وبلغا الجمالية في ظلمة حالكة وصمت مخيم، ومرا في طريقهما بشرطيين ثم أخذا يقتربان من باب النصر، واستخرج زيطة من جيبه نصف سيجارة وأشعلها وراح يدخن بشغف. وقد فزع الدكتور بوشي من ضوء عود الثقاب وقال لصاحبه بنرفزة: بئس ما اخترت هذا الوقت للتدخين!
ولكن زيطة لم يأبه ومضى يقول وكأنه يخاطب نفسه: لا فائدة ترجى من الأحياء، وقليل من الموتى ذوو نفع.
ومرقا معا من باب النصر، ومالا إلى اليمين يقطعان طريقا ضيقا تحف به المقابر من الناحيتين، ويرين عليه صمت رهيب وكآبة شاملة. وقال زيطة عند نهاية الثلث الأول من الطريق: «هاك المسجد.» فتلفت بوشي فيما حوله، وتنصت قليلا في حذر، ثم اقترب من الجامع متحاميا إحداث أي صوت، وتحسس الأرض لصق جداره فيما يلي مدخله حتى عثر بحجر كبير، ثم أزاحه عن موضعه بيديه، واستخرج من نقرة تحته فأسا صغيرة ولفافة تحوي شمعة، وعاد إلى صاحبه، فاستطردا في مسيرهما وهو يقول همسا: «تقع المقبرة فيما قبل الطريق الصحراوي بخمس مقابر.» وجدا في السير، وعينا الدكتور تتطلعان إلى المقابر على يسار الطريق، وقلبه يدق بعنف، ثم تثاقل بغتة وهو يهمس: «هذه المقبرة.» ولكنه لم يقف، بل حث صاحبه على السير وهو يقول: سور المقبرة المطل على هذا الطريق عال، والطريق نفسه غير مأمون، فالأفضل أن ندور حول المقابر من ناحية الصحراء، ثم نتسور المقبرة من ناحيتها الخلفية حيث يوجد القبر في الفضاء المكشوف.
ولم يبد زيطة اعتراضا، فتقدما في صمت حتى انتهيا إلى طريق الصحراء، واقترح زيطة أن يجلسا على الطوار قليلا ريثما يراقبان الطريق، وجلسا جنبا لجنب، وراحا يراقبان المكان بأربع أعين. كان الظلام شاملا، والمكان مقفرا، وفيما وراءهما تنتثر القبور فتشغل مساحة من الأرض لا يحيط بها البصر. ومع أن هذه المخاطر لم تكن الأولى من نوعها إلا أن الدكتور بوشي لم يستطع أن يتمالك أعصابه أو يسيطر على دقات قلبه المضطرب، فلبث يحملق في الظلماء، فؤاده خافق، وريقه جاف، وأعصابه متوترة؛ في حين جلس زيطة جامدا، رابط الجأش، لا يبالي شيئا. ولما اطمأن إلى خلو الطريق قال للدكتور: دع الأدوات واسبقني إلى سور المقبرة الخلفي، وانتظرني هناك.
ونهض الدكتور على كره، وتسلل بين القبور مائلا نحو الأسوار الخلفية للمقابر، وسار لصق الجدران متلمسا طريقه في ظلام دامس ليس به من بارقة نور إلا ما تشعه النجوم، وجعل يعد الأسوار حتى بلغ خامسها، وألقى على ما حوله نظرة لص، ثم جلس القرفصاء، لم تعثر عيناه بشيء يريبه ولم يبلغ أذنه حس، ولكن القلق لم يزايله، واشتد جزعه. وبعد قليل رأى شبح زيطة على مدى أذرع منه، فنهض في حذر، وعاين الرجل السور ثم قال همسا: تقوس حتى أصعد على ظهرك.
وتقوس الدكتور معتمدا راحتيه على ركبتيه، ورقي الرجل ظهره، وتحسس الجدار حتى قبض على حافته، ثم تسوره بمهارة وخفة، ورمى بالفأس ولفافة الشمعة إلى داخل الفناء، ثم مد يده إلى الدكتور حتى التقت بيده، وأعانه على تسلق الحائط حتى تسنمه، وهويا معا، وتوقفا عند أصل السور يستريحان، والتقط زيطة في أثناء ذلك الفأس واللفافة. وكانت أعينهما قد اعتادت الظلام واستأنست بنور النجوم الخافت، فرأيا الفناء في شيء من الوضوح، وقبرين متجاورين ينهضان على كثب من موقفهما، وفي نهاية الفناء يقوم الباب المطل على الطريق الذي جاءا منه، وعلى جانبهما حجرتان. وسأل زيطة وهو يومئ إلى القبرين: أيهما؟
فأجابه بصوت يكاد ينحبس في حلقه: على يمينك.
