وقضت مريم تلك الليلة تبكي وتفكر بالقس جبرائيل الذي لم يزرها منذ شهرين.
الفصل الخامس
أما القس جبرائيل فقد كان في هذه المدة بسوريا يتفقد شئون الرهبان هناك، ويبحث عن دير يقيم فيه قبل أن يصدر الرئيس العام أمره بنقله إلى لبنان، والقس جبرائيل لا يعطي الباغي مراده فيه، سئم الإقامة بالناصرة بين إخوان اعتزلوا الله لا العالم يتنازعون السيادة ويتألبون بعضهم على بعض، سلاحهم النميمة، والحسد حشو ثيابهم، فوطن النفس على هجر ديرهم، فقد أشاعوا عنه الإشاعات الكاذبة فسمعها تردد حوله ولم يفه إباء بكلمة حق أو كلمة باطل، ودسوا الدسائس ساعين به واشين فلم يحرك ساكنا عليهم، ورموه بالفحشاء فلم يحفل بهم، وقد طالما قال في نفسه: الكبير فيهم لا يكبر علي بغير ذنوبه ومآثمه، البعد أولى وأجمل.
ولكن الحالة في سوريا ليست أحسن مما هي في فلسطين، فبين هو هناك بدت له أمور كادت تزعزع إيمانه، واجتمع في أحد أديرة لبنان بالقس بولس عمون فاستطلعه أخبار إخوانه، فقال: حالتنا يرثى لها، فقد أمسى الدير ملطأ للمعاثر، وعشا للمفاسد، وسوقا للمكسب والارتزاق، فلا طريقة اليوم لمن يريد الانقطاع عن العالم غير طريقة النسك؛ النسك في البرية، ولعمري إن النوتي خير من راهب هذا الزمان. - والانضمام إلى البحرية خير الترهب لا شك، الطف اللهم بنا.
وأمعن الراهبان في الحديث وكل منهما مسترسل إلى الآخر مسرور بالاستزادة. - ولا أظنكم تنوون البقاء هنا. - كلا ثم كلا، سأسافر عما قريب إلى القاهرة لأدرس اللغة العربية في إحدى المدارس هناك. - وهل حضرتكم من أسرة عمون اللبنانية؟ - لا، أنا من فسلطين. - من أي ناحية؟ - من السامرية.
فأطرق القس جبرائيل مفكرا وبدا في وجه القس بولس شيء من الاضطراب، كان ندم على ما قال فقام من ساعته يعتذر إلى الزائر متعللا بالصلاة.
وبعد أيام عاد القس جبرائيل إلى الناصرة وهو حائر في أمر الراهب الذي جمعته به التقادير، فخاطب نفسه مرارا يقول: بيت عمون من السامرية، مستحيل، مستحيل، لا أذكر أن في السامرية أحد يدعى عمون، ولم لم أسأله عن إيلياس البلان يا ترى؟! إيلياس البلان، خطر في بالي أن أسأله فنسيت الاسم، ولا بد أن أجتمع به ثانية، غريب، غريب.
وما كاد يصل إلى الناصرة حتى أخذت تتراجع في أذنه صدى الوشايات والدسائس وقد تضاعفت في غيابه وازدادت خبثا وشرا، فصرفت باله عن تلك الصدفة وكادت تنسيه إياها، وفي اليوم الثاني جاء يزور أخاه ويتفقد حال مريم.
سنة وبضعة أشهر ولت، ومريم تخدم في بيت مبارك فتزداد نفورا رغما عما كانت تقاسيه، كرهت سيدتها وقرفت سيدها وهمت مرة بالفرار تخلصا من توحش الاثنين، ولكنها تمالكت نفسها قائلة: الأحسن أن أنتظر إلى أن يرجع القس جبرائيل، وكانت مريم تزداد تلعقا بالراهب حين تشاهده، فتود أن يظل قربها ليحميها من تصوراتها وأوهامها، تحبه وتحترمه وتخشاه، إذا حضر تقف قدامه كالنعجة بين يدي الراعي، وإذا غاب تشيعه بدموعها وتتبعه بأفكارها، وكانت تشعر أحيانا أنها كالعصفور قدام الأفعى، ومع ذلك لم تكن توده بعيدا عنها، وشد ما كان فرحها لما رأته قادما إليها بعد غياب شهرين، قبلت يده ضاحكة فأحس القس جبرائيل بدمعة سقطت على زنده، بكت فرحا وبكت حزنا، شكت إليه أمرها فطيب خاطرها ووعدها خيرا: قريبا أنقل إلى لبنان يا بنتي فآخذك معي ليطمئن بالك. - لا تطل غيابك هذه المرة، دخيلك، أحب أن أراك كل يوم. - سأزورك مرة كل أسبوع أو مرتين إن استطعت. - ألا يؤذن لي أن أزورك في الدير؟ - لا لا، إياك أن تفعلي ذلك، ابق في شغلك إلى أن يجيء يوم السفر فتسافرين معي.
ولكن سيطول أمر تلك الهجرة وقد يزول؛ لأن القس جبرائيل أدرك بعد أيام أن يد امرأة «مباركة» تشتغل في إهلاكه. - من بيت أبي ضربت، امرأة أخي تسعى لنقلي، تناصر الرئيس وزمرته علي، لا بأس، لا بأس، ولكن مصرع الباغي ذميم سيسافر الرئيس إلى لبنان وسيبقى القس جبرائيل مبارك في هذا الدير، ورجله على رأس الحية الرقطاء.
Page inconnue