وخليل مسرور كل السرور، لأنه رتب حسابه بحيث لا يكون عليه دين مطلقا، ومن غير أن يبيع شيئا من أرض داير البلد، ويعد في نفسه أن قد أتم عملا كبيرا سهل الله له فيه أحسن السبيل.
3
جاء الربيع، وجاء معه بأحلام كثيرة تناوبت نفس زينب، وجعلتها شديدة الإحساس بوحدتها في هذه الحياة الجديدة، حياة الزوجية المتشابهة. فكلما مرت تحت الأشجار اليانعة بأوراقها الزاهية وزهورها الجميلة، وسمعت أغاريد الطير الفرح سمعت دائبا في قلبها صوتا يناديها ويذكرها بماضي أيامها.. لكنها تحس بنفسها اليوم أسيرة خرجت من حريتها الأولى، ولم يبق لها أن تتصرف في قلبها، ولا أن تصرفه عن زوجها. غير أن القلب أعظم من أن تملكه، وهو حر بالرغم منا يعطي نفسه لمن يشاء، ثم يتركها لذلك الموهوب ولا يرجع مهما ناديناه ومهما تضرعنا له. وأخيرا نرضى بعجزنا ونقنع بالحياة التي أراد لنا، وتجيئنا مع هذا الرضا سعادة عظمى نمرح منها في جو عظيم.
وكادت زينب تصل إلى هذا الموقف أمام نفسها، وترجع باحثة عن إبراهيم الذي كان يبحث عنها فتفر منه، ترجع إليه فترمي بنفسها بين ذراعيه، ويرجعان معا إلى السعادة التي كانا فيها قبل زواجها. وما دمنا نصل من الحياة إلى السعادة فمن الجنون أن نبقى حيث نحن خيفة اعتقاد قديم أو عادة عامة. إذ ما دامت السعادة أقصى ما يأمل الفرد في الحياة، وما دام قد وصل إليها، وما دام هو الذي يتمتع ببقائها ويتألم إن حرم منها - وغيره ليس له شيء من ذلك كله - فما أجدره بأن يحتفظ بكل ذرة من الهناءة يصل إليها برغم أنف أي إنسان!
هذا ما يملي به العقل الأناني الأثر. لكننا أكثر الأحيان ترانا مضطرين إلى ألا نسمع لقوله. وبالرغم منا يتسرب كلام الناس إلى نفوسنا فيفسد علينا سعادتنا ويقلبها شقاء، ويضطرنا لترك أسبابها.
خشيت زينب ذلك، وجعلت تتقلب في نفسها إحساسات مضطربة تهزها.. هل تذهب لإبراهيم تحت جناح الخفاء فتستسمحه عما سبق من هجرها إياه؟.. نعم نعم. يجب أن تفعل. لم يبق على ما تحملت من الشقاء صبر.. لكن كيف يمكن أن تفكر في هذا وفيه من الغدر بزوجها ونكث ما تحمل له من العهد وهي زوجة، وتلك الخطوة التي دخلت بها داره على هذا الاعتقاد وضعت في عنقها من الواجبات ما إن حاولت التخلص منه حاولت القضاء على شرفها وعرضها. وما كانت لتقدم على احتمال فظاعة ذلك الجرم وتميت من ضميرها كل حياة، وتقضي فيه على كل إحساس! .. ألا ما أقسى أباها! سلك بها ذلك المسلك الخشن واضطرها لموقفها الحاضر تكاد تصعق دونه!.. وهل لمكره كلمة أو عليه واجب أو حملت ذمته عهدا؟! فإذا كانت قد جاءت لحسن كرها فهي بريئة من كل عهد، ولا بأس في خلوتها بإبراهيم تضم صدرها لصدره يقبلها وتقبله، وتدخل إلى حياتها التعسة لحظات هناءة تسترقها خفية من الأيام التي ترقبها. وليت شعري إذا كنا نقضي كل أيامنا تحت حكم الزمان القاهر وظلمه وحمقه، ونحسب لكل دقيقة أكبر الحساب، ونؤنب نفوسنا ونقرعها لغير سبب، فهل للحياة مع ذلك من طعم؟ وهل تستحق أن تعاش!؟
في تلك الساعة التي تجتمع فيها بصاحبها القديم وتبثه كامن أشواقها وتحكي له عناءها الطويل الذي قاست من يوم زواجها كم يكون تأثرهما؟ وهل يغيب صوابهما ويفقدان رشدهما متعانقين ويضيعان معا في عالم كبير بين السعادة الحاضرة وذكرى ألم الهجران؟!.. .. ولكن هاته العين الكبيرة التي ترقبهما من السماء أهي مباركة لهما في هنائهما أو ساخطة إن خانا عقدة كانت فيها يد الله، غاضبة عليهما منتظرة بهما تلك الأيام القصيرة على الأرض لتحاسبهما يوم تجزى كل نفس بما كسبت؟ هاته العين المحيطة بالوجود لا تخفى عليها خافية، ولا تغفل عما في السماوات وما في الأرضين، أتراها ساهية عنهما، تاركة لهما العنان يمرحان في حين صاحب زينب يجد ليطعم نفسه ويطعمها عاملا لسعادتهما معا؟ .. ولكن هذا الإله العادل الرحيم يعلم شقاءها الذي احتل نفسها، ولم يبق لها من أثر السعادة التي كانت ترجو في الزواج. هو العليم بماضي أحلامها وآمالها، فإذا كانت الأيام قد خيبت ظنونها وقضت على تلك الخيالات التي كانت تملأ رأسها، فهل تلقى جزاء ذلك؟!
وهكذا بقي قلبها الرقيق يتقلب مع إحساساتها المتخالفة؛ فطورا يبحث عن السعادة يبتغيها في قلب آخر عزيز عنده محبب إليه يكن لزينب من الهوى مقدار ما تكن له، ويحوي من نار الوجد ما يقيمه ويقعده، وتارة يدخل عالم الاعتقاد والتسليم حيث رسم القدر خطة الحياة للناس إلى لا نهايات الزمان البعيدة - إلى ذلك الوقت الذي لا نكيفه حين يصبح كل شيء كأول خلقه. وأخيرا رأت أن الحياة الكالحة التي تعيش اليوم غير ممكنة الاحتمال، ورأت سوء ما عملت حين صمت أذنها دون كل نداء من إبراهيم. ومرت أيام وهذا الرأي يقوى في نفسها حتى كان يوم السوق، وقد خرجت كعادتها مع أخت زوجها، ورأت إبراهيم هناك يشتري بعض ما يلزمه، ففاتحته التحية، وسلمت عليه بيدها. فلما أعطاها يده ضغطتها حتى علته الدهشة من هذا السلوك الذي لم يكن منتظرا ... لم تمد يدها تسلم عليه؟ ليست هذه عادتها معه ولا هي عادتها مع أحد. ولم تضغط يده؟
هنالك نظر لها يريد أن يسترحمها، فأجابته بنظرة نمت عن كل أحلامها وما دار في الأيام الأخيرة في نفسها.
رجع إبراهيم معهما، وجعل يكلمهما طول الطريق بحديث معتاد مبتذل، ويحكي لهما أقاصيص لا يعجز عن أن يدخل بينها ما يفهم به زينب مقدار شوقه لها والانفراد بها. وزينب تحدق إليه أحيانا كأنها تريد أن تلتهمه بعيونها تارة، وتصعد الزفرات أخرى كأنما تتحسر على حاضر حياتها وتجيبه بكلمات تنم عن عميق ألمها وشديد تعسها.
Page inconnue