عاد إبراهيم بالإبريق وقد ملأه من الغدير، فأوعز إليه أبوه أن يباشر نقب الزوايا، وقال: ووالله إذا لقيتك نائما أذبحك بهذا المنجل، ثم قام الأب فساق «الكحلاء» و«الأبلق» إلى الغدير ثم عاد بهما فكدنهما واستأنف الحراثة. فقال الراهب: سترى بعد الامتحان يا أبا إبراهيم أنك خدعت بالأبلق، واستلقى في ظل الشجرة ينام القيلولة. ولما استفاق عمد إلى معول يساعد إبراهيم في نقب الزوايا، ثم جاء إلى ضفة الغدير يصلي صلاة العصر، وفتح كتابه الذي يحمله أبدا في جيبه؛ كتاب الاقتداء بالمسيح يطالع فيه، وما هي إلا برهة حتى جاءت أم إبراهيم تقول: امرأة يا معلمي تطلبك في البيت. - ومن هي؟ وماذا قلت لها؟ - قلت لها: إنك متغيب، فكذبتني بدون حياء قائلة: معلمي القس جبرائيل هنا، أحلف بالله إنه هنا، وأحب أن أقابله.
فقلت لها: إنه في رياضة لا يقابل أحدا من الناس، فقالت مصرة: وقولي له لطيفة العشية التي كانت تطبخ في بيت أخيه بالناصرة تحب مقابلته.
فقال القس جبرائيل يخاطب نفسه: لطيفة، لطيفة، وما غرضها؟ ومن أخبرها يا ترى أنني مقيم هنا؟ لا بأس يا أم إبراهيم، قولي لها، أو بالحري دليها إلى هذا المكان.
وما هي إلا برهة حتى عادت أم إبراهيم تستصحب لطيفة، ولما رأت هذه القس جبرائيل هرولت إليه تقبل أذياله ويديه وتبكي. - حسبك يا لطيفة، اجلسي على هذه الصخرة، وامسحي دموعك، ما خبرك يا بنتي؟ - قصتي طويلة يا معلمي ومحزنة. - أوجزي ولا تبكي. - بعد خروج مريم من السجن طردتني معلمتي الست هند؛ لأنني لم أشهد في المحكمة كما أرادت، لم أقل: إن مريم قاتلة المرحوم أيوب، فضربتني وطردتني ولم تدفع من أجرتي إلا قسما يسيرا، فأصبحت طريدة شريدة. وظللت في الناصرة شهرين أفتش عن عمل، فلم أفز بشيء، ثم سافرت إلى حيفا فتجشمت هنالك بضعة أشهر أخدم في أحد الخانات ثم عدت إلى الناصرة خائبة الأمل، فسمعت فيها من أناس أنك مقيم في بيتك بالغوير، فجئتك مستجيرة مسترحمة علك تدخلني في أحد البيوت بطبريا خادمة أو طابخة، هذه قصتي بالإيجاز. - طيبي نفسا، وقري عينا، وأي متى تركت الناصرة؟ - ظهر البارح. - وكيف حال أخي يوسف؟ - لم أره يا معلمي ولكني سمعت أن عارفا اليوم في حيفا يتعاطى التجارة. - هل سمعت الخبر هذا وأنت في حيفا؟ - نعم. - وهلا رأيت عارفا؟ - لا يا معلمي، وأين مريم اليوم؟ - لا تسألي عما لا يعنيك.
فأشارت لطيفة بنظرها وقد حركت به بين القسيس وأم إبراهيم أنها تروم مساررته، ففهم القس جبرائيل وقال مخاطبا أجيرته: شمي الهواء بضع دقائق يا أم إبراهيم، ما الخبر يا لطيفة؟ عساه أن يكون خيرا. - عرفت يا معلمي بما حل بمريم بعد خروجها من السجن؛ بولادتها، بسرقة طفلها، بسفرها مع السيدة الإفرنسية إلى فرنسا، وليس ذلك بعجيب؛ لأن خبرها انتشر في الناصرة وفي حيفا، ولكن الغريب العجيب ما اطلعت عليه ليلة البارح، فإذا كنت مصيبة في ظني فمجيئي إليك إلهام من الله. - وماذا رأيت؟ - وقفت مساء البارح وأنا قادمة من الناصرة أمام بيت خارج طبريا وقد أنهكني المشي، فقلت في نفسي: أن أسأل المبيت هنا خير لي من الدخول ليلا إلى البلد وأنا غريبة، فوقفت في الباب وإذا بامرأة ترضع طفلا وتضربه وتقول: ارضع ترضع السم، ارضع ترضع الطاعون، فخفت ورجعت أدراجي قائلة في نفسي: إن امرأة هي أشبه بالجن منها بالبشر لا تأويني، ثم فطنت لشيء من المال معي قعدت أسألها حاجتي وأعرض عليها الغرشين كل ما كنت أملك، فأبرقت عيناها لذكر المال واختطفت الغرشين من يدي قائلة وهي تشير إلى الزاوية: نامي هناك، فرميت بنفسي إلى الأرض وقد كدني التعب ونمت من ساعتي، ثم استيقظت في الليل فسمعت الامرأة تكلم فتاة عندها وتسبها، فتناومت أسترق حديثهما، فسمعت الامرأة تقول: تكاد تتم السنة ولم يسأل أحد عنه الله يلعن أباه وأمه، لو كانت أمه امرأة لفتشت عنه ولكنها جنية غولة، لعنها الله. فقالت الفتاة: بعثنا إلى الرجل خبرا وهو الآن مقيم في بيته بالغوير، وقد اتخذ أحمد الأمر على عاتقه، ليطمئن بالك. فصاحت الامرأة: ليطمئن بالي؟ كلفنا ابن الخنا حتى الآن خمسة ذهبات، وأهلكني، لم أعد أستطيع أن أرضعه، نفد حليبي وصار واجبا أن نشتري له حليبا، أكاد أموت والله، إذا كان لا يجد شيء في أمره قريبا أرميه في البحيرة وأستريح منه، الله يلعن الأولاد، الله يلعن البشر!
