مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة
نشأة الثائر وأسباب الثورة
الثورة في مرحلتها الأولى
عرابي الزعيم القومي
ثورة عرابي في مرحلتها الثانية
مذبحة الإسكندرية
ميثاق النزاهة
ضرب الإسكندرية
الحرب بين عرابي والإنجليز
كارثة الاحتلال
محاكمة العرابيين
الزعيم في المنفى
مقدمة الطبعة الثالثة
مقدمة
نشأة الثائر وأسباب الثورة
الثورة في مرحلتها الأولى
عرابي الزعيم القومي
ثورة عرابي في مرحلتها الثانية
مذبحة الإسكندرية
ميثاق النزاهة
ضرب الإسكندرية
الحرب بين عرابي والإنجليز
كارثة الاحتلال
محاكمة العرابيين
الزعيم في المنفى
الزعيم الثائر أحمد عرابي
الزعيم الثائر أحمد عرابي
تأليف
عبد الرحمن الرافعي
مقدمة الطبعة الثالثة
نحمد الله إذ ها هو كتاب أحمد عرابي الزعيم الثائر في طبعته الثالثة كما خرج في طبعتيه السابقتين تماما - والطبعة الأولى صادرها الملك السابق فاروق قبل ثورة 23 يوليو، ولاقى والدنا المغفور له الأستاذ عبد الرحمن الرافعي متاعب جسيمة عندما أخرج هذا الكتاب في حينه - وها هي دار الشعب تعيد طبعه بمناسبة ذكرى وفاة عرابي، إذ لاقى ربه يوم 21 سبتمبر سنة 1911 عليه وعلى شهداء الوطنية رحمة الله ورضوانه.
كريمات المؤلف
عبد الرحمن الرافعي
سبتمبر سنة 1968
مقدمة
إن سيرة أحمد عرابي - زعيم الثورة العرابية - قد اختلف فيها الرواة والمؤرخون، والكتاب والمؤلفون، بين قادح ومادح، وأنصار وخصوم، وقد عرضت لها في كتاب «الثورة العرابية والاحتلال الإنجليزي»، ولكنها متناثرة بين فصوله وأبحاثه، فرأيت أن أضع كتابا خاصا عن هذه السيرة، وهو الذي أقدمه اليوم.
1
والمنهج الذي اتبعته في الترجمة لعرابي هو أن أذكر ما له وما عليه؛ لأن تاريخه ليس كله محاسن، ولا كله مآخذ، بل تجتمع فيه المحاسن والأضداد، وخير التراجم ما يتناول شخصية المترجم من نواحيها المختلفة والمتباينة أحيانا.
تولى عرابي زعامة الجيش وزعامة الأمة في فترة من أهم فترات التاريخ المصري الحديث، فهو جدير بأن يوفى حقه من الدراسة والتدوين.
أحمد عرابي باشا وزير الحربية.
وعندي أن لسيرته منذ تولى الزعامة مرحلتين، فالأولى هي المرحلة الموفقة في تاريخ الثورة العرابية، إذ ظفرت فيها الأمة بالنظام الدستوري وتقرير حقوقها السياسية، وكان لعرابي الفضل الأول في هذا الظفر القومي، وتبدأ المرحلة الثانية من تنحية شريف باشا عن رياسة الوزارة في فبراير سنة 1882، فأخذت الثورة تتعثر في خطاها، ولو أن عرابي أبقى على وزارة شريف باشا لكان من المرجح أن تستمر الثورة على صراطها المستقيم، وتتغلب على ما اعترضها من العقبات والعراقيل، ولكن الجد العاثر سار بها في طريق محفوف بالأشواك والعثرات.
لقد تحريت الحقائق في تدوين هذه السيرة، بحيث أرجو أن تكون في جملتها صورة حية صادقة للزعيم أحمد عرابي.
يناير سنة 1952
نشأة الثائر وأسباب الثورة
(1) العصر الذي ظهر فيه عرابي
نحن الآن في منتصف القرن التاسع عشر، وقد تولى سعيد باشا أريكة مصر سنة 1854، وظل يتولاها إلى سنة 1863، وامتاز عهده بنهضة وطنية ترجع إلى شخصيته ونفسيته، فلقد كان يميل بجوارحه إلى خير المصريين ورفاهيتهم، ويعمل على تحريرهم من نير المظالم التي كانوا يعانونها، ويشجعهم على تقلد المناصب العالية في الجيش والإدارة بعد أن كان معظمها وقفا على الترك والشراكسة.
