وفي الطابق السفلي كانت نديمة التي تبلغ العاشرة، وهي الثانية من حيث السن بين الأطفال، تساعد في إعداد طعام الإفطار لأختيها الصغريين عائشة وصفية، وكانتا في الخامسة والسابعة من عمريهما على الترتيب، أما زخاري، ابن كاثي من زوجها السابق، وكان في الخامسة عشرة، فكان قد غادر المنزل لمقابلة أصدقائه قبل الذهاب إلى المدرسة. وأخذت كاثي في إعداد وجبات الغداء أثناء جلوس الفتيات الثلاث إلى مائدة المطبخ، وكن يأكلن ويرددن حوارا من مشاهد من فيلم «الكبرياء والهوى» بنبرات بريطانية. كن قد أولعن ولعا شديدا بذلك الفيلم، وكانت نديمة ذات العينين السوداوين قد سمعت به من صديقاتها وأقنعت كاثي بشراء أسطوانة ال «دي في دي» التي تحمله، ومنذ وصوله والفتيات الثلاث يشاهدنه كثيرا، بل كل ليلة على مدى أسبوعين. وعرفن كل شخصية وحفظن كل كلمة وتعلمن كيفية التظاهر بالإغماء مثل العذارى الأرستوقراطيات. كان ذلك أسوأ ما حدث لهن منذ أن شاهدن مسرحية «شبح الأوبرا»؛ إذ شعرن آنذاك بالحاجة إلى غناء كل أغنية، في المنزل، أو في المدرسة، أو على السلم الكهربائي في المركز التجاري بأعلى صوت.
لم يكن زيتون واثقا بأي الحالتين كانت أسوأ. وعندما دخل المطبخ وشاهد بناته ينحنين ويؤدين تحيات المجاملات ويحركن مراوح وهمية في أيديهن، قال في نفسه: «إنهن على الأقل لا يغنين»، وأخذ وهو يصب لنفسه كوبا من عصير البرتقال يرقب هؤلاء الفتيات في حيرة، كان قد نشأ في سوريا وكانت له سبع أخوات، لم تكن أيهن تعشق الدراما هذا العشق، كانت بناته يحببن اللعب والتظاهر بالشجن، دائمات الرقص في أرجاء المنزل، يتواثبن من فراش لفراش، وينشدن الأغاني بأصوات تتكلف التهدج، ويتظاهرن بالإغماء. كان ذلك ولا شك بتأثير من كاثي. كانت في الواقع تنتمي بروحها إليهن، فهي مرحة ذات طبع طفولي في سلوكها وأذواقها، مثل الولع بألعاب الفيديو، وروايات هاري بوتر، وموسيقى البوب المحيرة التي يستمعون إليها. وكان واثقا بأنها مصممة على أن تهيئ لهن فترة طفولة هانئة تختلف عما مرت به هي. •••
قالت كاثي لزوجها: «أهذا كل ما تفطر به؟!» إذ شاهدته يلبس حذاءه استعدادا للخروج، كان متوسط الطول، قوي البنية في السابعة والأربعين. أما كيف احتفظ بوزنه فكان لغزا؛ إذ يمكن ألا يتناول إفطارا، ويكتفي بلقيمات في الغداء، ولا يكاد يلمس طعام العشاء، وهو يعمل اثنتي عشرة ساعة كل يوم بنشاط لا يتوقف، ومع ذلك لم يتذبذب وزن جسمه قط. وكانت كاثي تعرف على مدى العقد الماضي أن زوجها ينتمي إلى نوع من الرجال الذين يتميزون بصلابة لا تفسير لها، والاكتفاء الذاتي، وعدم الحاجة إلى شيء أبدا، والعيش على الماء والهواء، من دون أن يصيبه ضرر أو مرض، ومع ذلك كانت تعجب له كيف يقيم أوده! كان يمر في المطبخ ويقبل الفتيات في رءوسهن.
وقالت كاثي: «لا تنس تليفونك.» حين لمحته فوق فرن الميكروويف.
ورد قائلا، وهو يضعه في جيبه: «ولماذا أنساه؟!» - «وإذن أنت لا تنسى شيئا؟» - «مطلقا!» - «هل تزعم حقا أنك لا تنسى شيئا؟» - «بل أزعم ذلك. هذا ما أقوله.»
لكنه ما إن نطق الكلمات حتى أدرك أنه أخطأ.
وقالت كاثي ضاحكة: «نسيت بنتنا البكر!» كان يدرك أنه وقع في الفخ بقدميه، وابتسمت الصغيرات لوالدهن، كن يعرفن القصة خير المعرفة.
وقال زيتون في نفسه: «إنه من الظلم أن تؤدي هفوة واحدة في أحد عشر عاما إلى توفير الذخيرة لزوجته حتى تغيظه بها طوال حياته.» لم يكن النسيان من طبع زيتون، ولكنه إذا حدث ونسي شيئا، أو إذا حاولت كاثي أن تثبت أنه نسي شيئا، لم يكن عليها إلا أن تذكره بالوقت الذي نسي فيه نديمة؛ إذ كان قد نسيها. لم ينسها فترة طويلة، ولكنه نسيها يوما ما.
كانت نديمة قد ولدت يوم 4 من أغسطس، في الذكرى السنوية الأولى لزفافهما، وكان المخاض شديد الوطأة، وفي اليوم التالي، وبعد أن عادا إلى المنزل، قام زيتون بمساعدة كاثي على الخروج من السيارة وأغلق الباب المجاور للراكب، ثم حمل نديمة وكانت لا تزال في كرسي الرضع بالسيارة، وبدأ عند ذلك في حمل الطفلة في إحدى يديه قابضا على ذراع زوجته باليد الأخرى. وكان الدرج الموصل إلى الطابق الثاني قريبا من باب الدخول، وكانت كاثي تحتاج إلى المساعدة على الصعود، فساعدها زيتون في صعود الدرجات العالية، وكاثي تئن وتتأوه أثناء ذلك، حتى وصلا إلى غرفة النوم، حيث انهارت كاثي على الفراش والتحفت بالأغطية. كان إحساسها بالراحة يصعب التعبير عنه لفظا أو معنى لعودتها إلى المنزل حيث تستطيع الاسترخاء مع رضيعتها.
ورفعت كاثي ذراعيها إليه قائلة: «أعطها لي!»
Page inconnue