فقالت الفتاة: صبرنا عشرة أشهر لنصبر عشرة أيام، وقد قال أحمد: إنه لا يسلم الطفل قبل أن يقبض الخمسين ذهبا.
فقالت الامرأة: وأنت صاحبة أحمد تؤاكلينه وتشاربينه، فسيشتبه الرجل بك ويشكوك ويشكوني إلى الحكومة فتهلكين وتهلكيني معك، عليك إذن أن تختفي حالا، سافري إلى صفد غدا، وابقي هناك أسبوعين وأنا أقابل أحمد فنطبخ الطبخة ونترك الطفل حيث لا يعرف مقره أحد غيرنا، انهضي وأسرعي سافري الآن، وغدا أقابل أحمد.
هذا بعض ما سمعته من الحديث الذي دار بين الامرأة والفتاة، فهالني أمره وخطر لي أن ألفت نظر الحكومة إليه، لينجو ذاك الطفل السيئ الطالع، حن قلبي إليه والله ! وأخشى أن ترميه في البحيرة إذا كان أبواه لا يفتشان عنه، وقد فاتني أن أخبرك أن للامرأة طفلا آخر يستطيع المشي ولكن الفرق بين الاثنين عظيم، الطفل الرضيع مثل القمر على وجهه ملامح الأكابر. - وهل تعرفين البيت الذي نمت فيه؟ - نعم أعرفه. - وهل تعرفين الفتاة إذا رأيتها ثانية؟ وهل عرفت اسمها؟ - لم أر وجهها في الليل ولكني سمعت الامرأة تناديها هيلانة، ولما نهضت باكرا أشكر الله على سلامتي لم تكن هناك. - حسن، حسن، روحي وأم إبراهيم إلى البيت، يا أم إبراهيم، فجاءت الامرأة تلبي نداء سيدها، فخاطبها قائلا: أحسني وفادة لطيفة، عشيها، وافرشي لها أحسن فراش عندك. - غابت الشمس والقس جبرائيل جالس عند ضفة الغدير يسمع خرير الماء وينكت الأرض بعصاه فطرق أذنه صوت إبراهيم يغني المواليا على رنات أجراس المواشي، فصعد الراهب الزفرات يبارك الأنعام وما شابهها في حياة البشر من شباب آبد وقلوب خالية ساذجة، نظر إلى السهل وقد لاحت في أساريره خلال أثلامه البنية سيماء الجذل والرضى، فخيل إليه أن كل ثلم فيه إنما هو فم ينطق بالشكر والتسبيح، فقد كان نهاره مقدسا، قدسه الإنسان العامل والقنوع إذ ألقى إليه حبة الحياة؛ ليعيدها في الفصل الآتي سبعين حبة. ورفع إليه هنالك صورة جميلة من صور السعادة البشرية التي يصورها إله الحقول ورب البعث والخلود؛ صورة الفلاح وابنه عائدان في الغسق إلى البيت، يسوقان المواشي ويغنيان الموالي، أبو إبراهيم وقد حمل المحراث الطويل على كتفه يسنده بالمساس، وابنه الشاب وقد حمل النير والمعول فوق حمل من الحشيش الأخضر، و«الأبلق» و«الكحلاء» وأجراسهما تطن عند باب الليل طنينا شجيا، يسيرون كلهم الهوينا عائدين إلى حيث الحب يلاقيهم بإبريق الحياة، والليل يقدم لهم كأسا مزيجها مسك وتسنيم. شاهد القس جبرائيل هذا المشهد فهز رأسه أسفا قائلا: جميل، جميل، ولكنه ناقص، أين أنت الآن يا مريم؟ مريم ابنة سارة أين أنت؟ أي بحر من أبحر الحياة تتقاذفك أمواجه؟ أي نعيم يكحل عينك؟ أي جحيم يحرق فؤادك؟
صعد الزفرات وعاد ينكت الأرض بعصاه أسير الهواجس، سمير الأشجان والذكرى، ولت أشباح الغسق مدبرة تفر من الليل، وما الليل إلا مؤنس الأشباح، جاء يشعل مصابيحه ويدور في الأفلاك دورته السرية فيرافقه القمر وقد أطل من شرفته في الهرمل يبتسم ابتسامة غنجت لها البحيرة، وأبرقت أسارير الأحراج في الحقول وفي الجبال، فجعلت تصر الجنادب على العيدان صريرها، وينوح فوق البحيرة الحمام، وتصوت فيها الأسماك والأمواج الجارية من الأردن تهز في القلب سريرها.
مشى القس جبرائيل في السهل مكشوف الرأس والهواء العليل يناعم وجهه وينعش فؤاده، والليل يؤنسه بأنواره وسكونه، فهز رأسه أسفا قائلا: جميل هذا المشهد جميل، ولكنه ناقص، أين أنت الآن يا مريم؟
Page inconnue