في هذا العصر بدأت شخصية أحمد عرابي في الظهور، إذ نال رتبة ملازم في الجيش سنة 1858، ومن يومئذ أخذ يرتقي في الرتب العسكرية.
فمن هو ذلك الضابط الذي بلغ مرتبة القيادة وعقد له الجيش بل عقدت له الأمة لواء الزعامة سنة 1881؟ (1-1) نشأته الأولى
ولد أحمد عرابي في 31 مارس سنة 1841 في «قرية رزنة» وهي إحدى قرى مديرية الشرقية على مقربة من الزقازيق، وكان أبوه شيخ البلد، وهو من عائلة بدوية استوطنت تلك القرية في عهد جد عرابي. ولما شب وترعرع، علمه أبوه مبادئ القراءة والكتابة، وعهد إلى رجل يدعى ميخائيل غطاس - كان صرافا في البلد - تدريبه على الكتابة والأعمال الحسابية، ومكث يتمرن على يديه نحو خمس سنوات، ثم أرسله والده إلى الجامع الأزهر سنة 1849 لطلب العلم، فمكث فيه أربع سنوات أتم في خلالها استظهار القرآن الكريم، وتلقى شيئا من اللغة والفقه والتفسير.
وبعد أن عاد إلى بلده، دون أن يتم دراسته في الأزهر، التحق بالعسكرية في 6 ديسمبر سنة 1854 جنديا بسيطا «نفرا» تنفيذا لما قرره سعيد باشا من تجنيد أولاد العمد والمشايخ، ولإجادته القراءة والكتابة والحساب عين كاتبا بدرجة «بلوك أمين» بالأورطة الرابعة من آلاي المشاة الأول.
وفي سنة 1858 رقي إلى مرتبة الضباط، وذلك حين اعتزم سعيد باشا ترقية المصريين في الجيش، فنال في تلك السنة رتبة ملازم من تحت السلاح، وهو بعد في السابعة عشرة، ثم رتبة يوزباشي سنة 1859، ثم رتبة صاغ سنة 1859، ثم رتبة بكباشي سنة 1860، ثم صار قائم مقام في سبتمبر سنة 1860. وقد حظي برضا سعيد باشا ورافقه في زيارته للمدينة المنورة ياورا له سنة 1860، وكان لهذه الزيارة أثر كبير في نفسه إذ آنس من سعيد عطفا كبيرا على طبقة الفلاحين، ثم بدا لسعيد أن ينقص عدد الجيش، فألغى بعض الفرق وفصل ضباطها من الخدمة، ومنهم أحمد عرابي، ثم أمر بإعادتهم قبيل وفاته، وعاد عرابي إلى سابق رتبته.
من هذا البيان يتضح أن ليس في نشأة عرابي شيء يستوقف النظر، بل هي نشأة عادية لرجل عادي، لم يتميز في ماضيه بالبطولة ولم يخض غمار المعارك والحروب، كان ضابطا من تحت السلاح، ونال مرتبة الضباط؛ لأن سعيد باشا وضع قاعدة إمكان ترقية الضباط من بين أفراد الجند رغبة منه في إكثار عددهم. ولا غبار على هذه النشأة في شيء، وليس ثمة ما يمنع صاحبها من أن يقوم بدور هام في حياة البلاد السياسية والقومية. (1-2) متى وكيف بدأت دعوته الوطنية؟
يبدو من التأمل في حياة عرابي أن دعوته الوطنية قد بدأت تخالجه في عهد سعيد باشا، فقد سمعه يلقي خطبة في «قصر النيل» مقر وزارة الحربية وقتئذ، قال فيها مخاطبا الحاضرين من العلماء والرؤساء الروحانيين، وأفراد الأسرة الحاكمة وكبار رجال الحكومة الملكيين والعسكريين:
أيها الإخوان ... إني نظرت في أحوال هذا الشعب المصري من حيث التاريخ، فوجدته مظلوما مستعبدا لغيره من أمم الأرض، فقد توالت عليه دول ظالمة له كثيرا ...
وحيث إني أعتبر نفسي مصريا، فوجب علي أن أربي أبناء هذا الشعب، وأهذبه تهذيبا حتى أجعله صالحا لأن يخدم بلاده خدمة صحيحة نافعة، ويستغني بنفسه عن الأجانب، وقد وطدت نفسي على إبراز هذا الرأي من الفكر إلى العمل.
