لكلماتك أشعر من الشعر؛ فأنى لك عز يمنعك من أن تنظم؟ قال: الأدب البارع، والفهم الناصع. قال: فما الحلم الذي يمنعك من أن يظلم؟ قال: الأدب المستطرف، والطبع التالد. قال: يا عجاج، لقد أصبحت حكيما. قال: وما يمنعني وأنا نجي أمير المؤمنين؟ انتهى.
وستسمع أن شاء الله من كلام حكماء العرب ما تقضي منه الأرب. والكلام المذكور هو أيضًا مصداق ما مر من تعلق الحكمة بالقلوب والألسن وساير الجوارح، والله الموفق. وقد اتضح من هذا الفرق بين المثل والحكمة، وذلك فيما يحضر فكري الآن من ثلاثة أمور: أحدها أن الحكمة عامة في الأقوال والأفعال، والمثل خاص بالأقوال. ثانيها أن المثل وقع فيه التشبيه كما مر، دون الحكمة. ثالثها أن المقصود من المثل الاحتجاج، ومن الحكمة التنبيه والإعلام والوعظ. ويرد على الأول إنّه فرق بحسب أعمية المورد، ولا مساس له بالحقيقة. فلم يفد إلاّ أن الحكمة الفعلية تباين المثل ولا نزاع فيه، وليس بمفيد في الأقوال إذا تنوزع فيها أن شيئا منها حكمة أو مثل. على أنه قد يكون التمثيل بالفعل أيضًا كتصوير شكل المثلث لمن لا يعرفه. ومن ثم يعد من جملة الرسوم المعروفات الأشياء التعريف بالمثال. ويرد على الثاني أنه إن عنى تشبيه المضرب بالمورد حقيقة، فقد مر أن نوعا كبيرا من الأمثال لا يجري فيه ذلك على ما ينبغي؛ وإن عني مطلق التشبيه، فهو واقع في الحكم كثيرا، كقولهم: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء. على أنه قد عد من الأمثال ملا تشبيه فيه أصلا بوجه كقولهم: من قرع الباب ولجَّ ولج. وقولهم: " الرباح مع السماح " ونحو ذلك. ويرد على الثالث أن الاحتجاج صحيح في الحكم أيضًا، بل جلها قضايا كليات وقوانين تورد بحيث يصلح في كل أمر تكون حجة فيه محذوفة إحدى مقدمتيها. فإذا قلنا: من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء أمكن إنّ نقول: إن فلان فسدت بطانته، وهو المقدمة الباقية، فيعلم أن فلانا هو كمن غص بالماء. وهذا الاستدلال هو الكاشف عن الصواب والخطأ في الأنظار والعلوم، وهو معنى الحكمة بالحقيقة؛ وإنما قلنا جل الحكم قضايا، لأن ذلك هو
1 / 29