كان محمود والد زيتون قد ولد في جزيرة أروض التي لا تبعد كثيرا عن جبلة، وهي الجزيرة الوحيدة بالقرب من الساحل السوري، وهي صغيرة إلى الحد الذي لم تكن تظهر معه في بعض الخرائط، وكان معظم الصبيان يتأهلون للعمل ببناء السفن أو صيد الأسماك، وبدأ محمود في يفوعه يعمل في السفن على الطرق البحرية بين لبنان وسوريا، وخصوصا سفن البضائع الشراعية الضخمة التي تحمل الأخشاب إلى دمشق والمدن الأخرى الساحلية، وكان محمود إبان الحرب العالمية الثانية على متن إحدى هذه السفن المتجهة من قبرص إلى مصر، وكان هو ورفاقه يدركون دون أن تتضح لهم الصورة تماما وجود قوات المحور التي تستهدفهم ما داموا يمكن أن ينقلوا المؤن إلى الحلفاء، ولكنهم ذهلوا عندما ظهر سرب من الطائرات الألمانية في الأفق واتجه إليهم، وسارع محمود ورفاقه بالغطس في البحر قبل أن تبدأ الطائرات إطلاق وابل من الرصاص، وتمكنوا من استخراج قارب نجاة مطاطي نفخوه قبل أن تغرق سفينتهم، وكانوا قد بدءوا يزحفون إلى القارب عندما عاد الألمان الذين كانوا فيما يبدو قد قرروا قتل جميع من نجا من أفراد طاقم السفينة، واضطر محمود ورفاقه إلى الغطس تاركين القارب، والانتظار حتى يقتنع الألمان أن البحارة قد قتلوا أو غرقوا جميعا، وعندما عاد البحارة إلى قاربهم، بعد أن لاح لهم أن الأمان قد عاد إلى سطح الماء، وجدوا القارب مليئا بالثقوب ... وهكذا، خلعوا قمصانهم وسدوا بها تلك الثقوب، وجعلوا يجدفون بأياديهم لأميال حتى وصولوا إلى الساحل المصري.
وأما القصة التي كان محمود يكثر من روايتها عندما كان زيتون في بواكير صباه ، وكان محمود يريد بها منع أطفاله من الحياة في البحر، فكانت القصة التالية:
كان محمود في طريق عودته من اليونان على متن سفينة شراعية ذات صاريتين، ويبلغ طولها ستا وثلاثين قدما، عندما فاجأت السفينة عاصفة سوداء متعرجة المسار، وظل البحارة يقودون السفينة وسط العاصفة ساعات متوالية حتى أصيبت الصارية الرئيسة بشرخ أدى إلى وقوع الشراع في الماء، وهو ما كان ينذر بإلقاء السفينة كلها في البحر! ومن فوره، ومن دون تفكير، تسلق محمود الصارية، منتويا تخليص الشراع منها وتصحيح وضع جسم السفينة، ولكنه عندما وصل إلى الشرخ في الصارية إذا بها تنهار تماما، فسقط محمود في البحر، كانت السفينة تبحر بسرعة ثماني عقد (أي ثلاثة عشر كيلومترا في الساعة)، وهو ما جعل عودتها لإنقاذ محمود مستحيلة، فأخذ البحارة يلقون كل ما استطاعوا إلقاءه إلى محمود - بعض الألواح الخشبية وبرميل - ولم تمض دقائق حتى اختفت السفينة في الظلام، وظل وحيدا في البحر يومين كاملين، وأسماك القرش تسبح تحته والعواصف تهب من فوقه، متعلقا بما بقي من البرميل، حتى ألقته الأمواج آخر الأمر على الساحل بالقرب من اللاذقية، على مبعدة خمسين ميلا شمال جزيرة أروض.
ولم يستطع أحد، ولا محمود نفسه، أن يصدق أنه نجا، ولكنه حلف بعدها ألا يعرض نفسه لتلك المخاطرة مرة أخرى، فأقلع عن الإبحار، وانتقل مع أسرته من أروض إلى أرض سوريا الداخلية، ومنع أطفاله من العمل بالبحر، وقرر توفير تعليم جديد لهم جميعا، وإتاحة فرص أخرى للعمل بعيدا عن صيد السمك وبناء السفن.
وانطلق محمود وزوجته يبحثان عن منزل جديد بعيد عن الماء، وذلك في جميع أنحاء سوريا؛ فقضيا شهورا طويلة في السفر مع أطفالهما الصغار، ينظران في هذه البلدة وذلك المسكن، دون أن يلوح لهما ما يصلح، ولم يجدا شيئا يناسبهما حتى عثرا على هذا المنزل الذي يتكون من طابقين، وبه متسع لجميع أطفالهما الآن ومن سينجبانه في المستقبل، وعندما أعلن محمود أن هذا المنزل مناسب لهم، ضحكت زوجته؛ إذ كان المنزل يواجه البحر ، ولا يكاد يبتعد خمسين قدما عن الساحل.
وفي بلدة جبلة، افتتح محمود حانوتا للخردوات المعدنية، وألحق أبناءه وبناته بأفضل المدارس، وعلم أبناءه كل حرفة يعرفها، وعرف الناس جميعا أسرة زيتون؛ إذ كان أفرادها كلهم مجدين مجتهدين أذكياء، كما عرف الناس جميعا عبد الرحمن، الطفل الثامن، الذي أصبح الآن يافعا يريد أن يعرف كل شيء، ولا يخشى أي لون من ألوان العمل، وقد وجد نفسه في يفوعه يراقب الصناع وأصحاب الحرف في البلدة، كلما استطاع ذلك، ويدرس أسرار حرفهم، وعندما كانوا يدركون أنه جاد وسريع التعلم، كانوا يعلمونه كل ما يعرفونه، وعلى مر السنين اكتسب معرفة بكل صنعة استطاع الاقتراب منها، من صيد السمك، إلى تجهيزات السفن، والطلاء، وإعداد الأطر، وحرفة البناء، والسباكة، وإعداد الأسقف، وأعمال البلاط، بل وإصلاح السيارات.
ومن المحتمل أن والد زيتون كان سيشعر بالفخر والدهشة لمسار حياة ابنه، لم يكن يريد لأطفاله أن يعملوا بالبحر، ولكن عددا كبيرا منهم عمل في البحر، ومنهم زيتون. كان محمود يريد لأطفاله أن يصبحوا أطباء ومعلمين، ولكن زيتون كان يشبه والده شبها كبيرا، فعمل بحارا أول الأمر، ثم عمل كعامل بناء لتوفير الرزق لأسرته، وليضمن أن يعيش حتى يشهد أطفاله يكبرون.
واتصل زيتون تليفونيا بكاثي في الحادية عشرة، وهو في مستودع المعدات واللوازم المنزلية بعد أن أصلح النافذة في المنزل الكائن بشارع برودمور.
وسألها: «هل سمعت أي أنباء؟»
وأجابت: «التوقعات سيئة!»
Page inconnue