فجالت في عينيها نظرة حيرى، تشي بالارتياب وتتحفز للعناد والانقضاض، فابتسم برقة واستدرك يقول: تيتي العزيزة .. رويدك، ستعلمين كل شيء في حينه. ألم تعلمي بأنك ستصيرين غدا سيدة باهرة الجمال بعيدة الصيت؟ .. هذه هي معجزة هذا البيت. أم حسبت أن السماء تمطر ذهبا وماسا؟ .. كلا يا عزيزتي، إن السماء في أيامنا هذه لا تمطر إلا شظايا، والآن خذي أهبتك لاستقبال الخياطة. ولكن معذرة لقد ذكرت أمرا هاما؛ ذكرت أنه ينبغي أن أصحبك لزيارة مدرستي - أنا ناظر يا محبوبتي ولست قوادا كما دعوتني بالأمس - فالتحفي بهذا الروب، وانتعلي هذا الشبشب.
وذهب إلى التواليت فأتى بزجاجة زرقاء كروية يتصل بفم معدني فيها أنبوبة من المطاط الأحمر، وسدد فوهتها نحو وجهها، وجعل يضغط على الأنبوبة فيمج في صفحة وجهها سائلا زكي الشذا، وقد ارتعشت بادئ الأمر شاهقة، ثم استنامت إلى طيبها في دهشة وارتياح. وألبسها الروب بنفسه، وجاءها بشبشبه فانتعلته، ثم تأبط ذراعها ومضى بها إلى الحجرة الأخرى، ثم إلى الردهة الخارجية. وسارا معا متجهين صوب أول باب إلى اليمين وهو يقول لها محذرا: إياك وأن تبدي خجلة أو خائفة .. إني أعلم أنك جسورة لا تهابين شيئا.
وأثابها تحذيره إلى رشادها، فحدجته بنظرة حادة، ورفعت رأسها في استهانة، فابتسم قائلا: هذا أول فصل في المدرسة .. فصل الرقص العربي.
وفتح الباب ودخلا. رأت حجرة متوسطة، جميلة البناء، ذات أرض خشبية لامعة، تكاد تخلو من الأثاث، اللهم إلا عددا من المقاعد نضدت في جناحها الأيسر، ومشجبا كبيرا في ركنها الأقصى، وقد جلست فتاتان على مقعدين متجاورين، ووقف في الوسط فتى في جلباب أبيض حريري مهفهف محزما بزنار. اتجهت الرءوس نحو القادمين، وجرت على الثغور بسمات التحية، فقال فرج إبراهيم بلهجة قوية تنم عن السيادة حقا: صباح الخير .. هذه صديقتي تيتي.
وحنت الفتاتان رأسيهما تحية، ثم قال الفتى بصوت متكسر مخنث: أهلا يا أبلة.
وردت تيتي التحية في شيء من الارتباك، وهي تطيل النظر إلى الفتى الغريب. كان - على غير ما يبدو - في نهاية العقد الثالث، وضيع الملامح، أحول العينين، يزين وجهه بزواق نسائي من كحل وحمرة وبودرة، ويلمع شعره الجعد بالفازلين. فابتسم فرج إبراهيم وقال يعرفه لها: سوسو معلم الرقص.
وكأنما أراد سوسو أن يقدم لها نفسه بطريقته الخاصة، فأشار إلى الفتاتين المتجاورتين غامزا بعينيه، فراحتا تصفقان على «الواحدة»، وانساب الأستاذ راقصا كالأفعوان، في خفة وليونة يثيران الدهشة، حتى خالته جسما بلا عظام ولا مفاصل، أو أنه قطعة من مطاط مكهرب. كان كل ما فيه يرتعش بلا توقف .. ردفاه .. وسطه .. صدره .. رقبته .. حاجباه. وكان يلقي بنظرة متكسرة متضعضعة، مبتسما ابتسامة فاجرة عن أسنان ذهبية. ثم اهتز هزة عنيفة ختم بها ارتعاشه الفني، واستقام ظهره فكفت الفتاتان عن التوقيع. لم يكن في نية سوسو أن يرقص؛ ولكنه رغب في أن يحيي القادمة المستجدة تحية راقصة على سبيل المثال، والتفت نحو فرج إبراهيم متسائلا: تلميذة جديدة؟
فالتفت هذا بدوره إلى تيتي وقال: أظن هذا. - ألم ترقص فيما سلف؟ - كلا.
فابتسم سوسو مسرورا وقال: هذا أفضل يا سي فرج. إذا كانت تجهل الرقص فهي عجينة طرية أصورها كيفما أشاء، أما أولئك اللاتي يتعلمن الرقص على غير أصوله فما أشق تعليمهن.
ونظر إلى تيتي، وثنى رقبته يمنة ويسرة وقال بصوت فاضح: أم تحسبين الرقص لعبا يا أبلتي؟! .. العفو يا حبيبتي .. هذا فن الفنون، وأستاذه له الجنة ونعيمها بغير حساب؛ جزاء ما يتجشم من عناء أو مشقة .. انظري.
Page inconnue