كان عبد الرحمن في طفولته مبهورا، وفخورا فخرا لا حدود له؛ إذ نشأ وترعرع في منزل كهذا، وله مثل هذا الأخ، مزهوا في كل يوم بالمجد الذي اكتسبه أخوه للأسرة، كان اعتزاز أشقاء محمد به يوقد مشاعرهم عندما يستيقظون في صباح كل يوم، ويحدد أساليب سيرهم وكلامهم ورؤية الناس لهم في جبلة وأروض وفي كل مكان آخر في سوريا. لقد أدى ذلك إلى تغيير نظرتهم إلى العالم إلى الأبد. كانت منجزات محمد توحي - بل تثبت في الواقع - أن أسرة زيتون أسرة فذة. وقد فرض ذلك على كل طفل، منذ تلك اللحظة، أن يثبت جدارته بتلك التركة.
لقد مضت إحدى وأربعون سنة على وفاة محمد. كان بزوغ نجمه ووفاته المبكرة بصورة لا تكاد تصدق قد حددا مسار أسرة زيتون بصفة عامة ومسار حياة عبد الرحمن بصفة خاصة، ولكنه لم يكن يحب أن يطيل تأمل ما حدث. اللحظات التي يحس فيها الظلم كان يقول إن أخاه قد سرق منه، وإن الظلم المتمثل في انتزاع مثل هذا الرجل الجميل من الدنيا يثير الشكوك في أشياء كثيرة. ولكنه كان يدرك الخطأ الكامن في هذا التفكير، ولم يكن ذلك مثمرا على أي حال. كل ما كان يستطيعه أن يشرف ذكرى أخيه، بأن يكون قويا وشجاعا وصادقا، وأن يتحمل ويصبر. وليكن صالحا مثل محمد.
واستقر زيتون في الخيمة ونام نوما متقطعا. وعلى امتداد الحي كله كانت الكلاب قد أذهب الجوع صوابها، كان نباحها وحشيا طليقا متصاعدا.
الخميس أول سبتمبر
في السادسة صباحا كانت كاثي قد انتهت من وضع الأمتعة في سيارتها الأوديسية، وربطت أحزمة الأمان حول أطفالها فيها. كانت أختاها لا تزالان نائمتين عندما بدأت هي والأطفال السير بالسيارة، مغادرين باتون روج. كانت المسافة إلى مدينة فينكس تبلغ ألف ميل وخمسمائة.
وسألت نديمة: «هل نترك كلبتنا ميكاي حقا؟»
لم تكن كاثي نفسها تصدق ذلك، ولكن ما كان بيدها أن تفعل سوى ذلك؟ إذ طلبت كاثي من أختها باتي أن تسمح لها بترك الكلبة لديها أسبوعا، وأعطت بعض علب طعام الكلاب المحفوظ والنقود إلى أحد المراهقين من أبناء باتي حتى يرعى ميكاي المسكينة. كان ذلك أفضل من وضعها في مأوى للكلاب، وأفضل كثيرا من حملها في الشاحنة كل هذه المسافة إلى فينيكس والعودة بها. لم تكن أعصاب كاثي تتحمل ذلك وتكفيها صعوبة الرحلة مع أربعة أطفال صغار.
كانوا يشرعون في قطع مسافة تستغرق ثلاثة أيام على الأقل بالسيارة، والأرجح أن تستغرق أربعة أو خمسة. ما الذي كانت تفعله؟ كان من قبيل الجنون قيادة السيارة أربعة أيام وقد امتلأت بالأطفال، واتخاذها ذلك القرار في غيبة زوجها! لم يحدث أن مرت بهذا الموقف منذ زمن بعيد، ولكن لم يكن لديها خيار آخر. لم تكن تستطيع البقاء في باتون روج طيلة المدة التي قد تمتد لأسابيع يعلم الله عددها قبل أن تصبح نيو أورلينز صالحة للسكنى من جديد. لم تكن حتى بدأت في التفكير في المدرسة، أو في الملابس؛ إذ لم تصحب معها سوى ما يكفي يومين، أو فيما عساهم أن يفعلوا لكسب المال والعمل متوقف.
وأثناء اتجاهها غربا في الطريق رقم أ-10 شعرت ببعض الراحة إذ أدركت أنها تستطيع، على الأقل، أن تجد الوقت الكافي للتفكير أثناء انطلاقها في ذلك الطريق الفسيح.
وعندما خرجت من المدينة إلى الطريق الرئيس أدارت رقم تليفون منزل شارع كليبورن. لم يكن الموعد الذي اتفقت مع زيتون عليه قد حان، بل كان أمامه ساعات، ولكنها ضربت الرقم آملة أن يكون زيتون قد وصل إليها أولا وينتظر أن يتصل بها. ورن التليفون ثلاث مرات، وقال رجل: «مرحبا؟» كان الصوت صوت أمريكي، ولم يكن صوت زوجها، كما كان فظ النبرات نافد الصبر.
Page inconnue