وحتى نرى الأمراء الأتراك الذين لا يحسنون العربية يحبون أن تزين قصورهم بالعلماء والأدباء.
ومن ظريف ما يحكى في ذلك أن بجكم التركي كان بواسط، وكان من المقربين إليه أبو محمد بن يحيى الصولي؛ وكان بجكم لا يحسن العربية، فاستدعى يوما الصولي وقال له: إن أصحاب الأخبار رفعوا إلي أني لما طلبتك من المسجد - وكان الصولي يقرأ درسا في المسجد - قال الناس: أعجله الأمير ولم يتم مجلسنا، أفتراه يقرأ عليه شعرا أو نحوا أو يسمع من الحديث؟ - يقولون ذلك تهكما ببجكم لأنه لا يحسن العربية - ثم قال بجكم ردا على هذا: «أنا إنسان، وإن كنت لا أحسن العلوم والآداب أحب ألا يكون في الأرض أديب ولا عالم ولا رأس في صناعة إلا كان في جنبتي وتحت اصطناعي وبين يدي لا يفارقني.»
4
ولعله بهذا القول يعبر عما في نفس كل أمير في كل إقليم.
ومن أجل هذا كان مؤرخ العلم والأدب قبل الاستقلال يجد نفسه أمام ثروة كبيرة علمية وأدبية في العراق، ثم لا يجد إلا نتفا قليلة منها في تاريخ غيره، أما بعد الانقسام فلكل إقليم شخصية متميزة في علمها وأدبها.
على أنا إن سلمنا فرضا أن الحياة السياسية بعد الانقسام كانت شرا منها قبله، فلا نسلم ذلك في العلم والأدب. والتاريخ يرينا أن الحالة العلمية لا تتبع الحالة السياسية ضعفا وقوة؛ فقد تسوء الحالة السياسية إلى حد ما وتزهر بجانبها الحياة العلمية؛ ذلك لأن الحياة السياسية إنما تحسن بتحقيق العدل ونشر الطمأنينة بين الناس، ومع هذا فقد يحمل الظلم كثيرا من عظماء الرجال وذوي العقول الراجحة أن يفروا من العمل السياسي إلى العمل العلمي؛ لأنهم يجدون العمل السياسي يعرضهم لمصادرة أموالهم، وأحيانا إلى إزهاق أرواحهم، على حين أن العمل العلمي يحيطهم بجو خاص هادئ مطمئن، ولو كان الجو العام مائجا مضطربا، وكذلك كان الحال في تاريخ كثير من علماء المسلمين، جربوا الوزارة وولاية الأعمال فتعرضوا للخطر فهربوا إلى العلم فنجحوا.
وأيضا فقد وقر في نفوس الخلفاء والأمراء حرمة العلماء، متى لم يتعرضوا للسياسة من قريب ولا بعيد، وهذا يمكنهم من بحثهم العلمي في هدوء وطمأنينة على الرغم مما يحيط بهم من فوضى واضطراب. لقد كان الفارابي مثلا في جو سياسي مضطرب سواء كان في حلب بين الحمدانيين، أو في بغداد في حكم الأتراك، ومع ذلك خلق لنفسه، ولمن حوله من تلاميذه حمى يرقى فيه علمه وبحثه، وإذا عصفت العواصف كانت حول حماه ولا تغشاه، لا يهمه في حياته إلا علمه، أما ما عداه من أفانين السياسة وألاعيبها، وشئون الدنيا وشهواتها فلا يأبه بها ويقول:
أخي خل حيز ذي باطل
وكن للحقيقة في حيز
فما الدار دار مقام لنا
Page inconnue