دخل القس جبرائيل إلى الدير مضطرب النفس فخرج منه يحتدم غيظا، حدث الرئيسة بشأن الفتاة فتأكد أولا أصلها، رآه مسجلا في سجل الأيتام واللقطاء في يوم عيد الصليب سنة 1885، طفل واحد لا غير، ابنة شهر أو أقل، وجدت على باب الدير صباح ذاك اليوم، فعمدت ودعيت: مريم، وهي لم تزل في الدير، هي مريم بعينها، مريم ابنة سارة، ثم أخبرته الرئيسة عن سلوك الفتاة وأطوارها، وقد علمت أنه يريد أن يخرجها من الدير، فقالت: البنت يا محترم نبيهة ذكية، ولكنها عنيدة، وقحة، وعينها شاردة، ولسانها فالت، البنات في الدير لا يحببنها والراهبات يلاطفنها ويبذلن الجهد في إصلاحها، وكثيرا ما يقاسين منها، أما أنا فأعجب بذكائها وأحبها، وقد بذلت جهدي في سبيلها، فأدخلتها المدرسة منذ ثلاث سنوات لما توسمت فيها من الذكاء، وهي الآن تحسن القراءة والكتابة في اللغتين الإفرنسية والعربية وتحسن الإنشاء في اللغتين أيضا، وقد أخبرتني المعلمة أنها آية في الحفظ؛ إذا قرأت أمثولتها مرتين ترويها دون غلط، ويسرني أن أخبرك أنها ابتدأت هذه السنة تصلح سلوكها فوعدتها بثوب المبتدئات.
وأخذت الراهبة تفرك يديها وهي تبتسم ابتسامة الارتياح والرضى. - وهل هي تميل إلى الترهب؟ - الفتاة لا تعرف صالحها، ومن كانت في عمرها لا ينبغي لها أن تسترسل في هوى قلبها، وأنت تعلم يا محترم حالة هؤلاء البائسات اللواتي تقذف بهن الأقدار والمآثم إلى هذا الدير، فإذا عشن دون قيد ودون إرشاد يقعن في ما وقعت به أمهاتهن، فالدير بيتهن، وخلاصهن في الخدمة وفي الانقطاع إلى الله، ومن نستأنس بها النباهة والورع والذكاء نرقيها؛ لذلك أنصح لك أن تترك مريم عندنا. - ولكنها لا تحب الدير ولا تميل إلى الترهب.
فاضطربت الرئيسة وعمدت إلى مسبحتها تلعب بها لتخفي اضطرابها، ثم قالت وصوتها يكشف ما حاولت إخفاءه: يا قس جبرائيل أنت أعلم بهؤلاء البنات مني، فهن لا يعرفن صالحهن، ومريم أكثرهن عماوة وجهلا، ولسانها عدوها الألد، لا ينجو أحد في الدير من شره، تشتم البنات، وتهين الراهبات، وتعير حتى القس يوسف خادم الدير، فقد قالت: إنه تيس مكسورة قرونه. دائما تهين معلمتها وتقول فيها: إنها جنية تفتش عن مارد، لا أعلم من أين تجيئها هذه الألفاظ، ولكن أظن أن فيها شيئا من أخلاق الجنيات، ألا ترى أنها تشبه بنات النور؟! فكيف تكون حالة مثل هذه الفتاة إذا خرجت من الدير؟ اتركها عندنا ولا تتعب رأسك، ليس مثل الدير بيت لتأديب النفس واقتلاع الأشواك منها، والأشواك في نفس مريم كثيرة طالما أدمت أيدينا، وأنت تعلم أننا لا نؤذن لمثلها بالخروج من الدير؛ لأننا مسئولون عنها، وما خرجت من عندنا خادمة إلا وكان أسيادها راضين بها معجبين بسلوكها، ومريم لا تصلح خادمة، أنا أعرفها، وأحبها رغم عنادها وقحتها وتهورها، وأحب أن أصلحها وأرقيها، وطالما جربتني، فصبرت قائلة: من أجل آلامك يا يسوع، فلا تتعب يا قس جبرائيل رأسك بها، اتركها عندي.
فنهض القس جبرائيل عن كرسيه متبرما، وأجابها قائلا: يا حضرة الرئيسة توفيت امرأة صباح اليوم عندنا وأوصتني ساعة نزاعها بمريم، فقبلت الوصية، فصرت مسئولا عنها أكثر منك، سأنظر إذن في أمرها وأخبرك عما قريب إن شاء الله بما أعول عليه وأظنه خيرا لها، نهارك سعيد. - نهارك سعيد ومبارك، صل من شأني ولا تنسني في دعائك. - دعاء الصالحين.
