وانتهى زديج إلى مرج جميل، فرأى جماعة من النساء يبحثن عن شيء ويمعن في البحث، فاستباح لنفسه أن يدنو من إحداهن وسألها: ألا يستطيع أن يشرف بمعونتهن على التماس ما يبحثن عنه، قالت السورية: «إياك أن تفعل، فإن ما نلتمسه لا ينبغي أن يمسه إلا النساء.» قال زديج: «هذا شيء غريب! هل لي أن أسألك عن هذا الذي لا ينبغي أن يمسه إلا النساء؟» قالت: «إنه الباسليك.» قال زديج: «الباسليك يا سيدتي! وفيم تبحثن عن الباسليك؟» قالت السورية: «إنما نبحث عنه لمولانا أوجول صاحب هذا القصر الذي تراه على شاطئ النهر في أقصى المرج، فنحن إماؤه، وقد أصابته علة، فوصف له الطبيب الباسليك مطبوخا في ماء الورد، وهذا الحيوان نادر لا يستسلم إلا للنساء، فقد أزمع مولانا أوجول أن يتزوج ممن تظفر له بالباسليك، فدعني أبحث إن شئت، فقد ترى ما أتعرض له إن ظفرت إحدى صاحباتي من دوني بالباسليك.»
وقد ترك زديج هذه السورية وصاحباتها يبحثن عن الباسليك، ومضى في المرج يسعى أمامه، حتى إذا بلغ شاطئ الجدول رأى سيدة أخرى مستلقية لا تبحث عن شيء، وكان قدها يظهر فخما، وقد ألقي على وجهها نقاب، وكانت منحنية نحو الجدول ترسل من فمها زفرات عميقة، وقد أخذت بيدها عودا صغيرا جعلت تخط به حروفا على الرمل الدقيق المنبسط بين العشب والجدول، وقد أحس زديج الحاجة إلى أن يتعرف ما كانت هذه السيدة تخط من حروف، فدنا وتبين حرف الزاي، ثم حرف الألف، ثم ظهر حرف الدال، فأخذته رعدة، ولم يبلغ الدهش من أحد قط ما بلغه حين رأى الحرفين الأخيرين من اسمه؛ فلبث ساعة ساكنا، ثم قطع الصمت بصوت متهدج قائلا: «أيتها السيدة الكريمة، عفوك عن غريب بائس إذا اجترأ فسألك بأي مصادفة مدهشة يجد هنا اسم زديج.» فلما سمعت السيدة هذا الصوت وهذه الألفاظ رفعت نقابها بيد مرتعدة، ثم نظرت إلى زديج، ثم صاحت صيحة فيها الحنان والدهش والفرح، ثم صرعتها العواطف المختلفة التي أخذت نفسها من كل وجه؛ فخرت مغشيا عليها بين ذراعيه، وكانت هذه السيدة هي أستارتيه، هي ملكة بابل، هي التي كان زديج يعبدها ويلوم نفسه على عبادتها، هي التي بكى عليها ما بكى، وخاف عليها ما خاف، فظل ساعة لا يملك من أمر نفسه شيئا، وقد وجه لحظه إلى عيني أستارتيه اللتين كانتا قد أخذتا تتفتحان في فتور وخجل وحنان، هنالك صاح زديج: «أيتها القوة الخالدة التي تدبر مصير الناس، أيمكن أن تردي إلي أستارتيه؟ في أي زمان، في أي مكان، في أي جمال ألقاها.» ثم جثا أمام أستارتيه، ومرغ جبهته في التراب عند قدميها، فتنهضه ملكة بابل وتجلسه إلى جانبها على شاطئ الجدول، ثم تمسح غير مرة عينيها اللتين كانتا لا تجفان إلا لتستأنفا سكب الدموع، وكانت تستأنف عشرين مرة حديثها الذي كان يقطعه الأنين، وكانت تسأله عن المصادفة التي جمعت بينهما، ثم تصرفه عن الرد عليها بأسئلة أخرى تلقيها عليه، وكانت تبدأ قصة آلامها ثم تقطع ذلك لتعرف من آلام زديج ما كانت تجهل، ثم انتهيا آخر الأمر إلى تهدئة ما سيطر على نفسيهما من اضطراب، وقص زديج عليها في حديث موجز ما ألم به من الخطوب، ثم قال: «ولكن أيتها البائسة العزيزة، كيف أتيح لي أن ألقاك في هذا المكان المنعزل في زي الإماء؛ مرافقة نساء أخريات يبحثن عن الباسليك ليطبخ في ماء الورد تنفيذا لأمر الطبيب؟»