يقول عرابي تعليقا على هذه الخطبة: إنه لما انتهى سعيد باشا من إلقائها خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حنقين مدهوشين مما سمعوا، وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلل فرحا واستبشارا، ويقول إنه اعتبر هذه الخطبة أول حجر في أساس مبدأ «مصر للمصريين».
ولا شك أن خطبة سعيد باشا لم تصادف في نفس عرابي موضع الإقناع والغبطة إلا لأن روحه كانت وطنية، فهي تقبل ما يوافق ميولها واتجاهاتها.
على أن دعوته الوطنية لم تنضج إلا في عهد الخديو إسماعيل، ذلك أنه حين خلف سعيد باشا في ولاية الحكم، فقد عرابي عطف ولي الأمر الجديد، إذ لم يكن إسماعيل يأخذ بسنة سلفه في العطف على الضباط الوطنيين، فعادت الحظوة في الجيش إلى الضباط الشراكسة، فكان ذلك من أسباب تذمر عرابي، واتجاه أفكاره إلى المطالبة بحقوق الضباط الوطنيين.
ووقع له حادث في أوائل عهد إسماعيل كان له أثر كبير في اتجاه أفكاره وتكوين دعوته الوطنية، فقد وقعت خصومة بينه وبين اللواء خسرو باشا الشركسي أدت إلى تقديمه إلى مجلس عسكري، والحكم عليه بالسجن واحدا وعشرين يوما، فاستأنف عرابي هذا الحكم أمام المجلس العسكري الأعلى، فقضى بإلغاء الحكم الابتدائي. وحدث خلاف بسبب هذا الحكم بين وزير الحربية وقتئذ إسماعيل سليم باشا ورئيس المجلس الأعلى؛ لأن الوزير كان يرغب في تأييد الحكم الابتدائي، فسعى لدى الخديو إسماعيل في فصل عرابي من الجيش، فتم له ما أراد، فأورثته هذه الحادثة بغضا شديدا للشراكسة.
ورفع ظلامته من هذا القرار إلى الخديو إسماعيل، وظلت بين النظر والإهمال ثلاث سنوات، وقد توسط له بعض الخيرين فالتحق بوظيفة في دائرة الحلمية، وفي أثناء قيامه بهذه الوظيفة تزوج من كريمة مرضعة الأمير إلهامي باشا، وهي أخت حرم الخديو توفيق من الرضاعة، وتوصل بذلك إلى استصدار أمر من الخديو إسماعيل بالعفو عنه وإعادته إلى الجيش برتبته العسكرية، ولكنه حرم مرتبه مدة فصله. فتأصلت في نفسه روح الكراهية لرؤساء الجيش من الشراكسة والترك الذين كانوا سببا في تأخير ترقية الضباط المصريين، ومنهم عرابي ذاته، فقد ظل تسعة عشر عاما برتبة قائم مقام، وهي الرتبة التي نالها في عهد سعيد، وشهد عرابي محاباة الرؤساء لصغار الضباط الذين هم من أصل شركسي، ممن هم دونه مرتبة، حتى فاتوه في الرتب العسكرية لا لسبب سوى أنهم من مماليك أو أبناء مماليك العائلة الخديوية.
من ذلك الحين أخذ عرابي يبث في نفوس الضباط الوطنيين فكرة الاتحاد والمطالبة بحقوقهم ورفع الحيف عنهم، وكان للباقته وفصاحته في الكلام واستناده إلى بعض الأحاديث الشريفة النبوية والحكم المأثورة، تأثير كبير في نفوس الضباط اجتذبهم إليه ومال بهم إلى تلبية ندائه والاستماع لنصائحه والاقتناع بدعوته، ذكر محمود فهمي باشا أحد زعماء الثورة العرابية في هذا الصدد، أن عرابي دخل سنة 1875 أحد الآلايات المرابطة بناحية رشيد، فأخذ من ذلك الوقت في تأليف قلوب الضباط الوطنيين «أولاد العرب» - على حد تعبيره - وجمع كلمتهم على ولائه وإظهار الأسف لحرمانهم من الترقيات في حين أن الضباط الترك والشراكسة مغمورون بها.
فيمكن اعتبار سنة 1875 بدء دعوة عرابي الوطنية، وكان ذلك في عهد الخديو إسماعيل.
