L'Olivier et le Chêne
الزيتونة والسنديانة: مدخل إلى حياة وشعر عادل قرشولي مع النص الكامل لديوانه: هكذا تكلم عبد الله
Genres
ومع ذلك كله، فهل يحق لي أن أحدس بنوع من التأثر بنيتشه، فيما تسمونه «التصوف الأرضي، أو الدنيوي» أو ربما برؤية جوته المتجهة دائما إلى الأرض والعالم، والمشبعة في شعره ونثره بوحدة الوجود؟ وهل يكمن وراء قصائدك في هذا الموضوع بعض التأثر بالأبعاد الواسعة، التي اتخذتها إشكالية الذات والآخر في الفلسفة المعاصرة، لا سيما فلسفة الوجود؟ أم أن الأمر بعيد عن ذلك كله، وربما يرجع - وهذا مجرد فرض أو تخمين توحي به قراءاتي قبل سنوات في الفلسفة الشرقية - إلى البوذية التي تقول بعض نصوصها ببساطة: أنت هو الآخرون، والآخرون هم أنت؟ - قرأت مثل الكثيرين من جيلي «هكذا تكلم زرادشت» في ترجمتها العربية، لفيلكس فارس. والحقيقة أنني لم أعد قراءة هذا الكتاب بالذات لنيتشه ثانية، إلا بعد نشر مجموعتي الأخيرة «هكذا تكلم عبد الله». لا أعتقد بوجود تأثر جوهري في هذا الكتاب بنيتشه، وحتى بالمفهوم الذي سميته الصوفية الأرضية؛ إلا بالتوجه إلى الأرضي، إلى الملموس والمحسوس. لكنني أختلف معه في موقفه من علاقة الأنا بالآخر؛ لأنه في نهاية المطاف - وخاصة إذا بسطنا نظرياته كما فعل الكثيرون في زمن النازية - يفسح في المجال لمفهوم تسلطي بين الأنا والآخر، وهذه النظرة الاستعلائية ليست بالتأكيد هي نظرتي. إنني بالفعل أكثر قربا من جوته، الذي تأثر كما تعرف بسبينوزا، وكذلك من هيردر وليسينج؛ لأنهم كانوا ينطلقون في مواقفهم من المنطلقات الإنسانية لفكر عصر التنوير. أما بالنسبة لفلسفة الوجود وما تبعها من فلسفات معاصرة كالوجودية مثلا، فلا شك أن المرء يقرأ في حياته، إن لم يكن باحثا متفرغا، ما يتناسب واهتماماته. ولا يكون التأثر عادة مطلقا، بل مضادا في أحيان كثيرة. لا شك أن مفهوم الوجوديين مثلا عن الإنسان كمشروع يمتلك الإنسان صياغته، وتكوين عناصره بنفسه، وما يستتبع ذلك من الشعور بالمسئولية، والالتزام تجاه الذات مفهوم جدير بالنظر فيه، وهو هام بالنسبة للعلاقة مع الآخر كما أفهمها، لكن تعميم مصطلح الوجود ورفض التفريق المعرفي بين المادة والوعي، أي بين الذات والموضوع، ونفي ضرورة وجود العلم، أو القدرة على التوصل إلى أية معرفة علمية، كما نرى عند هيدجر، لا يتفق مع مفهومي عن العالم. كما أنني لا أعتبر الآخر جحيما، بل صنوا وشرطا لوجودي، ليس لوجودي دونه قيمة حقيقية. ومن هنا يكون علي عندئذ أن أبحث عن صيغ للتواصل الودي معه. - أعطيتم بريشت قدرا كبيرا من جهدكم ووقتكم. وأشهد أنني قرأت في بعض حواراتكم ما صحح بعض مفاهيمي عنه، على الرغم من أن طول انشغالي بشعره ومسرحه قد أوهمني في مرحلة من حياتي بأنني صرت حجة فيه. هل يمكن أن تحدثنا عن صلتكم بهذا الشاعر والكاتب المسرحي المناضل والمحير معا، وعن بعض ذكريات عملكم في الأرشيف الخاص به في برلين، وعكوفكم على نصوصه الكثيرة التي لم تنشر في حياته؟ - عظمة بريشت تكمن بالضبط في أنه بالفعل محير، شأنه في هذا شأن كل كاتب وفنان عظيم، غير أن كثيرين ممن كتبوا عنه من النقاد والدارسين العرب، خاصة أولئك الذين اعتمدوا فيما كتبوه على مصادر غير ألمانية، حولوا هذه الحيرة المتمردة المبدعة إلى ألغاز لا حل لها. هذا على وجه الدقة هو ما دعاني لكتابة أطروحة الدكتوراه عن بريشت، ومستويات التلقي العربي له في الستينيات. وحين تواكب كاتبا بعظمة هذا المسرحي والشاعر والمنظر، وأنت في ريعان شبابك، لا يمكنك أن تتخلص بسهولة من سطوة تأثيره. وفي الاحتفال بالمئوية البريشتية أقام بعض من عملوا مع بريشت وعرفوه شخصيا عن قرب، ندوة تحدثوا خلالها عن تجاربهم معه. وقد فوجئت حين تلقيت دعوة لإلقاء مداخلة في هذه الندوة؛ لأني للأسف الشديد لم أتعرف عليه شخصيا رغم عملي لفترة طويلة في أرشيفه، وفي مسرحه، وتعرفي على زوجته هيلينه فيجل وحبيباته، إلا أنهم طلبوا مني - لمعرفتهم بتأثري به وترجمتي لبعض مسرحياته وأشعاره - أن أقدم هذه المداخلة. وقد ألقيتها بعنوان «طريقي الطويل إلى بريشت». والأطروحة الأساسية في هذه المداخلة هي أنني وصلت إلى بريشت حين تمكنت من الانفصال عنه. في بدايات تأثري به حاولت كتابة القصيدة الجدلية، وقصصت الأجنحة التخييلية للصورة الشعرية. كانت الجدلية عندي تقدم نفسها في إطارها المعرفي، وفي أدق الكلمات، أي إن التكثيف الشديد للقصيدة، والاستجلاء المعرفي في الصورة الشعرية كانا، في حقيقة الأمر، أهم ما تعلمت من بريشت، ووجدته بشكل مختلف في النصوص الصوفية. - ولكن صلتك ببريشت لم تقتصر على تأثرك الشعري به، بل قدمت بعض الدراسات عنه، كما ترجمت بعض نصوصه إلى العربية. هل يمكن أن تحدثونا عن ذلك؟ - إضافة إلى اهتمامي الشخصي بالتعرف على أعمال بريشت، بحثت في هذه الأعمال، وخاصة كما أسلفت في أساليب التلقي العربي له . وكتبت بعض الدراسات بهذا الشأن في محاولة مني لتصحيح بعض المفاهيم التي اعتقدت أنها خاطئة، أو حدث بشأنها سوء فهم ما. ونشرت كتابا باللغة الألمانية صدر عن مركز بريشت للدراسات في برلين، بعنوان «بريشت في المنظور العربي»، كما كتبت مجموعة من الدراسات في مجلة الحياة المسرحية السورية تختلف عن الكتاب السابق الذكر، وأفكر في الوقت الحاضر في إصدارها في كتاب، إلى جانب دراسات وحوارات هنا وهناك، إضافة إلى أربعة نصوص مسرحية، وبعض قصائده التي ترجمتها إلى العربية. - مع أنكم تصالحتم - في شعركم وحياتكم - مع الوطن الجديد في ليبزيج، ومددتم جذوركم فيه، فإنكم لم تنسوا الوطن السوري الأصلي ولا الوطن العربي في مجموعه، وتصديتم في شعركم، وفي كثير من مقالاتكم للدفاع بشجاعة وحكمة عن بعض القضايا العربية، وقلتم كلمتكم بكل جرأة، في كثير من المحن التي ألمت بالعرب، أو ما زالت تلم بهم، مثل محنة فلسطين وحرب الخليج والعداء للعرب والإسلام، ومشكلة التحيز والتعصب بوجه عام في الإعلام الغربي والألماني. هل تحدثوننا عن هذه القضية الشائكة بشيء من التفصيل؟ - لست أدري إن كانت قد حدثت بالفعل مصالحة بيني وبين الحضارة التي أعيش فيها الآن، كل ما هنالك أن الصراع الذي دار بين الداخل والخارج في هذا الواقع تحول في فترة ما إلى صراع داخل الذات بين حضارتين وعالمين ولغتين، ولكن لم يعد هناك صراع فقط بين هاتين الحضارتين ، بل أصبح يحدث بين الحين والحين بينهما عناق أيضا في داخل الذات. وبحكم وجودي هناك كنت أجدني مضطرا للرد أحيانا على ما يصدر من مغالطات أو مواقف عدائية تجاه تاريخنا وحضارتنا. لقد ذكرت بعض القضايا العربية التي كتبت فيها، ومن ذلك مثلا: الرابسوديا الفلسطينية، التي تضم إحدى عشرة قصيدة، كتبتها خلال الحصار الإسرائيلي لبيروت، وقدمت لها باستشهادين لكاتب ألماني ولشاعر نمساوي من أصل يهودي، هما: أرنولد تسفايج، وإريش فريد. قرأت للأول ذات مرة في رسالة وجهها لصديق له عام 1942م، يقول فيها حرفيا: إننا لم نهرب من فاشية لنقع في براثن فاشية جديدة. قال هذا بعد أن هاجر إلى فلسطين هربا من النازية، ولكنه غادرها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وعاد إلى ألمانيا. أما إريش فريد؛ فكتب عام 1967م، بعد حرب حزيران قصيدة بعنوان: «اسمعي يا إسرائيل»، استشهدت بمطلعها الذي يقول فيه:
عندما كنتم مضطهدين،
كنت واحدا منكم.
كيف لي أن أبقى كذلك،
وقد تحولتم إلى مضطهدين؟ - أنتم من جيلي الذي آمن بأن الكلمة فعل، أو ينبغي أن تكون فعلا مؤثرا؛ لتغيير الواقع الداخلي والخارجي، وبأن الشعر يمكنه - على حد تعبير بريشت - أن يغير العالم والسلوك الفردي والجماعي، وإلا كان عبثا أو زخرفة أو تجارب لغوية لا طائل وراءها. ما رأيكم الآن في مدى قدرة تأثير الشعر بعد أن انفصل أو كاد - لا سيما في بلادنا العربية - عن جمهوره، وخصوصا بفضل قصيدة النثر وشعرائها، وبعد أن أصبح مصيرنا يدبر ويصنع بأيدي غيرنا، وتستلب إرادتنا الحرة وعدالة قضايانا كل يوم على مرأى ومسمع من العالم المتفرج الأخرس؟ - أعتقد أننا، كجيل آمن بضرورة مساهمة الفرد في عملية التغيير، أسأنا إلى حد ما فهم ميكانيكيات (آليات) دور الأدب في عملية التغيير هذه، بل وما زلنا نفعل ذلك أحيانا. لا شك أن حيوية الحياة تكمن في التغير والتحرك، وأن الجمود هو الموت. تقول وبحق: إن الكلمة ينبغي أن تكون فعلا مؤثرا لتغيير الواقع الداخلي والخارجي، ليست المشكلة في هذه الحقيقة. المسألة هي كيفية تحول الكلمة، والكلمة الأدبية في خصوصيتها تحديدا، إلى فعل. نحن لم ندرك الجدلية بين الداخل والخارج بشكل كاف. عممنا الواقع الخارجي، وأهملنا الواقع الداخلي إلى حد بعيد. واستعرنا تقييماتنا للخاصية الفنية الجمالية، وتلك هي المعضلة الحقيقية، من مدى تطابق النص أو اللوحة، أو العرض المسرحي مع الخارجي ذاك. وكان فهمنا لبريشت ينطوي في هذا الإطار. لم نفهم البعد الفلسفي لما كان يتطلع إليه من خلال محاولة كشف الآليات التي تحرك بنية هذا الخارج؛ من خلال بنية الذات نفسها لدفع هذه الآليات إلى حيز وعي الفرد. والحس بالمناسبة جزء لا يستهان به من تكوين الوعي؛ لأنه من محركات السلوك.
