فقال صوت العلم الرزين: «أنا الحياة؛ لأني أشرح الحياة.»
فألقيت بنفسي في الخضم الزاخر أعالج العلم المادي تارة، والفلسفة الروحانية أخرى. كم من علم خلقنا، أيها المليك، لنبحث عما لا يعلم، وكم من لغة أبدعنا لنشرح ما لا يشرح! فهداني الجهابذة إلى القوة التي يتم بها التفاعل الكوني بين الأجرام، فلا تتفلت من عناقها شمس ولا ذرة: الجاذبية، فسألت: وما هي هذه الجاذبية؟ من رآها؟ من سمعها؟ من لمسها؟ أهي وسيط ينتقل على تموج الأثير، أم هي سيال يتموج بنفسه مستقلا عن العناصر؟ فأجابوا: «ذاك سر الحياة، وهو مجهول.»
الحياة! مجهول! لفظتان تمثلان الانفصال والاتحاد جميعا.
هذه الرمال التي تفرش ربوعك بطنافس ناعمة منذ أربعة آلاف سنة، يا حارس الصحراء، منذ أربعة آلاف سنة والعلم يقلب الذرة الواحدة منها ويديرها، ويقسمها ويجزئ تقسيمها. لقد نحرها بحثا ودرسا وتحليلا متلمسا علة تركيبها، واللغز المتواري وراء محلها، فسارت جهوده من مجهول إلى مجهول، ومن استفهام إلى استفهام، وما زال مثلي أنا الطفلة الغريرة يسأل: «ما هي الحياة؟ ما هي الحياة؟»
كذلك طال استجوابي للسابلة، فضحك كثيرون ومضوا؛ لأنهم لم يفهموا، والقليلون الذين وقفوا وأجابوا أرهفوا في اللجاجة والحرقة والأسى. •••
يا وليد بابل أم السحر والتعاويذ، إلى أي حقيقة رمز بك الرامزون؟ ولماذا جعلوا بين كفيك درجات خفية تفضي إلى سرداب امتد وتاه في مجاهل الأهرام؟ ولماذا أودعوا قلبك مفتاح باب الغيب حيث كان العرافون يستمعون للآلهة الهواتف؟ ولماذا لا يعرف موضع أصغرك إلا جوف منك سوى شفتيك المطبقتين على كر الأعقاب؟
تفتر شفتاك دون كشف وإعلان، أتأكيد هذه البسمة أم إيهام؟ أإشفاق على دماء المفاداة وقد أذيبت فيها الأوحال، أم لأن ما هو كائن أقلص من ظل حصاة حيال ما سيكون؟
هذا نيلك رضاب الطبيعة المحيي عبد من منبعه إلى مصبه لما يظهره من أريحية ووفاء. أتدرك معنى احمراره الصيفي ومعنى خصبه؟ أتفهم معنى شكل هندسي تجلب به أهرامك الخالدة؟ أنت الذي نحتك الكلدان قبل أن يرسموا دائرة البروج، أتعلم ما إذا كانت هذه الأهرام منائر للصحراء، أم مدافن للفراعنة، أم حصون دفاع، أم مستودعات كنوز، أم مجتمع عشاق، أم محفلا فيه يدين أوزريس موتاه؟ أتعلم لماذا أدرجت أوراق البردي وأسرارها الهيروغليفية طي الأكفان مع الموميات في التوابيت والنواويس؟ أتعرف معنى سوسن الماء وزهرات عرائس النيل العائمة على النهر المقدس؟ نحن الجهلاء نعلم أن جميع هذه إنما هي رموز إلى الحياة المتحكمة فينا. وأنت، ألم يبق لك ما يكتسب ها هنا لتحول نظرك وتسكت سكوتا لا ينتهي؟
أم أنت لا ترقب هناك سوى ما نرقب؟ أترصد حركة الأصبع الموجه الإبرة الممغنطة نحو الشمال تجر بعدها النظم الشمسية وهيئات الكواكب؟ أم تستعرض مواكب الأنوار والظلمات، وجيوش الثوابت والسيارات، وجحافل الأمكنة والأزمنة، أم أنت تتهجأ اسم الحياة يخطه قلم النواميس بحروف الشموس والمذنبات والسدم والعوالم؟ أم يذهلك تدفق الفيض الإلهي من وراء حجب الوجود ليتكون أثيرا وهواء ونارا وماء وهيولى؟
نحن مثلك نترقب ونتوقع، ونتوقع ونترقب، فهل تعلم ما هذا الذي ننتظره وتنتظره الآفاق المنحنية علينا؟ لقد سجنا في حالك الظلمات تخترقها خيوط النور حينا بعد حين، فنهب نحسبها مقدمة لتحقيق الرجية، وما هي غير السراب الخداع، فيزيد الظلام حلكا، ونلبث في الانتظار مترددين.
Page inconnue