ودنا زيطة من القبر بلا تردد، يتبعه بوشي مرتجف الأوصال، وحنى قامته متحسسا أرض المنزل فوجدها طرية ندية ما تزال، فأعمل فيها فأسه بحذر وهوادة، مكوما الثرى بين رجليه المنفرجتين. وثابر على العمل الذي لم يكن جديدا بالنسبة إليه، حتى كشف عن السلاليم التي تسقف منزل القبر، وشمر طرف جلبابه وجدله وعقده حول وسطه، وأقبل على طرف السلمة الأولى، ورفعها شادا على عضلاته حتى انتصبت قائمة، وأخذ ينيمها بمعونة البوشي حتى طرحها أرضا. وفعل مثل ذلك بالسلمة الثانية. واكتفى بالثغرة التي فتحها حيث يمكن أن ينزلق منها هو وصاحبه، ومضى إليها ونزل الأدراج وهو يقول للدكتور مغمغما: «اتبعني.» فتبعه منقبض الصدر، مقشعر البدن .. وكان الدكتور يجلس - في مثل هذا الظرف - على الدرجات الوسطى، ويشعل الشمعة ويثبتها في الدرجة السفلى، ثم يغمض عينيه ويدفنهما بين ركبتيه. وكان يدخل القبور على كره، وطالما ناشد زيطة الرحمة أن يعفيه من دخول القبر؛ ولكن الآخر أبى أن يؤدي له هذه الخدمة إلا إذا شارك في جميع خطواتها، مستلذا في أعماقه تعذيبه. وقد اشتعلت ذبالة الشمعة فأضاءت القبر، وألقى زيطة نظرة متحجرة على الجثث المدرجة في أكفانها، مطروحة في تتابع وتواز حتى غيابات القبر، يرمز نظامها إلى تسلسل التاريخ واطراد الزمن، وينطق صمتها الرهيب بالفناء الأبدي، ولكنها لم ترجع في صدر زيطة أي صدى، فسرعان ما استرد نظرته المتحجرة وثبتها على الكفن الجديد عند بدء القبر .. وجلس القرفصاء، ثم كشف عن رأس الجثة بيدين باردتين، وحسر الشفتين، وعالج بأصابعه الطقم حتى انتزعه، وأودعه جيبه وقد تلوثت أنامله .. ثم غطى الرأس كما كان، وتحول عن الجثة إلى الباب، فرأى الدكتور دافنا رأسه بين ركبتيه والشمعة في أسفل الدرج تزهر، فرماه بنظرة ساخرة وغمغم في ازدراء: «اصح!» فرفع الدكتور رأسه مرتعدا، ومال نحو الشمعة فتناولها ونفخها فأطفأها، ورقي السلم في عجلة كأنه يفر. ورقي زيطة الدرج كذلك، ولكنه قبل أن يبرز من الثغرة صكت أذنيه صرخة داوية، وسمع الدكتور يصيح بصوت كالعواء: «في عرضكم!» تسمرت قدماه، ثم تراجع نازلا الأدراج وهو لا يدري ما يفعل وقد أثلجت أطرافه، وما زال يتراجع حتى داس كعبه الجثة، فتقدم خطوة ووقف متسمرا لا يجد مهربا. وخطر له أن يرقد بين الجثث، ولكنه قبل أن يأتي حركة واحدة غمره نور وهاج أغلق جفنيه قسرا، وسمع صوتا شديدا يصيح به في لهجة صعيدية: اصعد، وإلا أطلقت عليك النار.
وطوقه اليأس فاستسلم، ورقي الدرج كما أمر، وقد نسي الطقم الذهبي في جيبه. •••
ولم يتناه إلى الزقاق نبأ القبض على الدكتور بوشي وزيطة في مقبرة الطالبي إلا عند عصر اليوم التالي. وفشا الخبر وعرفت أسبابه، وتناقله القوم في دهشة وانزعاج .. وما إن علمت به الست سنية عفيفي حتى استحوذ عليها الفزع وولولت صارخة، وانتزعت طقمها الذهبي ورمت به، وأخذت تلطم خديها في حالة عصبية شديدة، ثم سقطت مغمى عليها. وكان زوجها في الحمام، فلما أن قرع أذنيه صراخها أخذه الرعب فارتدى جلبابه على جسده المبلول وهرع إليها لا يلوي على شيء.
Page inconnue