وخرج من الدير كمن يخرج من بيت يحترق، أو كمن يخرج من ردهة التشريح في المستشفى، قلبه كحبة الخردل، ونفسه كليلة كانون. - دعاء الصالحين! دعاء الصالحين؟ وهل في الأرض صالح أو صالحة يا رب؟
وراح يخاطب نفسه ويساجلها فيرفع تارة صوته دون انتباه، وتارة يقف في الطريق؛ ليسمع صوت ضميره. - صحيح، صحيح، صحيح ما يشيعه الناس ، صحيح ما طالما سمعت وكذبت، بنات يولدن بالإثم ويربين في المفاسد، يأكلن خبز الإحسان وقد عجنته يد الحيف السوداء وخبزته يد الخبث الصفراء، نتصدق على الأشقياء والفقراء ونتبجح، نكد أبناء نعمتنا ونرهقهم ونصمهم فوق ذلك وصمة تلصقهم بحضيض الذل حياتهم، هذه المعاهد الفخيمة؛ معاهد الإحسان المتعددة عندنا إنما هي السبب الأكبر في دوام الذل والفقر والشقاء في بلادنا، هي التي تمهد للشاب طريق إثمه، هي التي تنير ظلمات الشقاء للأمهات وللبنات فشيقين، وا أسفاه، بما يرين وما يعلمن! كيف لا وأبواب الأديرة مفتوحة لاقتبال ثمرة ضلالهن وجهلهن؟! بنت تولد في ظلمات المآثم فتربى في ظلمات الخباثة والفساد ليتها لم تولد! بنت ترضع حليب البغض وتأكل خبز المذلة وتحبس في الدير تأديبا لنفسها؛ فتموت النفس من كثرة التأديب ولا يبقى من الشقية غير جسد تعذبه رئيساتها بالقضيب تارة وتارة بالرجاسة، ليتها لم تجبل طينة ذاك الجسد، خير لأبناء الفقر والشقاء والإثم أن تقفل دونهم أبواب الشفقة والإحسان، فيصلحون أنفسهم بأنفسهم أو يموتون ويرتاحون؛ راهب يخطف ابنة من الدير! فتاة تفر هاربة من الأسر والظلم فيفترسها أحد ذئاب الشهوات، دير البنات! هو مسلخ يسرق منه الجائع قطعة من اللحم، خارج الدير ذئاب كاسرة وداخل الدير حيات متورعة، فكيف تنجين أيتها الشقية؟ مريم محقة بشكواها، والرئيسة مصيبة بكلامها، إذا ظلت الفتاة في الدير تشقى، وقد تشقى إذا خرجت منه، ولكن الغريزة التي تستنفر الفتاة من الدير أصدق من الحكمة التي تقضي بأسرها، نعم، نعم، قد يخفي الثوب الأسود عيوبنا ولكنه لا يزيلها، والذين ينظرون إلى الدير كالحبس لا يجب أن يؤسروا فيه، إذا خرجت الفتاة منه وكانت حياتها حياة بؤس وشقاء ففي تحقيق رغبتها الأولى شيء من العدل والتعزية، لا، لا، لا، النفس لا تنمو بالأسر والتشذيب، بل بالتربية والحرية، حرية المرء مقدسة، حريتك يا مريم مقدسة. مسكينة الرئيسة! مسكينة الرئيسة! أتموت النفس جوعا وقد فقدت حريتها؟ أقبلة تحيي وقبلة تميت؟ سكرة النفس تشفي مرض الجسد، فهل تشفي سكرة الجسد مرض النفس؟ الطف اللهم بنا، اغفر اللهم ذنوبنا، ذنوبنا؟ ذنوبنا؟ وهل تكون الأمراض ذنوبا؟ هل يعد الضعف البشري إثما، مسكينة، مسكينة!
وصل إلى الدير فدخل الكنيسة وسجد أمام القربان المقدس ساعة، صلى صلاة المساء ثم طفق يتمشى في الرواق وسبحته في يده. - «أبانا الذي في السموات ... اغفر لنا ذنوبنا، لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير أمين.»
ثم دخل حجرته وأشعل شمعة فيها وأخذ كتاب «الاقتداء بالمسيح» وظل يقرأ فيه حتى نصف الليل، ونام عندئذ مطمئن النفس، هادئ البال، كأن لم يحدث ذاك النهار أمر ما خطير، كأن لم يطلع على أسرار تجعل الحياة البشرية لعنة في الأرض، ولكنه حلم حلما مزعجا تلك الليلة سمع فيه صوتا يكلمه قائلا: اترك الفتاة مريم في الدير، خير لك ولها. فاستفاق القس جبرائيل مذعورا ورسم شارة الصليب مستعيذا بالله: «أبانا الذي في السموات ... لا تدخلنا في التجارب، نجنا من الشرير، آمين.» ثم أشعل الشمعة وفتح «الاقتداء بالمسيح» فقرأ بضع صفحات ونفسه مضطربة وفكره متضعضع، فنهض من ساعته ولبس ثوبه وخرج إلى الرواق يصلي صلاة الفجر.
وفي تلك الساعة أشعلت الزهراء مصباحها الذهبي فوق قمة طابور، فلمست أشعته عين المرج النائم في مهد الجبال بين السامرية والجليل، فاستحال اسمرار وجهه اصفرارا عليه غشاء رفيع من نسج الندى والنسيم، وكان ربع القمر قد دنا من البحر وقد احمرت جوانبه فشابه سيفا مخضبا، أو قلامة ظفر محني، أو قطعة بطيخ على طبق من اللازورد، وجبال عجلون وقد نظرت إلى القمر والزهراء قبالها أخذت تخلع سرابيلها السوداء؛ لتستحم بنور الفجر الذي يبدو كذوب الرصاص فيسيل كذوب اللجين فيتدفق كعصير الرمان.
وقف القس جبرائيل في رواق الدير، فأسكره هذا المشهد البهيج وأنساه صلاته، بل حرك لسان النفس فيه فنطقت بصلاة أسمى وأجمل، نظر إلى الحقول حوله فرآها تهتز جذلا، وتتماوج حبا، وتتلألأ على صدرها قبلات الندى. نظر إلى الناصرة على منحدر الجبل تحته فإذا هي نائمة مطمئنة هادئة آمنة، تعطر أحلامها الأزاهر اليقظى في مصاطب البيوت وجنائن الأديرة، وتتهادى حولها أغصان الزيتون يقبلها نسيم الليل، وتداعبها أنامل الصباح.
Page inconnue