فلما ترك العمال عند مدخل البلد ذهب إلى دار الضيافة، فشرب قهوة مع الموجودين، ونسي بذلك ما كان منه.
أما زينب فقد أحدثت هذه القبلة في نفسها سرورا، وجاءت لها بأحلام شتى شغلتها عن حديث حامد طول الطريق. ومهما تكن هاته النفوس الفلاحة تهتز عند ذكر كلمة العرض، فإن النفس الإنسانية وما ركب فيها بالفطرة من حب تخليد النوع أقوى كثيرا من العقائد العامة، ما دام عملها لم يخرج بعد إلى الظهور يكون موضع حكم الناس عليه. فما دام الواحد مع نفسه يحدثها، وينظر في آمالها ورغائبها، فهي تطلب دائما ما تدفعها الطبيعة لطلبه؛ تطلب الطعام ساعة الجوع والماء ساعة العطش وهلم جرا. فإذا جاءت اللحظة التي يقضي لها الواحد فيها رغائبه رجع إلى تقدير آخر غير تقديره الخاص، فلم يبح لنفسه إلا ما يسمح له به الوسط الذي يعيش فيه؛ ولهذا كان الإنسان في نفاق دائم يزيد مقداره وينقص بمقدار الحرية التي يهبها الوسط لإقناع غاياته وأغراضه.
لم ينقطع حامد عن الذهاب إلى المزارع، ولا انقطع عن محادثة زينب والرجوع إلى جانبها. غير أنه كان أحفظ في حديثه وأقل كلاما وهي لم تجد في عمل حامد إلا ما يدعو لقربها منه وقربه منها. فكانت أقل رفعا للكلفة في الحديث، وإن لم يسمح لها حياؤها الشديد وما يوحي إليها جمالها من الأنفة أن تنزل لما يسرع بعض مثيلاتها إلى النزول إليه متى وجدت من مثل حامد سميعا لما تقول. وسمح لنفسه بعد ذلك أن يقبلها مرة ومرة من غير أن يهزه إحساس ما، وهو يقول في نفسه: «أليس طبيعيا أن يقبل شاب ابنة أعجبه جمالها»؟!
3
جاء الخريف، وجاء معه على آخر أيام المسامحة السنوية، وسافر حامد مع إخوته، ودخل مع الأيام في عمله، وشغل به عن كل ما سواه. وجعل ذكر القرية وما فيها ومن فيها يدخل تحت ستار من النسيان، إلا أن يثيره ساعة بعض القادمين من ناحيتها، فيسأل حامد عما فيها وعن مجمل حالها.. فهل بقي لزينب شيء من الذكر عنده؟ وهل أحست زينب من بعده بمعنى الفراق؟ أو أن الحاضر شغلها عن الساعات الماضية؟
ما كان أشبههما كل واحد بصاحبه! غطى النسيان على تلك الأيام، وأصبح كل مشتغلا بنفسه وبعمله وبما يحيط به. فإذا ما خلا حامد بنفسه وجاءت فرصة ذكر فيها الريف وجماله، ارتسمت أمامه المزارع بكلها، وغدرانها الساكنة تشق الأراضي الواسعة، ويقوم عن جانبيها الشجر بكسائه الأخضر البديع، والآلات مشتتة هنا وهناك تدور فتبعث في الهواء نغمتها الحزينة الشاكية، ويعلو ذلك سماء صافية مهيضة بنور الشمس الساطع. فإذا ما جاء المغرب وانتشر الليل تلألأت النجوم في علوها، وسرى النسيم الرقيق فأرسل للخليقة الهادئة أسعد الأحلام. وأحيانا يذكر زينب ومن معها.
أما هي فاستمرت في طريق حياتها، تمر من كل يوم لغده، فتجد بينهما من الشبه؛ إنهما يسيلان هادئين يقطعان في عمر الوجود العتيق، ويحملانها وأحلامها ليسلماها إلى ما بعدهما. وهي تنتظر بآمالها القديمة أن تتحقق. والزمان ينساب أمام عينيها، وهي ترنو إلى المستقبل بأملها، والمستقبل يأتي كذلك فيمر بالخليقة فيزيدها قدما.
جاء الخريف على كل ذي ساق، ولم يبق إلا النبت الأخضر يغطي وجه البسيطة وقد انكشف لمقدم الشتاء. ومزارع البرسيم تذهب أمام البصر إلى اللا نهاية. وأقفرت الأرض من بني آدم، جماعة العمال وأصبحت مرعى للنعم التي شاركتهم أيام نصبهم. وها هي ذي ترتاح أن جادت عليهم الطبيعة ببعض الراحة، فتراها في رعيها وكأنها في شهور عيدها ترفع رأسها ما بين آونة وأخرى، ثم تزعق فتملأ أذن الطبيعة الصامتة. ويجيبها من الجو جماعة الطير من قطاة أو قمرية تصب من علوها أغاريد الشتاء، وتصدح بصوتها الرخيم الهادئ فتملأ أذن الطبيعة بما يذهب روعها ويرد إليها هدأتها. ثم على مرمى النظر ترى عشا من الحطب الناشف أبيض لا غبرة عليه قد غسله المطر والريح. وفي تلك الفتحة الضيقة التي يسمونها بابه تلمح أردية سوداء لا حراك بها، فإذا اقتربت رأيت نارا موقدة قد غطاها التراب، وحولها ومن تحت تلك الدفافي تطل وجوه الفلاحين السمراء وهم يتحدثون إلى جانب ذلك القليل من الحرارة، وقد اتخذوا عشهم درءا من تيار الهواء الشديد في ذلك الفصل من السنة. ثم ما بين ساعة وساعة يقوم صغير من بينهم ليرى أمر هاته الدواب الراتعة في مرعاها. وإذا أرسلت بنظرك على طول الطريق رأيته خاليا إلا ساعات من النهار يسرح فيها الشغالة أو يرجعون. وما سوى ذلك فقل أن تدوس السكة قدم. •••
قبيل الغروب في يوم من أيام ديسمبر، تلك الأيام الباردة التي يلفح البرد فيها الوجوه، ويسمع الواحد صرير أسنان صاحبه، كان يسير على الطريق بين هاته المزارع شخصان منصرفان إلى البلد، وكانا يتحدثان عما ينويان عمله بالليل: - أما أنا فرايح دار عمي سعيد أحضر «الفكة»، ونسقف ونشوف مصطفى وبنت أم السعد وهما بيرقصوا. - لكن يا أخي هو العرس وقتيه؟ أدي الكتاب مكتوب من سنتين وما حدش عارف حيفرحوا امته؟ - سمعت أنه بعد العيد بجمعتين. والعيد أهو فاضل عليه ثلاثة أيام. يعني فاضل على العرس حسبة عشرين يوم.
ذهبا إلى «الفكة» كما ذهب كثير غيرهم، وبقي الكل يترددون عليها. ولما جاء حامد ليقضي أيام العيد بين إخوته وأهله، وسمع بالفكة وما فيها من التطبيل والتصفيق والرقص، استخفته نفسه أن يذهب إليها. فصحب صديقا له وسارا يتضاحكان سلفا في انتظار ما سيريهما هذا الليل العجيب.
Page inconnue