وإن البحيرة التي كتب على مائها أغرب ما في التاريخ - تاريخ الطبيعة وتاريخ الإنسان - من الآمال والأحلام، وأعلنت حولها أقدس الأنباء السماوية والبشرية، لم تزل تجتذب إليها من كل حدب وصوب جماهير الناس من مرضى النفوس والأبدان، فتريهم أعجوبة الله في سمائها وأعجوبة الطبيعة في أرضها، يجيئها الحجاج فيغتسلون بمائها المقدس؛ تطهيرا للنفس ويؤمها أولو الأسقام تخفيفا لآلامهم واستشفاء منها، كبريت في تلك المياه يشفي الأبدان وحلاوة فيها تشفي النفوس، وهذه من أعاجيب بحيرة الجليل وينابيعها.
ولكن المقيمين في جوارها لا ينالهم من بركاتها مثقال ذرة؛ ذلك لأنهم يعبدون خيالا ولا يعرفون جمالا، وإن شقاء هم فيه؛ شقاء لا مثيل له في العالم لا في الجهة الجنوبية بلندن أو بنيويورك ولا بغيرهما، شقاء يفترش الأقذار ويلتحف الخمول ويشكر الله - إن مثل ذا الشقاء ليبعث إلى الكفر بالله. يهود طبريا أتفسد حالتهم أسمى الحقائق الروحية التي أنزلت في تلك الأرض أرضهم؟ أيقيمون عند ينابيع العجائب ويحرمون بركاتها؟ أمرضى النفوس والعقول والأبدان وفي مهد الشرائع الموسوية والمسيحية؟ على أن صاحب البيت أدرى بالذي فيه، ولعلهم أدركوا الحقيقة التي قلما يدركها من زار تلك الديار، فسخروا من بني الإيمان وذوي الأسقام اللاجئين إليها، وهؤلاء بالنسبة إلى الحجاج قليلون، ولا غرو، فالاستحمام في المياه المقدسة يعظم فضله بالمشقات، وإذا قضى المستحم نحبه فيها فهناك النعيم الأكبر، أما الحمامات المعدنية؛ حمامات طبرية ففضلها لو علم الناس أعم؛ لأن مشقتها أكبر وأشد، ولا عجب إذا أجهز على المريض فيها ولا بأس، فإن في الإجهاز تمام الشفاء، فهنيئا لمن يؤمها! وهنيئا لمن يموت فيها! إن الصابر على حمام كبريتي حام لكالصابر على ما في الحياة من النار والكبريت، والصبر باب الجنة، على أن السكينة هنالك، والبعد عن الناس، وجمال الطبيعة ولطف الهواء لتحول نوعا دون الاستشهاد، فتفعل بالنفس وبالتالي بالآلام الجسدية ما لا تفعله المياه.
قلنا: البعد عن الناس، وقد يستغرب ذلك؛ لأن الحمامات المعدنية في أوروبا أصبحت اليوم مشرعة الأصحاء ومحجة الأغنياء والأدعياء، فيجتمعون هناك كما يجتمعون في حلقة السباق؛ سباق الخيل أو في الأوبرا أو في القهاوي ليعرضوا نعيما هم فيه، أو ليبحثوا عن نعيم لا حجاب في بابه ولا حرج على أصحابه، فيعجبون بعضهم ببعض، ويفاخرون ويزعجون بعضهم بعضا، أما في طبرية فلا يجد الزائر حتى في إبان الموسم نعيما واحدا معروضا إذا استثنينا نعيم الاستشهاد، ليس هناك من يزعج النفس أو من يقلق البال، فالمستحمون والعمال إذا أضفنا إليهم صاحب القهوة والامرأة الوحيدة التي تتردد إليها لا يتجاوزون الخمسين عدا.
