وجعلت لطيفة تغني له الأغاني والأهازيج وهي في الحقل تملأ سلتها من الهندباء وهو يختار من عسيب العفص أطرى الأغصان ويلقمها العنزة.
وفي ذات يوم بينا كان عائدا إلى البيت راكبا على عنق لطيفة يهز رجليه ويغني «عالدوم» رأى قاربا في البحيرة بعيدا فهتف قائلا: سختولا، سختولا، زات الماما، زات الماما.
وظل يلح ويبكي حتى جاءت به لطيفة ذاك اليوم إلى «فلهوم» أي كفر ناحوم، ولبثت تنتظر قدوم القوارب من طبريا، فجلست وإياه على الشاطئ تجمع له الأصداف تعلله بها، ولما وصل أحد القوارب ونزل منه بعض الإفرنج المقيمين في دير بتلك النواحي طفق فريد يبكي، ورمى في البحيرة غيظا كل ما جمعته لطيفة من الصدف. - لا تحرد يا حبيبي، لا تبك، غدا تجيء الماما، قم نرجع اليوم إلى البيت.
وما كادت تجتاز وإياه الشاطئ حتى سمعت صوتا يناديها: يا لطيفة يا لطيفة! فتلفتت ملبية كأنها عرفت صاحب الصوت، وإذا بقارب آخر يقل امرأة وراهبين وبضعة صناديق من الأمتعة، فعادت تركض والصغير على ظهرها يحثها من شدة الفرح برجليه، ويصيح: الماما، الماما.
ولقد أعد القس جبرائيل مريم لهذه الدهشة المفرحة العظيمة قبل السفر من مصر، فقص عليها قصة الطفل منذ سرق تلك الليلة إلى يوم استرجاعه من الشقية أم هيلانة وإلقائها في السجن، ولولا ولدها ما عادت مريم وإياه إلى فلسطين.
ولما اقترب القارب من الشاطئ قال القس جبرائيل يخاطب مريم: البحيرة التي مشى عليها السيد إنما هي أم العجائب، سلبتك ابنك طفلا رضيعا فأعادته إليك صبيا بهيجا، ها هو فريد ابن البحيرة تحمله رفيقتك القديمة لطيفة، اسمعيه يناديك.
وكان فريد على الشاطئ يرقص ويشير بيديه مناديا الماما، فلما وطأت أمه الثرى ركض إليها باسطا ذراعيه فتعلق بعنقها يقبلها ويقول: أين كنت يا ماما؟ وهي تقبله وتبكي، جلست على الرمل وأجلسته في حجرها تحدجه بنظرها منصتة إلى كلماته وسؤالاته لا تدري ما تقول، فأصابها من شدة التهيج والبكاء نوبة سعال دامت بضع دقائق، فأخذ القس جبرائيل الصبي وأسعف القس بولس ابنته وسار الجميع توا إلى البيت.
وفي تلك الليلة نامت مريم تضم ابنها إلى صدرها وهي تحس بلذة جديدة بهيجة عجيبة، أسكنت جوارحها وضمدت جراح قلبها.
وفي الصباح باكرا نهض فريد يوقظ أمه ويقول: ماما، استوى العنب، اطلعي أقطفلك العنقود.
فنهضت تداعبه وتلاعبه وتضمه إلى صدرها وتقبله، وجاءت به إلى فناء البيت تحمله على ذراعها فأحست من نفسها وهنا. - لا أستطيع أن أحملك يا حبيبي. - أنا أمسي علكلم. - سنطلع إلى الكرم يا عمري، تعال قبلني.
Page inconnue