وقف الحاج محيي الدين مودعا السيدة فشيعها إلى الباب تعطفا وهو يعد سبحته ويسبح الله، ويستغفر الله، ويستعين بالله، ثم عاد إلى مجلسه في زاوية الديوان وحبات الكهرباء الكبيرة تطقطق بين أنامله الصفراء كأنها تردد الصدى لنبضات قلبه، ثم جلس مسترخيا يبسط ذراعيه، ويزم شفتيه، وقد أنزل العمامة الخضراء حتى حاجبيه، ولسان حاله يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان شريكه عاطف بك جالسا إلى منضدة يدخن سيكارة ويراقب حركاته معجبا باسما، فقال محيي الدين يخاطبه: أخطأت يا أخي أخطأت، فأجابه عاطف بك: أنت أعلم بالجواري وأنا أعلم بالراقصات.
فعمد الحج محيي الدين إلى الأركيلة يسكن بها غيظه، ثم قال: ولكن رقصها جميل، أجمل ما رأيت حياتي، رقص جديد، مبتكر، غريب، مدهش، وهو فوق ذلك رقص أدبي تزينه الحشمة لا خلاعة في حركاته ولا بذاءة في وقفاته، ولا ... فأغرق عاطف بك في الضحك، وقال: أراك تتكلم كشيخ من مشايخ الأزهر، الله، الله! أحامل «النسخات» يحمل على الخلاعات؟! أصاحب «الكازينو» يمسي صاحب كرامات؟ الله، الله! أنت مازح يا محيي الدين، أوتظن الرقص الأدبي يصلح الأمة؟ أتظنه يسر جيش الاحتلال؟ إذا كنت راغبا بالجلاء فاعرض على أصحابنا الإنكليز هذه الرقصة، نبه الحزب الوطني إليها. - لا تعجبني هذه المداعبة منك، فإن رقصا عاريا من الخلاعة ... - لا ينفعنا ولا ينفع البلاد، أبناء القاهرة لا يقبلون على مثله وعساكر الإنكليز يفرون هاربين منه، وإن أقبلوا عليه بادئ بدء فلا يلبثون أن يملوه، رقص هذه الفتاة يخاطب العقل، والمصريون يودعون عقولهم في البيت قبل أن يشرفوا «الكازينو» والجندي الإنكليزي، ولكنه سبحانه تعالى لا يثقل الجندي عقلا. - على رأسي رأيك في الجندي، ولكني لست من رأيك في الفتاة؛ فإن في رقصها السحر الحلال، يعبث بالقلوب ولا يستأذن العقول، وما قولك بالراقصات الروميات عندنا؟ فإن رقصهن عار من رغبة الناس من مظاهر الخلاعة، ويكاد يكون بليدا، ومع ذلك فالإقبال عليهن عظيم. - لأنهن إفرنجيات يا أخي يا محيي الدين، نفاية الإفرنج هي أعلاق في ذي البلاد، خرز أوروبا هو في نظر المصريين بل الشرقيين درر غوال، صل على النبي! ولا يفوتنك أن الراقصات الروميات لا يكسفن «البلديات» عندنا، كلهن - إفرنجيات ومصريات - من طبقة واحدة فنا وعقلا وحسنا، وإن شئت قل: من طبقة وسطى أو واطية في الفن والعقل والحسن، وجمهور الناس من ذي الطبقة، أما الخاصة فحسبهم ليلة واحدة من الرقص الأدبي في السنة، حسبهم «البالو» الخديوية، لا، لا، لا وسط عند هذه الفتاة الناصرية ولا وسط في نصيب مديرها منها.
