وبين المزارع المنقطعة لا أحد بها، ولا يسمع فيها حسيس، سار على سكة يظللها الشجر القائم إلى جانب الترعة، فاتقى بظله حر الهجير، ثم اتخذ أقرب الطرق إلى البلد الغارق في ضوء الشمس تظهر البيوت البيضاء القليلة التي به وسط دوره الترابية اللون وكأنها جميعا أطلال بعض المدن القديمة ... ووصل إليه والناس لا يزالون في سنة الظهيرة، ووقف عند الباب ونادى الخادم باسمه فأجابه آخر إنه قد ذهب إلى المحطة، وما كان ليهمه أي شخص يجيب.. إنه يريد قهوة يشربها ليسلي همه سويعة من زمان حتى يقابل بعض إخوته ويجلسون للحديث معا.. فلما جاءت القهوة إذا بعضهم قد حضر، وكانوا عند الترعة يرقبون النجار يضع التوابيت الجديدة وقد انتهى منها.. بذلك نبهوا على الخادم أن يملأ الكنكة الكبيرة وتناولوا الحديث في أخبار شتى عن البلد وما فيه وكيف يبحث المدينون في هذه الأيام عن وسائل السداد، ثم الفدادين التي ستباع، وانتقلوا من هذا لغيره ولغيره، وأخيرا تركوا حامدا مكانه وقاموا كلهم فدخلوا الدار ليروا ما فيها.
أما هو فبقي في مكانه يفكر ساعة في شأنه هو، وأخرى في أمر أهل البلد المساكين لا يقدرون فظائع الدين ورذائله، ولا يفهمون المصائب التي تحيق بهم من وراء ذلك الربا الفاحش الذي يستدينون به.
والشمس لا تزال حارة محرقة في الخارج وإن ابتدأ الهواء يتحرك والأشياء تمد ظلها يلجأ إليه من لا عمل لهم من العاطلين يجلسون فيه يقصون الحكايات ويلعبون الطاولة بقية النهار، والأشجار تتمايل فروعها قليلا قليلا، وماء البرك الواسعة قد بقي طول الظهيرة يترقرق ويلمع عليه النور الساطع جاءته موجات خفيفة تتقلب على ظهره. وكلما تقدم الوقت حل الانتعاش محل الموت، ودخلت الحياة جسم الكون، وراجع الوجود شيء من ابتسامته بعد ذلك العبوس الذي يعروه منتصف النهار طول أيام الصيف. وكلما نظر حامد ورأى الأشجار تزداد حركة والنخيل يهتز جريده استبشر بالساعة البديعة ساعة الغروب.
ثم تبين على الطريق بعيدا بعيدا راكبا يلوح عليه أو يسير مبطئا، فاجتهد أن يتعرف من ذا فلم يقدر.. هذا شكل جديد غير الذي يرى كل يوم.. هذه سيدة ملتفة في حبرتها يسبق الفرس ممسكا بلجامها خادمهم. من عساها تكون هاته القادمة؟ لعلها بعض معارفهم جاءت لزيارة البيت وتبقى يوما أو بعض يوم ثم ترجع.
والحبرة مسدولة على أذرعها بانتظام لا يبين من تحتها إلا يداها الممسكتان بالسرع وتلمعان تحت النور الساطع المتلألئ به الفضاء، والفرس تدق الأرض بخطوات مرتبة يهتز معها جسم الراكبة متمايلا فوق السرج. وتقترب رويدا رويدا من الدار، وكلما اقتربت زادت تميزا هي ومن عليها.. ثم صارتا على قيد باع وحامد لا يزال غير عارف من هذه. فلما نزلت وجاء الخادم سأله عنها فإذا بها عزيزة!!
5
عزيزتي
بقية أمل أضعها بين يديك، ولك الحكم. إما حققتها فجعلت في عيشي سعادة الحياة، وإما أهملتها فحاق بي البؤس. بين يديك روح تصرفينها بكلمة منك فتدفعين بها إن شئت إلى عالم الراضين، أو يقذف بها في سعير الشقاء.. روح طالما تقلبت بين آمال وآلام من أحلامها، وتريد أن تخرج من نومها الطويل إلى اليقظة، فإما متعتها بآمالها، وإما أن تبقى تئن تحت آلامها.
نعم حبيبة! كم ليال قضيتها مع خيالك الكريم يرنو إلي بعينه ويبسم ويعانقني، ونبيت معا سعيدين، حتى إذا تركني قلت هل من ساعة في نهار الحقيقة أعرف فيها طعم هذه الخيالات؟! ومن يدري؟ هل أنالها؟
وتنقضي الشهور الطويلة وأنا في انتظار ذلك اليوم المأمول، نجلس فيه جنبا لجنب لا ثالث معنا. إنني أحبك يا عزيزة، ولكني محروم بائس.
Page inconnue