هكذا كان أبراهام يحس ما يخبئه له الغد من مكروه؛ ولذلك فهو يقدم على علم بما ينتظره، فلا يتهيب ولا ينكص وإنما يحذر ويتدبر أن تصيب بلاده دائرة.
وظل يمني نفسه أن يثوب أهل الجنوب إلى رشدهم وأن تخشع للحق قلوبهم، ولكنهم في شطط من عنفهم وغرورهم، فها هي ذي الأنباء تأتي بجديد من كيدهم، وبيان ذلك أنه كانت لحكومة الاتحاد حصون في الولايات الساحلية، بها جند تحميها، وكان من تلك الحصون في كارولينا حصنان؛ أهمها حصن سمتر، فأرادت كارولينا أن تستولي على الحصنين لتتم سيادتها فلم تفلح إلا في أحدهما، وكان ذلك عقب إعلان انفصالها.
واحتمى الجند في حصن سمتر وأرسلوا إلى الرئيس بوكانون أن يمدهم بالعون والذخيرة، فلم يستطع بوكانون أن يصم أذنيه عن هذا الطلب وأرسل سفينة تحمل المئونة والرجال، ولكن أهل كارولينا أطلقوا النار عليها في ميناء شارلستون وأجبروها على الرحيل، وطلبت حكومة الاتحاد الجنوبي تسليم حصن سمتر، فرفضت الحامية بقيادة أندرسون أن تسلمه، فضرب عليه الحصار، وبات في الواقع أهل الشمال وأهل الجنوب في حرب.
وعاد سيوارد يلح على أبراهام أن يتفق أهل الشمال وأهل الجنوب على شروط تخفف من غضبهم، فرفض أبراهام ذلك وأعلن أنه مصر على الرفض مهما يكن من الأمر. ولما يئس سيوارد من إقناعه عرض عليه أن يزحف على العاصمة في جيش من المتطوعين، ويأخذ بيده زمام الأمور من بوكانون قبل أن يستحفل الشر، فرفض أبراهام أن يفعل ذلك لما فيه من خروج على الدستور.
وازداد الموقف شدة حين ترامى إلى سمع لنكولن أن كثيرا من الناس يودون لو ينسحب ويدع تقرير الأمور إلى رئيس غيره يختار. ولو أن رجلا غيره كان في موقف مثل موقفه هذا لخارت عزيمته وانكسرت نفسه، ولكنه ما وهن ولا استكان، وما زادته الشدائد إلا صبرا وعزما ولا المحن إلا رغبة في النضال والجلاد.
وظل في سبرنجفيلد يعد الأيام بل يعد الساعات وفي مسمعيه بل في أعماق نفسه دوي العاصفة، ولكنه لا يستطيع اليوم أن يفعل شيئا؛ الأمر الذي يؤلمه ويكربه. قال ذات ليلة لأحد أصحابه وقد جلس إليه يحدثه ويسري عنه: «إني أرحب أن أفقد من عمري من السنين ما يساوي عدده ذينك الشهرين الباقيين لي هنا؛ كي أتسلم مقاليد منصبي وأقسم اليمين الآن.» ولما سأله صاحبه لم ذلك أجاب بقوله: «لأن كل ساعة تمر علي هنا تزيد تلك المصاعب التي انتدبت لمواجهتها، وما تفعل الحكومة الحاضرة شيئا لمقاومة هذا الاتجاه نحو الانهيار، وأنا الذي دعيت لكي أضطلع بهذه التبعة الخطيرة يتحتم علي أن أبقى هنا لا أعمل شيئا ... وإن كل يوم يمر إنما يزيد في حرج الموقف وصعوبته.»
على أنه يحاول أن يفعل شيئا وهو في سبرنجفيلد، فإن له صديقا من أهل الجنوب؛ ألا وهو ألكسندر ستيفن زميله في الكونجرس، ذلك الديمقراطي الذي ألقى خطابا ذات يوم في صدد حرب المكسيك دمعت له عينا صاحبه، وأشار إلى شدة إعجابه به فيما كتب يومئذ إلى صديقه هرندن، ولقد ظلت صلته وثيقة بهذا الديمقراطي منذ أن عرفه قبل اثنى عشر سنة.
ولقد قرأ لنكولن بعد انتخابه بشهر خطبتين لصديقه الجنوبي، جاء فيهما أن اختيار لنكولن عمل دستوري، وأن الثورة خطة غير مضمونة، وإذا وقعت الحرب فقد تؤدي إلى القضاء على الرق. وكان صوت ستيفن نذيرا لأهل الجنوب، وسرعان ما ذاع في الأمة كلها، وكان وقعه عظيما في نفس لنكولن، فكتب إليه أبراهام يساله أن يرسل إليه الخطبتين، فرد عليه ستيفن يعتذر بأنه لم يحتفظ بنصيهما وجاء في رده قوله: «إن الأمة في خطر عظيم حقا، ولم يقع قط على كاهل رجل من التبعات ما هو أعظم مما يقع على كاهلك في هذه الأزمة القائمة.»
وكتب إليه لنكولن في كياسة وحسن سياسة يقول: «هل يعتنق الناس في الجنوب الخوف حقا مما عسى أن يؤدي إليه قيام حكومة من الجمهوريين من تدخل في شئون الرقيق، أو تدخل في شئونهم هم، فيما هو من الرق بسبب؟ إذا كان الأمر كذلك، فإني أود أن أؤكد لك - وقد كنت صديقي ذات مرة ولست كما أرجو حتى اليوم من عدوي - أن هذه المخاوف لا تقوم على شيء، لن يكون الجنوب اليوم في هذه الحال أقل أمنا مما كان في عهد وشنطون، وإني أظن أن هذه المخاوف لا تتفق والقضية القائمة، إنكم ترون أن الرق صواب وينبغي أن يتسع نطاقه، ونحن نرى أنه خطأ وينبغي أن يمنع اتساعه، وهذا هو الاحتكاك، إنه حقا هو الخلاف الوحيد الملموس بيننا وبينكم.»
ولكن ستيفن الذي طالما ذهب مذهب صاحبه فيما مضى في سبيل الإنسانية، وإن اختلفا من الوجهة الحزبية، ما لبث اليوم أن انساق في تيار الجنوب، حتى لقد أصبح نائب الرئيس في الاتحاد الجنوبي، وعدم لنكولن في هذه المحنة معونة رجل كان يرجو على يديه أن تضيق هوة الخلاف بين شقي الأمة.
Shafi da ba'a sani ba