ويقول لي علي كمونة وهو رئيس نيابة النقض إنه عندما قرأ كلمات السيدة عائشة رضي الله عنها التي قالتها على قبر أبيها أول الخلفاء الراشدين أبي بكر الصديق: «لما عشت للدنيا مذلا بإعراضك عنها وللآخرة معزا بإقبالك عليها صغر في عينك ما كبر في أعين الآخرين.» عندما قرأ هذه الأوصاف رآها تتمثل تماما في أخلاق ثروت، وأنه يمكننا أن نقول فيه نفس هذه الكلمات. وقال لي أيضا إن زوجي قال له مرات متكررة إنه لو لم يتزوج مني لما تزوج أبدا، وقال لي أيضا: إن الأديب العالمي نجيب محفوظ عندما سمع بخبر الوفاة قال على الفور: أخلاقه ليس لها مثيل ولن تتكرر، وإن دوره في الرواية الطويلة يحتاج إلى بحث مطول بعيدا عن المذاهب السياسية.
وكان يقول لزوجي: إن أغلب الكتاب يبدءون فقراء ثم يصبحون أغنياء إلا أنت بدأت غنيا ثم انتهى بك الأمر إلى الفقر؛ وذلك لأنك بعت أرضك لتعيش، لأن قلمك كان حرا جريئا لم تنافق السلطة ، ولم تحن رأسك، ولم تتنازل عن رأيك ولم تكتب إلا ما يمليه عليك ضميرك.
وقال لي علي كمونة أيضا إنه سمع من ثروت أنه بعد صدور كتاب «ابن عمار» وهو أول كتاب له قابله النقاد بسكوت تام فقال لتوفيق بك الحكيم عما في قلبه من هذا السكوت، فأجابه الكاتب الكبير: لو كنت ذهبت إلى كازينو وتشاجرت هناك لكتبت عنك كل الصحف والمجلات، ولكن لم يمر وقت طويل حتى قررت وزارة التربية والتعليم كتاب «ابن عمار» على تلاميذ الشهادة الإعدادية في الستينيات؛ وكان تعليق توفيق بك «مبروك يا ثروت لكن كيف أخذوا كتابك ولم يأخذوا كتابا من عندي؟» وقال لي علي كمونة أيضا إنه زار يوما ثروت في مكتبه في مجلس الشورى ودخل عليهما المستشار «فرج الدري» أمين عام المجلس وقال ل «ثروت» لقد وصل المجلس سيارات جديدة ولك بطبيعة الحال واحدة منها فشكره ثروت وقال: «إن سيارتي ما زالت في حالة جيدة ولا داعي للسيارات الجديدة.» ولكن السائق استاء من هذا القرار لأن السائقين يفخرون بأنهم يقودون سيارة «آخر موديل».
وسمع علي كمونة من ثروت أن الأستاذ لويس عوض قال له مرة: أتعرف لماذا نحن لا نكتب عنك؟ طبعا أدرك ثروت أن (نحن) تعود إلى النقاد اليساريين وقال له: لا، لا أعرف. - لأن الدكتور طه حسين كتب عنك مقالات متعددة في بداية حياتك الأدبية فهل ولدت عملاقا كالتليفزيون؟
قد ساعدني الأستاذ «علي كمونة» في البحث عن مقالات أريدها بالذات، ولا أجد الشجاعة في البحث عنها في مجلدات أعمال ثروت الكاملة التي أصدرتها هيئة الكتاب، ولكنه أحضرها لي بعد بحث طويل ومجهود شاق.
وقد أمدني أيضا بمعلومات عن زوجي لم أكن أعرفها، ولكنه عرفها من زيارته له في مكتبه بجريدة الأهرام ثم في مكتبه في مجلس الشورى، وقد استعنت ببعض هذه المعلومات في سياق الحديث عن زوجي ف «لعلي كمونة» مني كل الشكر والعرفان.
وسأتوقف هنا ولا أتكلم عن العام الأخير الذي قضاه متنقلا بين البيت ومستشفى الصفا، وكانت تدهشني تلك النظرة الحادة التي تنبعث من عينه، وكانت قبل مرضه نظرات حانية بل مدللة «بكسر اللام الأولى» لن أتكلم عن تلك الأيام العصيبة، ولكن لا يفوتني أن أذكر العناية الفائقة التي وجدناها في المستشفى ومن مديرها الدكتور أشرف المليجي ومن هيئة تمريضها سواء كانت في غرفته أو في العناية المركزة، ومهما قلت فلن أعطي الأطباء الذين عالجوه حقهم من الشكر والعرفان فقد عالجوه بعلمهم وبقلبهم وعلى رأسهم الدكتور حمدي عبد العظيم والدكتور محمد مشالي والدكتور مازن نجا والدكتور شريف سمير وبمباشرة الدكتور العظيم محسن إبراهيم.
ولا أنسى لثروت مدى وعيه وإدراكه وبعد نظره بأن طلب أن يودع كل أعماله لدى دار المعارف لترعاها وتنشرها له، وكأنه كان يشعر باقتراب موعد الرحيل.
وكان في السنوات الأخيرة سريع التأثر لدجة البكاء، وهذه الحالة معروفة للأطباء، ولكن في شبابه لم يكن كذلك، وإنما رأيته يبكي أنا وأولاده في يوم هزيمة 5 يونيو، فاجأناه جالسا في الصالون ومعه الراديو يجهش بالبكاء بصوت مرتفع؛ صعق الأولاد لأنهم كانوا يرونه دائما كالطود الشامخ، والمرة الثانية عندما شاهد في التليفزيون جلسة مجلس الأمة التي أعقبت عدول الرئيس جمال عبد الناصر عن التنحي ورأى عضوا موقرا يرقص في حرم البرلمان فرحا لعودة الرئيس؛ بكى حزنا على ما آل إليه الحال في بلده مصر التي يجري حبها في كل قطرة في دمائه.
ولكني أحاول أن أنسى هذه الفترة - ويا ليتني أستطيع - ولن أنهي كتابي عن زوجي إلا بالكلمات الجميلة فقد كانت فترة زواجنا غير تقليدية ولم يكن ما يربط أحدنا بالآخر العشرة كما يقولون، وكما هو الحال في معظم الزيجات، وإنما كان يربطنا الحب الحقيقي، ولا يمكنني أن أقول إن اثنين وخمسين عاما وهي عمر زواجنا كانت كلها سعادة في سعادة، ولكن أستطيع أن أقول إنها كانت كلها حب في حب فقد كان كل منا يحمل للآخر مشاعر جميلة وأحاسيس صادقة، استطعنا بها أن نجتاز الصعاب، وأن نواجه الأعاصير الجارفة التي تهب على كل البيوت فتقتلعها، ولكنها لم تستطع أن تقتلع الحب الذي بيننا، إلى أن ودع الحياة وتركني وأنا لا أذكر إلا أجمل الذكريات، ولن أنسى ما أحسسته في حياتي الزوجية من مشاعر وعواطف أعتبرها ذخري في الحياة وأغلى كنز يعينني على الأيام. وكانت خلافاتنا في أول الزواج تبدأ بأن تزلزل الأرض زلزالها، يتكهرب الجو، وتثور البراكين، ثم تخمد النار رويدا رويدا إلى أن يخيل إلينا أن النار لم تكن إلا ماء عذبا يترفرق في جدول صاف.
Page inconnue