وفي غمار الأفكار التي تشتد حلكتها على امتداد ساعات لا تحصى عادت كاثي لتخيل مكان إقامتها في المستقبل. تراها تعيش في أريزونا؟ لا بد لها في هذه الحالة أن تجد منزلا بالقرب من منزل يوكو، ولا بد أن يصبح أحمد صورة للوالد، ولكن كاثي كانت قد اعتمدت من قبل اعتمادا شديد الوطأة على يوكو وأحمد، ولم تستطع أن تتصور تحميلهما عبء الأسرة كلها بصفة مستمرة.
وخطرت ببالها صورة أسرة زيتون في سوريا؛ صورة شبكة تكافل متينة، نسيج شاسع متماسك الخيوط من العلاقات الأسرية. كانت قد اصطحبت الأطفال، هي وزيتون، إلى هناك في عام 2003 في زيارة لمدة أسبوعين، وكان البلد يختلف عن كل ما توقعت. كان أول ما شد انتباهها سقوط الثلج. الثلج في دمشق! واستقلوا الأتوبيس إلى جبلة في الشمال، وعلى طول الطريق صعقت مما شاهدت، وأقرت فيما بعد أنها كانت لديها صورة قديمة بالية لسوريا. كانت تتوقع مشاهدة الصحارى والحمير وعربات اليد، لا أن تشاهد هذا العدد الكبير من المدن الزاخرة بالحركة والأجناس المختلفة، وهذا العدد الكبير من محال بيع السيارات المرسيدس والبي إم دبليو مصطفة على الطريق الرئيس المتجه شمالا، وهذا العدد الكبير من النساء اللاتي يلبسن ملابس ضيقة، عاريات الشعر، ولكنها شاهدت آثارا لحياة أقل حداثة من تلك أيضا، مثل من يبيعون السردين والكرنب على جانبي الطريق، وبعض المنازل المبنية من الآجر والطين.
وأثناء السفر شمالا إلى جبلة سرعان ما التقى الطريق بالشريط الساحلي، فإذا بهم يسافرون إلى منطقة ساحلية جميلة، تطل التلال فيها على البحر، وتقوم المساجد فوق الطريق جنبا إلى جنب مع الكنائس ، وعشرات منها، كانت تفترض أن سوريا ليس فيها غير المسلمين، لكنها كانت مخطئة، في هذا، وفي كثير من غير هذا. وأحبت شعورها بالدهشة حين تبينت أن سوريا في جوهرها بلد من بلدان البحر المتوسط، ترتبط بالبحر، وتحب الأطعمة والأفكار الجديدة، ويتجلى فيها تأثير اليونان وإيطاليا وثقافات كثيرة. وكانت كاثي تلتهم ذلك كله: الخضراوات والأسماك الطازجة، واللبن الزبادي، ولحم الضأن. كان لحم الضأن هنا أفضل مما ذاقته في أي مكان آخر، وكانت تأكله كلما سنحت لها الفرصة.
وفي بلدة جبلة الجميلة على ساحل البحر شاهدت المنازل التي بناها أجداد زيتون، والنصب التذكاري المقام لأخيه محمد. وكانت أسرتها قد أقامت عند قصي، أخي عبد الرحمن، وهو رجل اجتماعي يحب الحياة بصورة رائعة، وكان لا يزال يقيم في منزل طفولته. كان المنزل عتيقا ساحرا على الساحل، يتميز بالسقوف العالية والنوافذ المفتوحة دائما أمام نسمات البحر. كانت تجد أفراد الأسرة الكبيرة في كل مكان على مسيرة خطوات، في عدد كبير من الأقارب، وتاريخ حافل عريق. وبينما كان زيتون منطلقا في أرجاء البلدة يعيد ربط ما انقطع من صلات مع أصدقائه القدامى، كانت كاثي قد قضت ساعة العصر في الطهي مع فايزة، أخت زيتون، وأخطأت في استخدام غاز البروبين وكادت أن تتسبب في احتراق المطبخ. كان الحادث مخيفا آنذاك، لكنه أثار كثيرا من التندر والتفكه في الأيام التالية.
كان أهل زوجها كراما صالحين، وقد تلقى كل منهم تعليما عاليا، ويتميزون بالصراحة والأريحية، ولا تتوقف الضحكات الغامرة في منزل كل منهم. هل كان من المحال أن تصطحب كاثي الأطفال وتذهب للعيش معهم هناك في جبلة؟ كانت الفكرة تمثل تغييرا جذريا في حياتها، ولكنها كانت تضمن لها الراحة في ذلك المكان حيث تحتضنها الأسرة، وحيث يحيط بالأطفال كثيرون من الأقارب، وربما خفف ذلك من لوعة فقدان أبيهم.
كان اكتئاب أسرة زيتون في سوريا وتقبلها لفقدان عبد الرحمن في تزايد مطرد. كان عدد الجثث التي عثر عليها كبيرا إلى حد بعيد؛ إذ كان يبلغ سبعمائة في نيو أورلينز ، وقال إخوته إنه لا بد أن يكون واحدا من هؤلاء، قطعا، ومن الحمق الظن بغير ذلك. ولم يكونوا يريدون الآن سوى الاطمئنان بمعرفة أسلوب وفاته. كانوا يريدون الجثة لتغسيلها ودفنها.
السبت 17من سبتمبر
كانت يوكو قد منعت كاثي من مشاهدة التليفزيون أو استخدام الإنترنت، ولكن كاثي لم تستطع المقاومة، جعلت تبحث عن اسم زوجها، بحثت عن عنوان شركتهما. وبحثت في أي مكان يكون قد عثر عليه فيه.
لم تعثر على أي شيء خاص به، بل وجدت أشياء أخرى مرعبة. ففي كل مكان في الإنترنت كانت تجد أنباء عن العنف وأدلة على المبالغة فيها، ففي إحدى الصفحات تقرأ عن مئات حالات القتل العمد، وظهور التماسيح في المياه، وعصابات الرجال المنهمكين في السلب والنهب. وفي صفحة أخرى تقرأ نفيا لتعرض الأطفال للاغتصاب، أو نفي وقوع جرائم القتل المتعمد في القبة الكبيرة، أو وفاة أحد في مركز المؤتمرات، لم تكن تبدو نهاية لضروب الخوف والتشويش، والتصورات العنصرية، ونشر الشائعات.
لم يكن أحد يجادل في أن المدينة وقعت في هوة الفوضى، ولكن الجدال أصبح يدور حول مصدر تلك الفوضى. هل كان المصدر هو السكان أم الذين أرسلوا لإحلال النظام؟ ودار عقل كاثي في ذهول وهي تقرأ عن التركيز غير المسبوق على المسلحين رجالا ونساء في المدينة.
Page inconnue