فقال الشاب ساخرا: عم كامل، قهوة كرشة، الجوزة، الكومي؟!
فقال الحلو في حيرة: لماذا تهزأ بهذه الحياة؟ - أهي حياة حقا؟ .. هذا الزقاق لا يحوي إلا موتا، وما دمت فيه فلن تحتاج يوما للدفن، عليك رحمة الله.
فسأله الحلو بعد تردد وإن كان يدري ما الآخر قائله: وماذا تريدني أن أفعل؟
فصاح به الفتى: طالما أخبرتك، طالما نصحتك، اخلع رداء هذه الحياة القذرة الحقيرة، أغلق هذا الدكان، اهجر هذا الزقاق، أرح عينيك من جثة عم كامل. وعليك بالجيش الإنجليزي. الجيش الإنجليزي كنز لا يفنى. هو كنز الحسن البصري، ليست هذه الحرب بنقمة كما يقول الجهلاء، ولكنها نعمة النعم، لقد بعثها ربنا لينتشلنا من وهدة الشقاء والعوز. على الرحب والسعة ألف غارة وغارة ما دامت تقذفنا بالذهب. ألم أنصحك بالالتحاق بالجيش؟ وما زلت أقول لك: إن الفرصة سانحة. حقا هزمت إيطاليا ولكن ألمانيا باقية، ووراءها اليابان، وسوف تطول الحرب عشرين عاما. أقول لك للمرة الأخيرة إنه توجد أماكن شاغرة في التل الكبير. سافر!
واستيقظ خيال الحلو، واضطرمت عواطفه حتى وجد صعوبة في امتلاك عنانه وإتقان عمله. لم يكن ذلك نتيجة لكلام حسين الراهن فحسب؛ ولكنه نتيجة لإلحاحه المتواصل كلما قابله. كان بطبعه قنوعا، عزوفا عن الحركة، هيابا لكل جديد، مبغضا للأسفار، ولو ترك وشأنه ما اختار عن المدق بديلا، ولو لبث فيه مدى الحياة لما مله ولا فتر حبه له. ولكن طموحه صحا بعد سبات، وكان كلما دبت فيه الحياة امتزج في نفسه بصورة حميدة، أو لعل حميدة هي التي أيقظته وبعثته بعثا جديدا، فكان طموحه وصورتها المحبوبة شيئا واحدا لا يتجزأ. وعلى رغم هذا كله خاف أن يبوح بذات نفسه، وكأنما أراد أن يفسح لنفسه وقتا للتدبر والتفكير، فقال متظاهرا بالإحجام والإباء: السفر ابن كلب!
فضرب حسين الأرض بقدمه وصاح به: أنت ابن ستين كلبا. السفر خير من زقاق المدق، وخير من عم كامل! سافر وتوكل على الله. أنت لم تولد بعد. ماذا أكلت؟ ماذا شربت؟ ماذا لبست؟ ماذا رأيت؟ صدقني أنك لم تولد بعد.
فقال عباس متأسفا: من المحزن أني لم أولد غنيا. - من المحزن أنك لم تولد بنتا! لو ولدت بنتا لكنت من بنات الدقة القديمة، حياتك في البيت وللبيت، لا سينما ولا حديقة الحيوان، حتى ولا الموسكي الذي ترتاده حميدة في العصاري.
فضاعف ذكر هذا الاسم من ارتباكه، وآلمه أن ينطق به صاحبه مستهينا ساخرا كأنه لفظ تافه لا يثير مكامن القلوب، وقال مدافعا عن فتاته: أختك حميدة فتاة كريمة الأخلاق، ولا يعيبها أن تروح عن نفسها بالمشي في الموسكي. - أجل؛ ولكنها فتاة طموح ما في ذلك من شك، ولن تحظى بها حتى تغير ما بنفسك.
وعاوده قلبه الخفقان العنيف، والتهب وجهه احمرارا، وذابت نفسه وجدا وقلقا وانفعالا. وكان انتهى من حلق رأس الشاب، فراح يمشطه دون أن ينبس بكلمة، وفكره لا يستريح من اضطرابه. ثم نهض حسين كرشة وأعطاه نقوده. وقبل أن يغادر الدكان اكتشف أنه نسي منديله، فرجع مسرعا إلى البيت وجعل يتابعه بعينيه من موقفه، فلاح لعينيه مرحا نشيطا سعيدا، وكأنه يرى فيه هذه الصفات لأول مرة. «لن تحظى بها حتى تغير ما بنفسك.» صدق حسين بلا ريب، إنه يعيش عيشة الكفاف، ولا يكاد يتمخض كدح يومه عن رزق ذلك اليوم، فإذا أراد أن يبني عشه في هذه الأيام العسيرة، فلا معدى عن فتح جديد. إلام يقنع بالأحلام والتمني وهو قابع هامد مغلول اليد والإرادة؟ لماذا لا يجرب حظه ويقتحم سبيله كما يفعل الآخرون؟! «فتاة طموح»، هكذا يقول حسين، وإن كان هو لا يدري شيئا على وجه التحقيق، وربما كان حسين أدرى بها، لأنه - عباس - اعتاد أن يراها بعين الحب الحالمة الخالقة. وإذا كانت فتاته طموحا فلا معدى له عن أن يكون طموحا كذلك. ولعل حسين يحسب غدا - وقد ابتسم لهذا الخاطر - أنه أيقظه من سباته وخلقه خلقا جديدا، ولكنه يعلم دون الناس جميعا أنه لولا ذاك الشخص المحبوب ما استطاع شيء أن ينزعه من قناعته الوديعة المستسلمة. وشعر عباس في هذه اللحظة الفاصلة من حياته بقوة الحب وسلطانه وسحره العجيب. ولعله أحس - إحساسا غامضا لا يرتقي لمرتبة الوعي والفكر - بقدرة الحب على الخلق والتعمير، فموضع الحب من نفوسنا هو مهبط الخلق والإبداع والتجديد. ولذلك خلق الله الإنسان محبا، وترك مهمة تعمير الوجود أمانة في رعاية الحب. وقد تساءل الفتى في وجده وانفعاله: لماذا لا يسافر؟ ألم يعش في هذا الزقاق حوالي ربع قرن من الزمان؟! فماذا أفاده؟ إنه زقاق لا يعدل بين أهله، ولا يجزيهم على قدر حبهم له. وربما ابتسم لمن يتجهمه وتجهم لمن يبتسم له، فهو يقتر عليه الرزق تقتيرا، ويغدقه على السيد سليم غدقا، وعلى كثب منه تتكدس رزم الأوراق المالية حتى ليكاد يشم عرفها الساحر، في حين أن راحته لا تقبض إلا على ثمن الرغيف، فليكن سفر، وليتغيرن وجه الحياة.
جرى فكره هذا الشوط البعيد، ولبث واقفا أمام دكانه ينظر إلى عم كامل وقد مضى يغط غطيطا والمذبة في حجره، ثم سمع وقع أقدام خفيفة آتيا من أعلى الزقاق، فتحول إليه فرأى حسين كرشة عائدا في خطوات واسعة. واستمر به الانفعال والقلق، ونظر إليه كما ينظر المقامر إلى كرة الروليت الدائرة، حتى حاذاه وأوشك أن يفوته، فوضع يده على كتفه وقال له بقوة وعزم: حسين، أريد أن أحدثك في أمر هام.
Page inconnue