والضجر في الحمامات المعدنية من أنجع الأدوية للمصابين بالروماتزم - عفوا أيها الأستاذ - للمصابين بالدحار، فإن له رد فعل مدهشا، الضجر «حراقة» روحية إذا استعملها المريض عشرين يوما يرى العجب، ولكنها لا تفيد بعد ذلك إلا إذا كررت في حمام آخر، وكل ما يصرف النفس عنها يضعف مفعولها، فمن يرغب بالأركيلة مثلا ويرتاح إلى حديث القهوة - وفي حمام طبريا قهوة واحدة كما قلنا، وامرأة واحدة تتردد إليها - فلا يضجر تمام الضجر ولا يشفى تمام الشفاء. ••• - وهذا القسيس يا محمود من أغرب الناس، يعطيني كل يوم بشلكا لأجدد له الماء في الحوض صباح مساء، فما قولك؟ - بخيل، ولكنه أكرم من إخوانه. - وماذا تظنني أفعل؟ أدخل إلى الحمام فأقفل الباب وأدخن سيكارتي وأغني: «يا رائحة عالشام خذيني معاك» ثم أدعوه: تفضل يا محترم. - وهل هذا حلال يا أحمد؟ - حلال؟! المياه الكبريتية تطهر كل شيء، وهل هو أفضل من سواه، هذا الحوض العمومي يستحم فيه خمسون نفسا من أصحاب السوالف في وقت واحد ولا تجدد مياهه إلا مرة واحدة في الأسبوع، وقد سمعت الحكيم يقول: إن المياه المعدنية إذا استحم بها عدد من الناس تزداد المعادن فيها وتكثر منافعها، صل على النبي، ويظهر أن اليهود يفهمون ذلك، فما مرة سألني يهودي أن أغير له الماء - أركيلة يا طنوس - ولكن القسيس ابن حرام! فقد أحس بالطبخة، فنزل البارح ووقف في الحمام أمامي، فنزعت ثيابي والله وغطست فصاح بي: يا بليد يا حمار (الأبعد) هات «خيط مصيص»، فجئته به فربط السداد بالخيط وربط الخيط بوتد دقه إلى حافة الحوض، فصحت وأنا متظاهر بالجهل ومعجب بشطارته: والله يا محترم نحن أغبياء ما عندنا فكر، وصرت كل يوم أجدد لك المياه أي ساعة شئت، ولا أسلق حالي كل مرة وأعرض نفسي بعدئذ للشمالي أبي الموت. - إذن القسيس نفعك. - نفعني؟ وأنت أبسط منه، من يدفع بشلكا لأجدد له المياه حين يرى أن ذلك لا يكلفني غير سحب الخيط؟ وهذا الابن الحرام قطع عني البشلك بعد هذه العملية، نزل هو بنفسه البارح ورفع السداد ونزلت أنا صباح اليوم وقطعت الخيط، ما شاء الله أيغلبني قسيس أفندي؟ - ومن أين هذا القسيس؟ - لا أعلم والله، فهو قلما يكلم أحدا، ولا أحد يعرف اسمه. أعطنا قدحين عرق يا طنوس وأكثر من المازا. - وغير هذه الأركيلة. زبوني «أبو السلة» يا محمود أحسن من زبونك، فقد سافر معي البارح إلى تل حوم، وفلق رأسي بالسؤالات، ولكنه يخوف والله، حكيت له حكايات تطقطق الخواصر فما ضحك وما ابتسم مرة والله، وقد حرت في أمره أراه لابسا لبس البدو ولهجته لهجة نصراني من بلادنا، بالك ها هو.
ومر إذ ذاك رجل في زي الأعراب، طويل القامة نحيلها أشقر اللحية قطوب الوجه يلبس عباءة سوداء بسيطة، وكوفية من لونها شدت على رأسه حتى عينيه بعقال من الشعر. - يروح إلى البلد ماشيا وما هو بخيل والله، أعطاني ثلاث مجيديات البارح أجرة السفرة، والسواح الإفرنج - يلعن جدودهم - لا يدفعون ثلاث مجيديات إلى تلحوم، وأظنه يمشي إلى البلد كي لا يخالط الناس في العربة؛ فهو أيضا قلما يكلم أحدا. - محظيون السنة بالخرس، أهلا بهيلانة.