أنا لا أرى أن الشعر انفصل عن جمهوره بفضل قصيدة النثر وشعرائها، بل أعتقد أنه لاتساع المساحة التي اغتصبتها قصيدة النثر لنفسها مسببات موضوعية علينا بحثها؛ لفهم هذه القصيدة دون إجحاف أو تعميم. الانفجار الهائل الذي طرأ على دور وسائل الإعلام في الاستيلاء على الحيز الأكبر من عملية تكوين الوعي، وخاصة على مساربه اللاواعية والحسية هو أحد هذه الأسباب. وقد جعل هذا الأمر الشاعر يدرك أن دور قصيدته في عملية التنوير السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحولها إلى فعل حقيقي انحسر إلى حدوده الدنيا. ولا شك أن اكتشاف الوهم في إمكانية تحقيق الحلم القومي بفركة خاتم، والرغبة في الموازنة بين تطلعات الفرد، وتطلعات الأمة، وإعطاء تطلعات الفرد ما تستحق من اهتمام، لعب دورا كبيرا في عملية ما نسميه انحسارا، ولكن هل هو حقا انحسار؟ أم أنه ليس سوى تغير في عمليتي الإبداع والتلقي، وبالتالي في آليات التأثير؟ هذا تساؤل لا بد من التفكير فيه. أنا أرى على كل حال أن هذا التغير جعل القصيدة العربية تتخلص من سطوة الخارجي المطلقة، ومن استعارة المعايير الجمالية باعتبارها حكما قيمة من هذا الخارجي، وتخصيصا من السياسي والاجتماعي وحدهما، وهذا بحد ذاته إنجاز. في هذا الإطار يمكن في اعتقادي أن تندرج قصيدة النثر. ما يمكن أن نضع حوله، ربما، علامة استفهام هنا هو عدم الالتفات في أحيان كثيرة إلى المعرفي؛ باعتباره عنصرا من عناصر الجمال بما فيه الكفاية. ثمة خشية من الإشارة إلى المعرفي؛ لأنه حدث فيما مضى خلط بين المعرفي من جهة، والسياسي أو الاجتماعي في إطاره الظرفي المباشر من جهة أخرى. لعل هذا هو الذي قد يولد أحيانا الانطباع بالعبثية والزخرفية. ولكن ما حققته قصيدة النثر في تراكماتها، وفي تجلياتها المبدعة هو مع كل ما يمكن أن يقال فيها قفزة نوعية نحو العصر. - هل يمكنكم أن تحدثونا عن بعض الشعراء الذين تأثرتم بهم على المستوى الشعري والإنساني، مثل معلمكم وصديقكم جورج ماورر الذي وضعتم كتابا عنه، وبعض أصدقائكم المقربين، مثل الشاعر فولكر براون، والشاعرة سارة كيرش، والشاعر المسرحي هينر موللر، والروائي فيرنر هايدوتشيك، وتوماس بومه، وغيرهم؟ - جورج ماورر كان يعتبر من أهم الشعراء والمنظرين للشعر في ألمانيا الشرقية، وكان أستاذا لمادة الشعر في معهد الأدب الذي درست فيه. كما كان يعتبر من جهة أخرى أبا روحيا لكثيرين من الشعراء الشبان آنذاك؛ أمثال فولكر براون، وسارة، وراينر كيرش، وهاينس تشيخوفسكي، وغيرهم. وكان هؤلاء يختلفون معه في تطلعاتهم ومواقفهم الجمالية، وحين كان أحدنا يعطيه مثلا قصيدة حب لبحثها في الدرس، كان يأتينا في الأسبوع التالي حاملا معه أمثلة من قصائد الحب كما كتبها المصريون القدماء والإغريق والصينيون؛ ليصل بنا بعدئذ إلى الشعر المعاصر، لا ليقارن بين ما كتب وبين قصائدنا، بل ليقول لنا بدءا: إن لكل شاعر نبرة صوت خاصة به، ولكل