ومرة أخرى شعر زيتون بوجود قوة ربانية من لون ما؛ إذ كان راعي الكنيسة وزوجته يريدان العون فورا، وهو الذي عجز عن تقديمه لهما، وها هو ذا تود ومعه المركبة التي يحتاجانها بالضبط وفي اللحظة المناسبة تماما.
ولم يتردد تود، ووافق زيتون على أن يرعى الكلب أثناء غيابه، فانطلق تود، أخذ ألفين وبيولا، حاملا كلا على انفراد إلى داخل القارب، ثم أسرع بهما إلى المحطة عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز.
واستغرقت المهمة عشرين دقيقة كاملة، وسرعان ما عاد تود، فجلس في المدخل يشرب الجعة ويسترخي من جديد في مدخل المنزل ، ويده تربت الفراء المجعد للكلب الذي أنقذه.
وقال مبتسما: «بعض المهام لا بد أن يؤديها المرء بنفسه.»
كان زيتون يعرف أن تود ساكن صالح، لكنه لم يكن يعرف ذلك الجانب في شخصيته، فتحادثا وقتا ما في مدخل المنزل؛ إذ قص عليه تود قصص حالات الإنقاذ التي قام بها بنفسه، وكيف قام بنقل العشرات فعلا، وكيف كان يوصلهم إلى المستشفيات ومحطات الإغاثة، وكيف كان ذلك الأمر يسيرا لوجود القارب ذي المحرك، كانت صورة تود في ذهن زيتون دائما صورة المغرم بالتجوال، المحب للهو واللعب، كان يحب الاستمتاع بوقته، وكان يكره التقيد بالقواعد والمسئوليات، فكان يدخن ويشرب ولا يلتزم بجداول زمنية منتظمة، ولكن ها هو ذا تتوهج عيناه ويتحدث عن نقل الناس إلى بر الأمان، ويحكي كيف يقابل بالتهليل والشكر كلما وصل إلى منزل أو معبر علوي. كان زيتون واثقا بأن مثل هذه الأوقات قادرة على تغيير طبع الإنسان، وكان يسعده أن يشهد حدوث ذلك هنا، ومرور تود أيضا بها، فهو رجل صالح زاد صلاحه.
في تلك الليلة عاد ناصر مع زيتون إلى منزله في شارع دارت، فأخرجا ما بقي من لحم الضأن من الفريزر وشوياه على سقف المنزل، وكل منهما يحكي ما رأى وما سمع، ولكن ناصرا كان مرهقا، وسرعان ما خبت طاقته فزحف داخلا الخيمة، وراح من فوره في نوم عميق.
وعاد لزيتون القلق من جديد، كان لا يزال غاضبا مما حدث لراعي الكنيسة وزوجته، لم يكن يكدره شيء أكثر من نكث شخص لوعده. من كان ذلك الرجل الذي قابله في المحطة القائمة عند تقاطع شارعي نابليون وسانت تشارلز، والذي قال إنه سوف يرسل العون إلى الزوجين المذكورين؟ ولماذا قال إنه سوف يأتي ما دام لا يعتزم المجيء؟ وحاول زيتون أن يكون حسن الظن، فقال في نفسه ربما استدعي الرجل لحالة طارئة أخرى، وربما كان الرجل قد ضل الطريق، ولكن محاولته ذهبت عبثا. لم يجد عذرا كافيا، فالرجل قد نقض عهدا بسيطا. كان قد وعد بالمساعدة ولم يف بوعده.
ولما عجز زيتون عن النوم عاد فدخل المنزل وجلس على الأرض في غرفة نديمة، كانت رائحتها، رائحة بناته، قد خبت وحل محلها المطر وبدايات عفن الرطوبة، كان يفتقد البنات فعلا، وهو لا يذكر أنه افترق عنهن مثل هذه المدة الطويلة أكثر من مرات معدودة، كان الأمر يجري دائما على هذا المنوال؛ كان يشعر في اليوم الأول للفراق شعورا لطيفا بالهدوء والسكينة، ثم يبدأ ببطء إحساسه بالشوق إليهن. كان يشتاق إلى أصواتهن، إلى عيونهن السوداء البراقة، وضجيج أقدامهن الصاعدة والهابطة على الدرج، وصراخهن وغنائهن الدائم.
وفتح أحد ألبومات الصور التي احتفظ بها واستلقى على فراش نديمة، وهو يشم رائحة الفراولة في الشامبو الذي تستخدمه. وجد صورة ترجع إلى أول عام قضاه في البحر، على متن سفينة كان أحمد ربانها، وتعجب من شعره الذي سقط كثير منه، ومن مدى زهوه. كان وزنه آنذاك أقل بما يقرب من 14 كيلوجراما، والبسمة لا تفارق شفتيه، رجل يتذوق متعة الشباب الكاملة، كان أخوه أحمد قد أنقذه وأخذ يفتح أمامه عالما من بعد عالم.
غادر أحمد البيت بعد وفاة والده بعام؛ إذ ذهب إلى تركيا لدراسة الطب، كان ذلك هو المفترض في الأسرة، على الأقل. وعلى الرغم من أن محمودا كان قد منع أبناءه من الحياة في البحر، فلم يكن أحمد يريد غير ذلك، وهكذا ركب الأوتوبيس إلى إسطنبول قائلا لوالدته إن مقصده أن يصبح طبيبا، وانهمك فعلا في دراسة الطب فترة من الزمن، ولكنه سرعان ما ترك الكلية والتحق بأكاديمية الضباط البحريين، وعندما علمت أمه أن أحمد سوف يصبح ربان سفينة، دهشت، ولكنها لم تقف في طريقه، وبعد عامين تخرج أحمد وانطلق يعبر البحر المتوسط والبحر الأسود في جميع الاتجاهات.
Page inconnue