ودخلت إذ ذاك القهوة فتاة تلاوص وتتغنج، وهي قصيرة القد غليظة الجوانب وسيمة الوجه مخضبة مكحلة مبهرجة، فبادرها أحمد بالكلام قائلا: يا بنت الحرام أين كنت الليلة البارحة؟ هذه النطنطة لا تعجبنا أبدا، فإما أن تقيمي في المدينة وإما عندنا في الحمامات. - اسمعوا أخبركم ما جرى، كنت راجعة إلى هنا مساء البارح فاستوقفني في الطريق أحد البوليس، وقال: ما قولك بليلة نقضيها أنا وإياك في السجن؟ امشي، امشي، فترددت فهمس في أذني كلمات دغدغت قلبي، فسرت وإياه، وهو مثل القمر، وليس مثلك يخوف القرود، ولما وصلنا إلى دائرة البوليس حبسني في غرفة هناك ووعدني أن يرجع إلي بعد ساعتين، عشقته والله ، وأخذت أعلل النفس بقرب الاجتماع، فجاء بعد ساعتين يقول: اتبعيني، فمشيت طائعة فأدخلني دارا ثم أخرجني منه، ثم فتح بابا في بيت قريب من الدائرة، وقال: ادخلي، فدخلت فأقفل الباب وتركني وحدي، فإذا أنا بغرفة مفروشة بالسجاد وفيها سرير له قبة حمراء ومائدة ممدودة عليها الدجاج المحمر والأرز المفلفل والمحاشي والسمك، وعرق من أحسن ما شربت في حياتي ونقل فاخر، فقلت في نفسي: الله كريم، ليلة حظ هذه، وقلبي مشغول بالشاب وعيني مشغولة بالمائدة، ولبثت أنتظره وأغني: «يا عيني أنا الصابر على النار» وإذا بالباب انفتح ووقف فيه شخص وجهه مثل الصاج المقدح، ورأسه كرأس الثور وعيناه كعيني السعدان، فسقط قلبي من الخوف وذاب الكحل في عيني من الكمد، كلمني الغزال وسلمني إلى الدب. - يا بنت الحرام كنت عند مدير البوليس. - يلعن سحنته ما أعطاني ولا بارة. - تستأهلي أكثر من هذا، مليح، سامحناك، هات عرق لهيلانة يا طنوس، سألني عنك القسيس الليلة البارحة. - بالله؟ ماية قسيس ولا مدير البوليس. - ولكن القسيس هذا يريد أن تسافري معه، وحياة النبي، سألني البارح قائلا: يا ابني، ومن هذه الفتاة التي تظل عندكم في القهوة؟ فقلت: والله يا محترم هي الدجاجة الوحيدة بيننا أتحسدنا عليها، فزجرني ابن الحرام وقال: إنه سيكتب إلى القائمقام لينفيك من هنا. - يلعن لحيته هو والقائمقام ومدير البوليس مثل رجلي، وهل رأيت «أبو السلة» صبحته فما رد علي، وغمزته فلم يلتفت إلي؟! «أبو السلة» حلو، مثل القمر والله، وتنهدت هيلانة ثم قالت: الله ابتلاني بكم، سليلة القرود، ثم تنهدت ثم قالت كأنها تخاطب نفسها: اصطادني الغزال وسلمني إلى الدب، وهذه عيشتنا، يفرجنا ربنا علبة البقلاوة ويعطينا، يا طنوس! قنينة العرق.
الفصل السابع
في فصل الشتاء من تلك السنة، بعد أن أصيب بيت مبارك بتلك الفاجعة التي ألبستهم الحداد والعار، جاء قسيس إلى طبريا ليستحم بمياهها المعدنية، فاستأجر غرفة فوق الحمامات فريدة في بابها، أرضها كخريطة لبنان البارزة، وسقفها كالجو المرصع بالغيوم، وجدرانها كجذوع الصنوبر مرشقبة، وقد زينها العنكبوت بكرناش من الحرير، ونقشت الجرذان في زواياها المحاريب، وبنت السنونو أوكارها فوق الشبابيك، فأقام القسيس فيها ورفاقه هؤلاء الأطهار معتزلا الناس، إلا أنه كان يذهب إلى طبريا باكرا ليقدس في إحدى كنائسها ويعود إلى بيته الكثير السكان، فيقضي معظم وقته بالمطالعة والكتابة والصلاة، مناجيا السنونو والعنكبوت والجرذان، وفي ذات يوم هب الهواء ناقما عليه فبعثر أوراقه وخطف واحدة من بنات أفكاره، فوقعت في الطريق فعثر «الأعرابي» بها وهو سائر إلى طبريا، وقرأ فيها ما يلي: «وبعد أن جلس المعلم على كرسيه أمام تلاميذه سأله قائلا: ما هي الحياة؟
فقالت الرتيلاء: الحياة كفن من الحرير أحوكه لنفسي.
وقال السنونو: الحياة فراش من القش يتخاصم فيه الذكر والأنثى فيكسران بيضات العش.
Page inconnue