قالت الحسناء أستارتيه: سأدعهن يبحثن عن الباسليك، وسأنبئك بكل ما احتملت، وبكل ما أتجاوز عنه للأقدار بعد أن أتاح لي لقاءك، لقد علمت أن الملك زوجي قد أنكر أن تكون أحب الناس إلى النفوس، ومن أجل هذا أزمع ذات ليلة أن يشنقك ويسمني، وقد علمت كيف أذن الله للقزم الأخرس أن ينبئني بما دبر الملك العظيم، وما كاد الوفي كادور يكرهك على أن تطيع أمري وتفر من بابل حتى دخل علي بعد أن نفذ إلى القصر من باب سري، ومن هناك اختطفني وذهب بي إلى معبد أوروزماد؛ حيث خبأني أخوه الكاهن في جوف تمثال عظيم تستقر قاعدته عند أساس المعبد، ويبلغ رأسه قبته.
هنالك أقمت كالمدفونة، ولكن الكاهن كان يخدمني ويوفر لي كل حاجاتي، بحيث لم ينقصني شيء مما لا بد منه، ثم لم يسفر الصبح حتى دخل غرفتي صيدلي الملك يحمل شرابا مزاجه سم ناقع من البنج والأفيون والشوكران والخربق وخانق الذئب، وذهب موظف آخر إلى قصرك ومعه حبل من حرير أزرق، فلم يوجد منا أحد، وأزمع كادور أن يخدع الملك فأقبل إليه يشكوني ويشكوك، وزعم أنك اتخذت طريقك إلى الهند، وأني اتخذت طريقي إلى مصر، فأرسل السعاة في أثرك وفي أثري.
وكان الذين يطلبونني لا يعرفونني، ولم أكن قد أظهرت وجهي قط إلا لك بمحضر من الملك وبأمره، فمضوا يطلبونني على هدي الصورة التي وصفت لهم عليها، فصادفوا على حدود مصر امرأة لها قامتي، ولعلها أن تكون أجمل مني، وكانت باكية هائمة، فلم يشكوا في أنها ملكة بابل، فحملوها إلى مؤبدار؛ فلما رأى الملك خطأهم أخذه غضب عظيم، ولكنه تأمل ملامح هذه المرأة فرأى جمالها وبهجتها، فسكت منه الغضب وأسرع إليه العزاء، وكانت هذه المرأة تسمى ميسوف، وقيل لي بعد ذلك أن هذا الاسم معناه عند المصريين الجامحة الحسناء، وكانت جامحة حقا، ولكن مهارتها لم تكن أقل من جموحها، وقد أعجبت مؤبدار وتسلطت عليه، حتى أعلن أنها أصبحت له زوجا، وهنالك ظهر خلقها كله، فاندفعت في غير خوف إلى كل ما أوحى إليها خيالها من آيات الجنون، وقد أرادت أن تكره عظيم الكهنة - وكان شيخا كبيرا قد أخذه النقرس - على أن يرقص بين يديها، فلما أبى اضطهدته أشد الاضطهاد، وقد أمرت صاحب خيلها أن يصنع لها كعكة من الحلوى، وقد اجتهد صاحب الخيل في أن يقنعها بأنه ليس صاحب هذه الصناعة، ولكنها أبت إلا أن يطيع، ثم عاقبته بعد ذلك لأن كعكته أصابها بعض الحريق، وقد اختارت قزمها لمنصب صاحب الخيل، وجعلت سياسة الدولة إلى أحد خدم القصر.
