كان يخشى الرئيس أن يغضب التحرير الشامل العاجل الولايات المحايدة فتنضم إلى الاتحاد الجنوبي، وكان يعد ذلك والحرب قائمة كارثة عظيمة. ثم إنه يخشى أن يتهم أنه ما أثار هذه الحرب الضروس إلا من أجل القضاء على الرق مع أن الدستور يقره، وهو لم يخض غمار هذه الحرب إلا للمحافظة على الاتحاد.
وإذا أقدم الرئيس على التحرير خرج بذلك على الدستور وهو الحريص على مبادئه، العامل منذ اشتغاله بالسياسة على المحافظة عليه وتقديسه.
ولكن الرئيس يرى للمسألة وجوها أخرى، فالتحرير في ذاته هو العمل الإنساني الجليل الذي طالما تاقت نفسه إليه منذ حداثته، وقد كان الرق أبغض شيء إلى نفسه، وهو في الوقت نفسه يرى أن تحرير العبيد سوف يدعوهم إلى التمرد على سادتهم في الجنوب، فتضعف شوكة هؤلاء السادة في الحرب، هذا إلى ما يرجى من رفضهم في العمل في فلاحة الأرض بعد تحريرهم، فيضطر البيض إلى العمل مكانهم، فتتضاءل جيوشهم وتضعف مواردهم، فضلا عن أن التحرير من شأنه أن يكسب الرئيس وحكومته عطف الأحرار في أوروبا، فلا تناوئه بالتدخل في هذه الحرب. وأما عن الدستور فالتحرير ضرورة تدعو إليها الضرورة الحربية، ولن يجد الرئيس صعوبة كبيرة في حمل ممثلي الأمة على تعديله فيما يتصل بهذا الأمر.
وتفكر الرئيس وأطال التفكر، وكلما مر يوم ازداد ميله إلى التحرير وبعد عن تردده، ولكن شيئا واحدا لا يزال يقوي ميله إلى التريث؛ وذلك هو الموقف الحربي وما فيه من خذلان وضعف وجمود من جانب ماكليلان حتى صيف هذا العام الثاني للحرب، عام المحنة والخوف.
ولكن دعوة التحرير تشتد، وكلما بلغت مسامع الرئيس هزت نفسه إلى هذه الخطوة الإنسانية الكبرى، فيكاد ينسى كل اعتبار غيرها، وإنك لتجد ما يهجس في نفسه واضحا في هذه العبارة التي كتبها بخط يده: «إني بطبيعتي أمقت الرق، وإذا لم يكن الرق خطأ فما في الدنيا من خطأ قط، ولست أذكر لحظة لم أفكر فيها هذا التفكير وأشعر هذا الشعور، ولكني في الوقت نفسه لم أذهب إلى أن الرياسة أكسبتني حقا لا يدفع أن أعمل رسميا وفق هذا التفكر وهذا الشعور، لقد كان هذا القسم الذي أقسمته ينطوي على أن أحافظ على دستور الولايات المتحدة، وأن أحميه وأن أدافع عنه، وما كنت لأشغل هذا المنصب بدون قسم، وما اتجهت قط إلى أني أؤدي القسم الذي به أصل إلى السلطة، ثم أقضي على هذا القسم أثناء استعمالي هذه السلطة. وكذلك كنت أفطن إلى أنه في الأحوال المدنية العادية يمنعني هذا القسم من أن يكون لمجرد اعتباري الخلقي تجاه الرق أثر عملي في مسلكي، أكان من الممكن أن أفقد الأمة وأحافظ على الدستور؟ إن القوانين العامة تقضي بأن أحمي حياتي وساقي، ولكن الساق يضحى بها في العادة لإنقاذ الحياة، ولن يتمشى مع العقل أن يضحى بالحياة لإنقاذ الساق. وشعرت بأن بعض الإجراءات وإن عدت غير دستورية في مواقف أخرى، إلا أنها تجد ما يبررها من حيث إنها لا بد منها للمحافظة على الدستور، وذلك بالمحافظة على الاتحاد ذاته.»
وتبين الرئيس موقفه فأخذ يتحفز ويستجمع قوته ليقدم، ثم عزم وصمم فليس من الإقدام بد، وليس لما عسى أن يلقاه من معارضة أي وزن عنده. ومتى عقد أبراهام النية على أمر ثم تخاذل عنه أو تهاون في العمل على إنفاذه؟
صمم الرئيس أن يضرب الضربة التي طالما تمنى أن يضربها، أجل أراد أبراهام لنكولن اليوم أن يضمن تاريخ البلاد، بل وتاريخ الإنسانية، أجل عمل قام به؛ ألا وهو تحرير العبيد في أمريكا، وإنه لن يحجم اليوم أن يعلن رسميا في مجال واسع ما أنكره قبل عام من فريمونت وهنتز، ولن يتردد أن يأخذ بما رفض من قبل مهما يكن من غرابته، وهو كفيل أن يوضح للناس قضيته وأن يحمله على قبول حجته.
وفي الثاني والعشرين من شهر يوليو دعا الرئيس إليه مجلس الوزراء، ولم يكن يعلم أحد منهم الغرض من الاجتماع. ولما اكتمل عقدهم، نظروا فإذا على وجه الرئيس من أمارات الجد ما لا عهد لهم بمثله، حتى في أخطر ما سلف من المواقف. وأخرج الرئيس من جيبه ورقة طلب إليهم أن يستمعوا إلى ما جاء فيها، وراح يتلوها في حزم وثبات: «أنا أبراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والقائد الأعلى للقوات البرية والبحرية للاتحاد ...» وأنصت الوزراء فإذا به يتلو عليهم قرار التحرير.
وتعجب الوزراء ونظر بعضهم إلى بعض، فهذا الرئيس لم يدعهم ليشاورهم، ولكن ليعلن إليهم ما عقد عزمه عليه، وقطع سيوارد الصمت بأن رجا من الرئيس أن يرجئ إعلان ذلك إلى حين؛ فإنه إن فعل اليوم والحرب على ما هي عليه والشماليون يلاقون الهزائم، عد ذلك ضربا من اليأس، وأخذ على أنه خطوة مهزوم مستضعف.
وتدبر لنكولن في قول سيوارد فرأى وجاهته، ثم وافق على التأجيل على ألا ينكص على عقبيه إذا ظفر الشماليون بأول انتصار لهم؛ لأنه يرى تأييدا لكلام سيوارد أن التحرير والشماليون في ضعفهم معناه «آخر صرخة في الهروب.»
Shafi da ba'a sani ba