وفهمت الست سنية المقصود لأول وهلة، فالرجل لا يريد أن يدفع صداقا، ويرغب ولا شك في أن يترك لها وحدها عبء الجهاز، ولم يكن ذلك ليغيب عنها من أول الأمر، منذ تملكتها الرغبة في الزواج. وسبق أن لمحت أم حميدة إلى هذا في ثنايا أحاديثها، فلم تفكر قط في الاعتراض عليها. فقالت بلهجة تنم عن التسليم: ربنا المعين.
فابتسمت أم حميدة وقالت: نسأل الله التوفيق والسعادة.
ونهضت المرأة تريد الانصراف، فتعانقتا عناقا حارا، وسارت الست في توديعها حتى الباب الخارجي، ووقفت مرتفقة الدرابزين، وأم حميدة تنزل السلم إلى شقتها، وقبل أن تغيب عن ناظريها هتفت بها: مع ألف سلامة، قبلي عني حميدة.
ثم عادت إلى حجرتها بقلب فتي، ابتعث حرارته الأمل الجديد. وجلست تستعيد ما قالت أم حميدة جملة جملة وكلمة كلمة. كانت الست سنية على شيء من الحرص؛ ولكنه ليس الحرص الذي يقف عثرة في سبيل سعادتها. أجل فطالما آنس المال وحدتها، سواء ذاك الذي تحفظه في صندوق التوفير، أو هذا الذي تتملاه رزما جديدة بديعة في صندوقها العاجي، ولكن لا هذا ولا ذاك بمغن عن الرجل الخطير الذي سيصبح بإذن الله بعلا لها. ولكن هل تعجبه الصورة؟ وتورد وجهها حتى أحست بحرارة دمها تلفح جبينها، ونهضت إلى المرآة تعاين صورتها، وجعلت تحرك وجهها يمنة ويسرة حتى تراءى لعينيها أحسن الأوضاع فثبتته عليه، وأنعمت في الصورة النظر، ولاح في وجهها شيء من الرضا، وغمغمت برجاء: «ربنا يستر»، ثم عادت إلى جلستها وهي تقول: «المال يغطي العيوب.» ألم تقل له المرأة: إنها صاحبة قرش؟! وإنها لكذلك. وليست الخمسون بسن اليأس، فلا يزال أمامها عشرة أعوام، وكم من امرأة في الستين تستطيع أن تتمتع بالسعادة إذا كفاها الله شر الأمراض. والزواج كفيل بري العود الذابل، وبعث الجسد الخامد. هكذا سرحت مع أفكارها الوردية حتى اعترض تيارها الصافي زبد متلبد، فقطبت فجأة، وتساءلت مغيظة: ترى ماذا يقول الناس غدا؟ آه، إنها تعرفهم حق المعرفة، وستكون أم حميدة نفسها في طليعة المتقولين؛ سيقولون: لقد جنت الست سنية، ويقولون: امرأة في الخمسين تتزوج من ابن في الثلاثين، وسوف يتحدثون طويلا عن المال الذي يصلح ما أفسد الدهر، وربما قالوا غير هذا وذاك كثيرا مما لا يخطر لها ببال. فليقولوا ما شاء لهم القول. وهل كانوا أعتقوها من شر ألسنتهم وهي أرملة؟! وهزت الست كتفيها استهانة، ثم دعت ربها من الأعماق قائلة: اللهم احفظني من شر العين!
ثم خطر لها خاطر سرعان ما رحبت به، وصدقت نيتها على تنفيذه، وهو أن تذهب إلى الشيخة رباح بالباب الأخضر تستقرئها الطالع، وتستوهبها بعض الرقى، فما أحوجها في حالتها هذه إلى حجاب مفيد أو بخور نافع.
16 - ماذا أرى؟! إنك لرجل وقور!
قال زيطة ذلك وهو يتفرس وجه رجل عجوز منتصب القامة، يمثل بين يديه في خضوع واستكانة .. كان رث الجلباب، نحيل الجسد، ولكنه ذو مظهر وقور كما قال صانع العاهات، كبير الرأس أبيض الشعر، مستطيل الوجه، له عينان هادئتان خاشعتان، كأنه لوقاره وطول قامته واعتدالها من رجال الجيش المتقاعدين. وراح زيطة يتفحصه بدهشة وأناة على ضوء المصباح الخافت، ثم عاد يقول: إنك لرجل وقور، أترغب في امتهان الشحاذة حقا؟!
فقال الرجل بصوت هادئ النبرات: أنا شحاذ بالفعل؛ ولكني غير موفق.
فتنحنح زيطة، وبصق على الأرض ومسح شفتيه بكم جلبابه الأسود، وقال: إنك أرق من أن تحتمل أي ضغط شديد على أعضائك. والحق أنه لا يصح التقدم لاتخاذ عاهة كاذبة بعد العشرين، فالعاهة الكاذبة والصادقة سواء فيما تقتضيه من عناء! وكلما كان العظم طريا ضمن الشحاذ عاهة في حكم المستديمة حقا، وأنت شيخ كبير على عتبة الفناء، فما عسى أن أصنع بك؟
ومضى يفكر. وكان إذا اعتراه الفكر فغر فاه وأرعش لسانه، فلاح في فمه كرأس أفعى، ثم ومضت عيناه البراقتان بغتة وصاح: الوقار أنفس عاهة!
Page inconnue