Les leaders de la réforme à l'époque moderne
زعماء الإصلاح في العصر الحديث
Genres
6
بذلك كله، تبا للحياة المادية. هل يكسب من ذلك «عبد الله نديم» قرشا، وهل يستطيع «عم مصباح» أن يحتمل هذا الهذر طويلا ؟ لقد احتمل الإنفاق عليه في الكتاب، لأنه طفل والكتاب خير من البيت، واحتمله يدرس في «جامع الشيخ» لأنه كان يرجو في ابنه أن يكون شيخا معمما وعالما مفخما، يتقرب إلى الله بتقبيل يده والتمسح بثوبه. فأما هذا اللغو الفارغ الذي يسمى شعرا ونثرا فهو عبادة الشيطان لا عبادة الله، ولست أتقرب إلى الله بالإنفاق على عبدة الشياطين.
لقد نفض أبوه يده منه، فأخذ عبد الله نديم يبحث عن وجه للكسب، فاتجه اتجاها غريبا، هو أن يتعلم فن الإشارات التلغرافية ثم يتكسب منه، وكذلك كان. فتعلمه واستخدم بمكتب التلغراف ببنها.
ثم نقل إلى مكتب القصر العالي حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، وقد كان قصرا من أفخم القصور، يقع على النيل فيما يسمى الآن «جاردن سيتي» خدم وحشم وموسيقى وطرب، وما شئت من ألوان النعيم والترف، وقد تعلم منه عبد الله نديم كيف يعيش الأمراء والسادة، كما تعلم في بيته وحارته في الإسكندرية كيف يعيش الفقراء والعبيد.
وعاد إليه في القاهرة شوقه إلى الأدب ومجالس الأدباء، وكان حظ القاهرة في ذلك أوفى، ففيها - مثلا - مجلس محمود سامي البارودي، وكان مجلسا عامرا يسمر فيه السمر اللذيذ: فأدب قديم يعرض، وأدب حديثه ينشد؛ وعرض للمعنى الواحد صيغ صياغات مختلفة، ونقد قيم لهذا ولذاك، يتخلله نوادر فكهة، وأحاديث في الأدب حلوة. اتصل عبد الله نديم بهذا المجلس وأمثاله، وتوثقت الصلة بينه وبين كثير من أدباء مصر إذ ذاك، وأخصهم سبعة، أولع بهم واستفاد من معارفهم وأدبهم: شاعر مصر محمود سامي البارودي، وشيخ الأدباء عبد الله باشا فكري والسيد علي أبو النصر البليغ الشهير، ومحمود صفوت الساعاتي، الواسع الاطلاع، الكثير المحفوظ، المتفتن في الطرائف الأدبية، والشيخ أحمد الزرقاني الكاتب الأديب، ومحمد بك سعيد بن جعفر باشا مظهر الشاعر الناثر، وعبد العزيز بك حافظ عاشر الأدب والأدباء الأدب والأدباء الكريم الوفي.
وكان الذي أرشده إلى هؤلاء الأدباء وعرفه بهم، وأحكام الصلة بينه وبينهم، الشيخ أحمد وهبي أحد المولعين بالشعر، الناظمين له، والمحرر بالوقائع المصرية في بعض أيامه .
فأتم على هؤلاء وأمثالهم دراسته، وشرب من منهلهم، وارتوى من ينابيعهم، فهو في النهار تلغرافي، يتقبل الإشارات ويرسلها، وبالليل أديب يتقبل نماذج الأدب ويحاكيها.
ولكن لم يمهله الحظ، فقط غلط في عمله في القصر العالي غلطة سببت غضب خليل أغا عليه. ومن خليل أغا؟ هو كبير أغوات الوالدة (أم إسماعيل)، وكان القصر مملوءا بالأغوات، يقومون بشئون القصر، ويستقبلون المدعوات ويصحبونهن إلى باب الحريم، ونال كبيرهم خليل أغا من النفوذ ما لم ينله ناظر النظار ولا الأمراء والوجهاء، ولحظوته عند الخديوي إسماعيل ووالدته، وإشارته حكم، وطاعته غنم، يخضع له أكبر كبير، ويسعى لخدمته أعظم عظيم، رأيه نافذ في الدواوين والمصالح، يتحكم في مصر والسودان، ويأتمر بأمره كبار الموظفين والأعيان، حاز الثروة الضخمة والجاه العريض، كأنه كافور الأخشيدي في أيامه، حتى إنه لما عقد عقد زواج الأنجاب في القصر العالي حضره النظار والعلماء وكبار الأعيان، فكان يرأس الجميع «خليل أغا». كان من خصاله أن يذبح ويسبح، ويغصب ويبني مدرسة.
فما عبد الله نديم إذا غضب عليه خليل أغا العظيم؟! إذا غضب عليه خليل أغا فصل من وظيفته، ولكن إذا غضب عليه خليل أغا ضرب وطرد، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.
سدت في وجهه أبواب الرزق في القاهرة كما سدت في الإسكندرية، وانتهى به الأمر إلى أن ينزل على عمدة من عمدة الدقهلية يقيم عنده ويعلم أولاده، ثم ما لبث أن تخاصم مع العمدة، فأما العمدة فيرى أنه آكله وأسكنه مقابل تعليم أولاده، وأما عبد الله نديم فيرى أن هذا حق الضيف ويبقى له أجر التعليم، واختلفت وجهة النظر، وتشادا ثم تسابا، وغلى مرجل عبد الله نديم؛ فكان ذلك نعمة على أدبه إذا انفجر المرجل وتدفق عبد الله نديم يصوغ في هجاء العمدة أدبا لاذعا، تدفعه عاطفة حادة، فعرف نفسه أديبا وعرفه من حوله لسنا يملك ناصية القول.
Page inconnue