فرفع الحاج العمامة فوق جبينه عجبا وهو يزلق بنظره عاطف بك الذي استمر يتكلم غير حافل، فقال مكملا الجملة: فإما أن تكسره وإما أن تغنيه، فلاح الارتياح إذ ذاك في وجهه، وقال: ولماذا لا نختبرها أسبوعا واحدا أو أسبوعين؟ إذا كنا لا نقدم لأبناء بلدنا الجميل من الفن فكيف لهم بمعرفته؟ وليس من العدل أن نحكم عليهم بفساق الذوق قبل أن نختبر ذوقهم. - أنا عالم يا محيي الدين بما يجول في صدرك، صل على النبي! ولكن ظهور الناصرية على مسرح «الكازينو» يغير خطتنا تماما، فنفقد الزبائن الذين لا يروقهم غير رقص ال ... الرقص الذي يخاطب الحواس بالقلم العريض، وجيش الاحتلال في البلاد يزداد يوما فيوما، ولا نعلم ما نكسب من الطبقة الراقية، لو كنت مدير «تياتر» في أوربا لما ترددت والله ترددي الآن، فلا أنكر أن في منشأ الفتاة وفي فنها وجمالها وطموحها وهوسها ما يسترعي الأنظار، لست بجاهل عالم التمثيل في أوروبا، ولقد أحطت علما بطرق المدراء هناك وحيلهم، وكأني بأحدهم وقد حظي بلقاء هذه الفتاة الناصرية، وأدرك السر في أمرها وفنها يعلن عنها بالخط العريض، فيقول: الناصرة منذ ألفي سنة والناصرة اليوم مهد الدين ومهد الرقص، مريم الناصرية ترقص رقصة المريمات في أسبوع الآلام! ولكن بلادنا بلاد إسلامية، فلا ذاك الدين قبلت ولا ذا الرقص تقبل اليوم. - أنت مخطئ في ظنك، علي الخسارة أثناء أسبوعين نختبر الناصرية ورقصها، علي وحدي. - ليست جارية تتاجر بها يا محيي الدين، وقد ظهر لي من حديثها ونظراتها أنها صعبة المراس حادة المزاج. - على عاتقي أمرها. - وإذا مثلت لك السماويات في رقصها ... - والجهنميات أيضا فأنا المسئول. - وأنا قابل، ليكن ما تشاء، وإن شئت أن تدخلها حريمك بعد أن تمتحنها في «الكازينو». - دعنا من ذا الهذر يا أخي. - بل هذا جد مني، فقد أهنتها في حديثك فاغرورقت عيناها وهذا دليل واضح أنها أحبتك، عشقتك. - أنا أعلم بحيل اللقيطات الشريدات. - نعمت بعلمك. •••
أما مريم فعادت إلى منزلها بعد أن قابلت صاحب «الكازينو» ومديرها؛ لتفتش عن الكتاب الذي أعطتها إياه مدام لامار إلى جمال الدين باشا أحد مدراء البنك الفرنساوي في القاهرة، وكانت قد أهملت هذا الكتاب؛ لأنها لم تشأ أن ترجع إلى الخدمة في البيوت وآلت على نفسها وإن كسرت في باريس أن تفوز في مصر، فزارت عند وصولها الكازينو لتشاهد ما هو معروض على مسرحها فتعرف محلها من الإعراب فيها، فسرها ما شاهدت وساءها معا، وقالت وهي خارجة: ها هنا رزقي، ها هنا بداءة حياتي الفنية، ها هنا فوزي، ولكنها أقرت لنفسها بعد المقابلة في اليوم الثاني أن لم تزل الأحلام تخدعها، وكانت تظن أن مدراء التياترات في مصر أسهل مراسا منهم في باريس، ولم يخطر في بالها أنهم أكثر تعنتا وأقل أدبا ومعروفا، فقالت تخاطب نفسها وهي تفتش في حقيبتها عن كتاب مدام لامار: وماذا يهم إذا المدير فحص الراقصة كما لو كانت جارية معروضة في سوق النخاسة، أو جسها كما لو كانت شاة، أو أمرها أن تمثل أمامه عارية، فهو لا يهينها ولا يحتقرها إذا كانت يتيمة أو بائسة مثلي، وهنا في بلادي يهينني المدير ويشيعني إلى الباب، لو استطعت والله لذبحته! لذبحته! ابن ستين كلب يعيرني بأصلي - أصلي ! أصلي؟
وقفت مريم فجأة تسائل نفسها فأبكاها السؤال، ذكرت لأول مرة أبويها فحرقتها الذكرى، خنقتها العبرات، وقد يستغرب القارئ قولنا: إنها لم تذكر أبويها حتى الآن، وقد نكون أخطأنا التعبير، لما كانت مريم في الدير أدركت غامض أصلها ولكنها أقامت هناك وكثيرات مثلها فلم تبالي ولم تذكر والديها شوقا وحنانا، وبعد أن خرجت من الدير أقامت في بيت مبارك وفي ظل القس جبرائيل خلية البال، مشتتة الآمال، فلقيت من الإعزاز ما أشغل نفسها عن الإكرام، ومدام لامار لكرم في أخلاقها تجاهلت ما أدركته من أصل الفتاة لكي لا تهينها ولا تذلها، وكذلك نجيب مراد فلم يفه مرة بكلمة يشتم منها معرفة ما يحزن مريم ذكره، ولا سئلت مرة في باريس عن أصلها ولا نظر أحد إليها شذرا وازدراء.
وأما الآن فصاحب الكازينو المعجب بفنها وبحسنها وبمواهبها يخشن لها الكلام في أول مقابلة، وينظر إليها نظرة الازدراء، وقد مازجه السرور والرضا كأنه يقول: أنت في قبضتي ولا بأس بك. فأدركت لأول مرة أن من الرجال من ينظرون إليها كأنها غنيمة باردة، فساحت بها الأفكار إلى باريس ثانية فجمعتها هناك بنجيب مراد؛ ذاك الذي أحبها كما تحب الفراشة الزهور أو الفارس الجياد، فجعلت تقابل بين الاثنين وتقول: شتان بين من يخدع فتاة ويكرمها ومن يهينها ويخدعها، شتان بين أديب دقيق الحيل كريم النفس، وجلف غليظ الرقبة غليظ الشفتين، كرهته لأول نظرة قبل أن يفوه بكلمة، وبعد أن تكلم وددته ميتا عند قدمي، ميتا ميتا، سيعلم ابن الكلب:
إن الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي
أولا يحق للفتاة البائسة مثلي أن تتمثل بقول الشاعر كالفتيان؟
Page inconnue