وكذلك حكمت مدينة بابل، وكان الناس جميعا يذكرونني آسفين، أما الملك الذي كان رجلا شريفا مستقيما إلى اليوم الذي أزمع فيه أن يقتلني ويشنقك، فكان يظهر كأنما أغرق فضيلته فيما استأثر من حب عظيم للجامحة الحسناء، فلما كان يوم العيد المقدس سعى إلى المعبد، ورأيته جاثيا أمام التمثال الذي كنت أستخفي فيه، وهو يستنزل عطف الآلهة على ميسوف، فرفعت صوتي صائحة به: «إن الآلهة يأبون أن يسمعوا لملك أصبح طاغية، وهم أن يقتل امرأة عاقلة ليتزوج مكانها امرأة خرقاء.» وقد صدم مؤبدار بهذا الكلام حتى اختلط عقله، فكان الوحي الذي ألقيته وطغيان ميسوف كافيين ليفقد الرجل صوابه، فلم تمض أيام حتى انتهى إلى الجنون.
وكان جنونه الذي رأى الناس فيه عقابا من السماء أول بوادر الثورة، فثار الناس وطاروا إلى أسلحتهم، وأصبحت بابل التي طال عهدها بالبطالة والترف ميدانا لحرب أهلية منكرة، فأخرجت من جوف التمثال ووضعت على رأس أحد الأحزاب، وأسرع كادور إلى ممفيس ليردك إلى بابل، ولكن أمير أراكنيا لم يكد يعلم بهذه الأحداث حتى أقبل بجيشه، فكون حزبا ثالثا في بلاد الكلدانيين، وقد هجم على جيش الملك فأسرع الملك إلى لقائه في حماقته المألوفة ومعه مصريته الخرقاء.
فقتل مؤبدار مطعونا، وسقطت ميسوف بين أيدي المنتصرين، وأراد سوء الحظ أن يأخذني أنا أيضا جماعة من جند أركانيا، وأن أقاد أمام الأمير في نفس الوقت الذي قيدت إليه فيه ميسوف، وقد يتملقك فيما أظن أن تعلم أن الأمير وجدني أجمل من المصرية، ولكن قد يسوءك أن تعلم أنه أضافني إلى حريمه، وقال لي في عزم وتصميم إنه سيسعى إلي متى فرغ من غارة كان يريد أن يتمها، فقدر ألمي، لقد انقطعت الأسباب بيني وبين مؤبدار، وأصبح من الممكن أن أقترن بزديج، وهذه الأقدار تسلمني إلى أمير متوحش، وقد أجبته مع كل الكبرياء التي تتيحها لي منزلتي وعواطفي.
لقد سمعت دائما أن السماء تمنح أمثالي من الناس مزية تتيح لهم إذا نطقوا بكلمة أو نظروا نظرة أن يردوا إلى الضعة والاستخذاء كل جريء يحاول أن يريدهم بسوء، وكنت أتحدث حديث الملكة، ولكني عوملت معاملة الوصيفة، فلم يلتفت الأركاني إلي، وإنما قال لخصيه الأسود إنه يجدني وقحة، ولكنه يراني حسناء، ثم أمره أن يحسن العناية بي، ويحملني على خطة الحظايا في الطعام والشراب حتى يردني رخصة مشرقة، وحتى أصبح أهلا لرضاه حين يتفضل فيمنحني قربه.
وقد أعلنت إليه أني سأقتل نفسي، فأجاب ضاحكا إن الناس لا يقتلون أنفسهم، وإنه خبير بهذا النحو من الإباء، ثم انصرف عني وكأنه رجل قد وضع ببغاء في حظيرته التي خصصها لغرائب الحيوان، فإلى أي هوان دفعت أكبر ملكات الأرض! بل إلى أي حال دفع هذا القلب الذي كان موقوفا على زديج!»
Page inconnue