ولما تولى توفيق باشا مسند الخديوية رقى عرابي إلى رتبة أميرالاي في يونيو سنة 1879، وأصدر الخديو أمره بذلك وهو في الإسكندرية، فتوجه عرابي إلى سراي رأس التين وقدم للخديو شكره مقرونا بعبارات الإخلاص والولاء، فشمله الخديو برعايته، وجعله ضمن ياورانه، وعينه أميرالاي لآلاي المشاة الرابع الذي كان مركزه بالقاهرة، ويعرف بآلاي العباسية، وظل يشغل هذا المنصب حتى شبوب الثورة سنة 1881. (1-3) أسباب الثورة
توصف ثورة عرابي بأنها ثورة عسكرية، وهذا صحيح لا مراء فيه، إذا لاحظنا أن زعيمها والقائمين بها هم من ضباط الجيش، وأنها قامت وتحركت وفازت وقتا ما بقوة الجيش، ثم انتهت بهزيمته.
ولكن مما لا ريب فيه كذلك أنها ليست ثورة عسكرية فحسب، بل هي أيضا ثورة قومية اشتركت فيها طبقات الأمة كافة، وإذا أردنا أن نستقصي أسبابها وجدناها على نوعين: أسباب خاصة مباشرة، وهي المرتبطة بطبقة الضباط والجند وموقفهم من الحكومة وموقف الحكومة منهم. وأسباب عامة، وهي التي تتصل بحالة الشعب والعوامل التي دفعته إلى مناصرة الثورة وتأييدها. وإذ كانت الأسباب الخاصة أقوى أثرا في ظهورها وتطورها، فلنبدأ بالكلام عنها ...
الأسباب المباشرة
ترجع هذه الأسباب إلى تذمر الضباط الوطنيين من سوء معاملة رؤسائهم، وخاصة عثمان رفقي وزير الحربية في عهد وزارة رياض باشا التي شبت الثورة في عهدها.
كان عثمان رفقي قائدا شركسيا متعصبا لجنسه، يتحيز للضباط الذين هم من أصل شركسي أو تركي أو أرناءودي، ويعمل على جمع زمام السلطة في أيديهم، ويؤثرهم في الترقيات والتعيينات على الوطنيين الذين كان ينظر إليهم بعين الزراية والبغض.
وكان عثمان رفقي من ناحية الكفاية جاهلا، قليل الإدراك والذكاء، عديم المواهب، قليل النظر في العواقب، يمثل طبقة الرؤساء العسكريين المنحدرين من سلالة الترك والشراكسة الذين كانت لهم رياسة الجيش في عهد إسماعيل وأوائل عهد توفيق. ولم يكن الضباط الوطنيون يجدون منهم في الجملة إنصافا ولا مساواة ولا معاملة حسنة، ولو أن إسماعيل درج على سنة سعيد في تشجيعه المصريين وترقيتهم في المناصب العسكرية، لسادت روح المساواة في الجيش، ولما هيأ أمثال عثمان رفقي السبيل إلى الفتنة.
ولا مراء في أن إسماعيل كان يميز الضباط والرؤساء الشراكسة والترك على الوطنيين في المعاملة، برغم ما بدا منهم من العجز والجهل وعدم الكفاية، مما ظهر أثره جليا في الهزائم التي حاقت بالجيش سنة 1875-1876 في حرب الحبشة. وعلى ما كان لهذه الهزائم من أسوأ الأثر، فإن إسماعيل لم يحاسب أولئك القواد والضباط على ما وقع منهم من الإهمال والتقصير، وقيل إنه اعتزم محاكمة راتب باشا قائد هذه الحملة، ولكنه ما لبث أن رجع عن ذلك ... فقربه إليه وجعله من خاصة بطانته.
