فعاد يقول في ابتهاج: ليس من الضروري أن ننتظر حتى نهاية الحرب! .. سنكون أسعد مخلوقين في الزقاق.
وقطبت في تقزز، وندت عنها هذه الكلمة بلا وعي، وفي ازدراء شديد: زقاق المدق!
فنظر إليها في ارتباك ولم يجرؤ على الدفاع عن الزقاق الذي يحبه ويؤثره على الدنيا جميعا، وتساءل منزعجا: ترى هل تزدري هذا الزقاق الطيب كأخيها حسين؟! حقا لقد رضعا من ثدي واحد! وأراد أن يمحو ما تركه فيها من أثر سيئ فقال: نختار المكان الذي تحبين .. هاك الدراسة والجمالية وبيت القاضي، اختاري بيتك حيثما تشائين!
وتنبهت لقوله في حيرة، وأدركت أنها تكلمت أكثر مما ينبغي، وأن لسانها خانها بلا وعي منها، فعضت على شفتها، ثم قالت بإنكار: بيتي؟! أي بيت تعني؟! ما شأني أنا في هذا الأمر!
فهتف بها في عتاب: كيف تقولين هذا القول ؟ ألم يكفك ما عانيت من عذاب؟ ألا تدرين أي بيت أعني؟ سامحك الله يا حميدة؛ أعني البيت الذي سنختاره معا، بل الذي تختارينه أنت وحدك، لأنه بيتك أنت دون الناس جميعا. وإني أهاجر في سبيل هذا البيت كما علمت. ولقد دعوت لي بالتوفيق، فلا مفر من الحقيقة السعيدة الرائعة. اتفقنا يا حميدة وانتهى الأمر.
هل اتفقا حقا؟ أجل اتفقا! ولولا ذلك ما رضيت بالسير معه ومنازعته الحديث والخوض في أحلام المستقبل. وماذا يضيرها من ذلك؟ أليس هو فتاها على أي حال؟ ومع ذلك ساورها شعور بالقلق والتردد، أحقا أصبحت فتاة أخرى لا تكاد تملك من أمر نفسها شيئا؟ وأحست عند ذاك يده تتلمس راحتها وتقبض عليها وتضفي على أناملها الباردة حرارة ودفئا .. أتنتزعها منه وتقول له: «كلا .. لا شأن لي في هذا الأمر»؟! ولكنها لم تفعل شيئا، ولم تنبس بكلمة، ومضيا معا وراحتها في كفه الساخنة، وشعرت بأصابعه تشد عليها بحنان، وسمعته يقول: سنتقابل دواما .. أليس كذلك؟
وأبت أن تنبس بكلمة، فقنع بلغة الصمت، وقال مرة أخرى: سنتقابل كثيرا، ونزن أمورنا جميعا. ثم أقابل أمك .. لا بد من الاتفاق معها قبل السفر.
وانتزعت راحتها من يده وهي تصيح في جزع: سرقنا الوقت، وابتعدنا كثيرا .. هلم إلى العودة.
ودارا على عقبيهما معا وهو يضحك ضحكة سعيدة رجعت بعض أصداء السعادة التي يجيش بها قلبه. واستحثا الخطى حتى بلغا الغورية في دقائق، وافترقا عندها، فمالت هي إليها، واتجه هو نحو الأزهر ليعود إلى الزقاق عن طريق الحسين.
11 «اللهم عفوك ورحمتك.»
Page inconnue