مرحلة توجهات مشتركة وتباينات، وأن علينا أن نبحث عن نبرتنا الخاصة، عن تفردنا، ولكن دون أن ننسى أننا نعيش في عصر له سماته. كان يبحث عن التفرد في إطار الوحدة الكلية؛ فقد كان يرى العالم بمجمله في كل عشبة. ولم يكن يريد أن يجعل من كل منا جورج ماورر صغيرا. كان يحاول اكتشاف مواطن الضعف ومواطن القوة في النص نفسه ليشير إليها، حتى لقد كتبت سارة كيرش بعد وفاته: إننا أصبحنا نخشى أن نعطيه حين مرض قصيدة من قصائدنا؛ لأننا كنا ندرك أنه سيقضي أياما طويلة في البحث والتنقيب، قبل أن يحدثنا بشأنها. وقد جمعتني به بعد تخرجي صداقة دامت حتى وفاته. أما فولكر براون الذي حاز هذه السنة على جائزة بوشنر، وهي أهم جائزة أدبية ألمانية، والذي تم تكريمه بالمناسبة بناء على اقتراح مني في مهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، فتعود صداقتي معه إلى مطالع الستينيات، حين كان يدرس الفلسفة في ليبزيج. وقد كان من أهم المساهمين في الموجة الشعرية في الستينيات، وهو يعتبر إلى جانب هاينر موللر من أهم المسرحيين في شرق ألمانيا.
لقاءاتي بهاينر موللر كانت في الحقيقة عابرة. زارني في ليبزيج وزرته في برلين، وكنا نتعانق حين نلتقي، لكن معرفتي به لم ترق إلى مستوى الصداقة، لا أريد الاسترسال، فلو فعلت لما انتهينا. أنا لم أعش على كل حال، كما تعرف، طيلة أربعين سنة من وجودي في مدينة ليبزيج، على هامش المشهد الثقافي. أول أمسية شعرية أقيمت لي كانت في المعهد العالي للفنون المسرحية بعد وصولي إلى المدينة بأشهر. درست في معهد الأدب، ساهمت في معظم أمسيات الموجة الشعرية الشهيرة. حضرت جل المؤتمرات الأدبية، وإلى ما هنالك. ولا شك أنني تعرفت خلال ذلك بالضرورة على عدد كبير من الكتاب، كما ربطتني بكثير منهم صداقات ما زال بعضها قائما منذ سنوات طويلة. والتقيت بكتاب عالميين كثيرين، مثل ناظم حكمت، وبابلو نيرودا، وياشار كمال، وعزيز نيسين، وأستورياس، الذي أجريت معه بالمناسبة في منتصف الستينيات حوارا نشر في مجلة عربية. ورغم أن هذه اللقاءات كانت عابرة، إلا أنها تترك بلا شك أثرها البالغ على شاب قادم من حي شعبي في الشرق. لم يستطع أن ينفض غبار أزقته عن أهدابه. - أعرف عنكم الثقة الوطيدة بقيمة الإبداع العربي قديمه وحديثه، ماضيه وحاضره. وقد أكدتم أكثر من مرة، في حوارات أجريت معكم، إيمانكم الراسخ بمستقبل زاهر للأدب العربي، وإمكان استقباله، والترحيب بعطائه على المستوى العالمي، على الرغم من كل العقبات التي توضع في طريقه، والأحقاد التي تؤلب عليه وعلى الحضارة التي نما وازدهر في ظلها من قبل الجهات الإعلامية المعروفة بتحيزها وعدائها لنا، هل يمكن أن تحدثونا في هذا الموضوع بشيء من التفصيل، وعن مواقف تلك الجهات الإعلامية منكم؟ - حين تبتعد عن الشيء تراه في كليته. وأنا بحكم وجودي بعيدا عن جزئيات المشهد الثقافي العربي، بكل ما فيه من تطلعات ورغبات ومهاترات أنظر إلى المنتوج بتراكماته. وحين أستعرض ما تراكم من إبداعات خلال العقود الأخيرة من حياتي الواعية، أرى أن العرب قدموا على كل الأصعدة الإبداعية منجزات يمكن أن تصمد بالفعل لكل منافسة مع الآخر، كما أكرر دائما، وليس في مقدور المرء تجنب التكرار في حوارات كهذه. هذه قناعة مبنية ليس على رغبة ذاتية أو إيمان طوباوي، بل على أسس حقيقية راسخة. كل ما هنالك أن ثقافتنا كانت محاصرة حصارا جائرا، وكان من الصعب اختراقه لفترة طويلة. ألاحظ أن هذا الحصار بدأ يتهاوى في السنوات الأخيرة. ازداد الاهتمام بترجمة هذا الأدب إلى الألمانية في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، خاصة بالنسبة للأعمال الروائية. ورغم كل ما يمكن أن نبديه من ملاحظات حول عملية اختيار الأعمال المترجمة، ونوعية بعض الترجمات، إلا أن هذا الاهتمام بحد ذاته مبشر. لم يعد الحصار في هذا الإطار محكما كما كان من قبل. أصبحت تحدث هنا وهناك اختراقات هامة، رغم أن هذا الاختراق لا يحدث في الغالب إلا من قبل أفراد مغامرين، أو من قبل دور نشر صغيرة، ورغم حدوثه أحيانا من منطق الحصار نفسه. الأمر الذي لم يحدث فيه اختراق هو عملية تسويف وترويج ما يترجم عن العربية والتعمية، والتحيز الواضح في وسائل الإعلام. - وأخيرا: هل يمكن أن توجهوا كلمة للأدباء والمبدعين العرب من جيل الشباب، تضمنونها بعض ملاحظاتكم على الإنتاج الحاضر - وبالأخص على قصيدة النثر التي تتابعونها باهتمام - من منظور شامل يؤهلكم له كفاحكم الطويل لاستيعاب أدب الآخر، ونجاحكم في كتابة شعركم وبحوثكم بلغته، وفي انتزاع الاعتراف بإنتاجكم من عديد من نقاده وشعرائه، وهيئاته الثقافية التي منحتكم جوائزها المرموقة، ورشحتكم بجدارة لرئاسة اتحاد الكتاب في ولاية ليبزيج، التي تعيشون فيها منذ ما يزيد على الأربعين سنة؟ - ليس لدي في الحقيقة ما أضيفه على ما سبق وذكرته؛ إلا التأكيد على ثقتي ثانية بأننا مؤهلون بالفعل لأن ندخل معركة المنافسة مع الآخر، دون أي خجل. وربما كان علينا ألا نجعل الآخر يطل برأسه كثيرا على لحظتنا الإبداعية، وألا نسمح له بأن يملي علينا قصيدتنا، لكن كل تأثر مع ذلك مشروع. وكل تجريب ضروري. ومن يمتلك التراث الذي تمتلكه العربية لا بد له من أن يكون فخورا من ناحية، وحذرا من ناحية أخرى؛ لأن سطوة هذا التراث العظيم قد تتحول أحيانا إلى قيد. وأرجو أن تسمح لي هنا أن أعبر عن امتناني لك وسعادتي الحقيقية بهذا الحوار الذي يجريه معي إنسان أجله، وأحترم ما قدمه للمكتبة العربية، خاصة وأنه من الزملاء العرب القلائل الذين تمكنوا من الاطلاع على كتاباتي الألمانية باللغة التي كتبت بها، وليس عن طريق الترجمة. وهو ما لم يحدث إلا في حالات نادرة، فأنت تعرف أن ما يكتب بالألمانية لا يلقى نفس الاهتمام الذي يلقاه ما يكتب بالفرنسية، أو بالإنجليزية.
الفصل السابع
هكذا تكلم عبد الله
النص الكامل للديوان
Page inconnue