم تقدر فلا عليك منه يا صديقي.» ولقد مات هذا الصديق بعد حين واجتمع أصحابه لرثائه، ووقف أيب فما استطاع أن يتكلم، لقد اصفر وجهه وحاول أن يحرك لسانه فما تحرك إلا دمعه، فجلس وماء جفنيه ينهمر وهو الذي يحبس في الخطوب أدمعه!
واستمر أيب يعمل في تخطيط الأرض أربع سنوات، ولولا هذا العمل لعاود سوء الحال؛ فإن مكتب البريد في نيو سالم قد أغلق وانقطعت وظيفته من البريد، ومن عجيب أمره أنه - على خصاصته - قد احتفظ بمبلغ بقي في ذمته للقائمين على شئون البريد، وظل هذا المبلغ عنده أكثر من عشر سنوات ، حتى جاءه مفتش - وهو محام مشهور المكانة في مدينة سبرنجفيلد - يتصيده مطالبا إياه أن يؤدي مبلغا من الإيراد بقي عنده وأظهرته المراجعة، وكان إلى جانب أيب يومئذ صديق له رآه يتفكر في أمره، فهمس في أذنه يعرض عليه أن يدفع المبلغ، ولكن أيب يفيق من تفكره قائلا للمفتش: «انتظر دقيقة ...» وينصرف ثم يعود بعد قليل وفي يده جورب قديم كان قد ربطه على المبلغ، فبقي طوال هذه المدة حيث هو لم تمسه يده، فلما فتح وجد فيه ذلك المال بجملته ومفرداته!
سياسة وساسة
Shafi da ba'a sani ba