وهذا يدلك على شديد ميله إلى تلك الفئة ... فكانت لها الحظوة لديه، ثم لدى الخديو توفيق. ولو ظلت روح المساواة التي بثها سعيد في الجيش سائدة في عهد إسماعيل وتوفيق لما قامت الثورة العرابية؛ لأن عرابي وصحبه لم يثوروا إلا حين طفح الكيل من محاباة أمثال عثمان رفقي للترك والشراكسة واضطهادهم للضباط الوطنيين، فعرابي وصحبه كانوا على حق في المرحلة الأولى من الثورة؛ لأن الطبيعة البشرية مفطورة على كراهية الظلم والاضطهاد. ومن صفات النفس الإنسانية الثورة على المظالم. ولم تكن المظالم التي يشكو منها الضباط الوطنيون مقصورة على حرمانهم حقوقهم في الترقي، بل كانوا كذلك هدفا لأشد ضروب العنت والإرهاق، إذ كان يكفي أن تلصق بأحد منهم تهمة ما، ولو لم تكن صحيحة، ليكون جزاؤه أن تنزع منه درجته أو يقصى عن منصبه، أو ينفى إلى أقصى السودان، وتصبح حياته عرضة للخطر لأوهى الأسباب.
فالثورة العرابية كانت ثورة دفاع عن الحق، ودفاع عن الحياة، وليس من ينكر ما كان عليه معظم الرؤساء الشراكسة والترك والأرناءود من الغلظة والغطرسة، والزهو والخيلاء، والزراية بالوطنيين ... فإن هذه النزعات كانت فاشية فيهم، لا في مصر وحدها، بل في سائر بلاد السلطنة العثمانية القديمة، إذ كان العرب يعانون سوء معاملة الترك لهم واضطهادهم إياهم، وكانت هذه المعاملة من أسباب قيام الفتن والثورات في السلطنة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى.
ومادمنا في صدد الأسباب المباشرة للثورة، فلا جدال في أن ظهور أحمد عرابي كان في مقدمة هاتيك الأسباب، فهو الذي بث في نفوس الضباط روح التضامن والاتحاد للمطالبة بحقوقهم المهضومة، وتقدم الصفوف لعرض مطالبهم جهارا على ولاة الأمور، وكانت هذه المطالب فاتحة الثورة، فهذه الجرأة كان لها أثر كبير في ظهور الثورة، ولو لم يظهر عرابي، ولم تكن له تلك الشخصية التي اجتذبت إليه صفوف الضباط وبثت فيهم روح التضامن والإقدام، لكان محتملا ألا تظهر الثورة العرابية، أو لظهرت في زمن آخر وفي ظروف وملابسات أخرى غير التي ظهرت فيها.
وهناك سبب من الأسباب المباشرة، يرجع إلى شخصية الخديو توفيق، فقد كان من أخص صفاته التردد والضعف، فلم يعالج الثورة في مهدها بالحزم والشدة، أو بالعدل ورفع المظالم التي شكا منها الضباط، بل كان موقفه منها موقف التردد والتناقض، لا يستقر على رأي واحد ولا على خطة واحدة ... بل كان يقابل حركة الضباط تارة باللين وآونة بالشدة، ثم يجنح إلى التراخي والضعف، ثم إلى الشدة بعد الضعف. ولم يكن صريحا في سياسته ولا في تصرفاته، وكان له عدا ذلك من ظروفه العائلية ما يشجع عوامل التحريض على الثورة، فإن إسماعيل كان لا يفتأ يسعى في العودة إلى الحكم، ولا يرضيه أن يستقر ابنه على العرش.
ومن هنا جاء الظن بأن لإسماعيل ضلعا في مؤامرة الضباط الشراكسة التي أججت نار الخلاف بين الخديو والعرابيين، كما سنذكره في موضعه. وكذلك كان له من الأمير محمد عبد الحليم بن محمد علي منافس قوي في التطلع إلى مسند الخديوية، وكان وجود عبد الحليم في الآستانة - مهبط الفتن والدسائس - واتصاله برجال المابين، عاملا قويا لتهيئة الأفكار لتوقيع خلع توفيق كما خلع أبوه من قبل. هذا إلى أن الأمير عبد الحليم كان بحسب نظام الوراثة القديم أحق بالعرش من توفيق؛ لأنه أكبر أفراد الأسرة الحاكمة سنا.
ولم يتبدل هذا النظام إلا في عهد إسماعيل إذ جعل العرش في ذريته - فرمان 27 مايو سنة 1866 - فكان توفيق أول من أفاد من النظام الجديد، ولم يكن قبل صدور هذا الفرمان يتطلع إلى العرش، ولا كان معترفا له بالزعامة من أمراء آل بيته، وبخاصة الأميرات، إذ كن ينعين على والدته أنها قينة من جواري إسماعيل. فهذا المركز القلق من شأنه أن يحرض على الثورة، أضف إلى ذلك أن أعضاء وزارة رياض باشا كانوا مختلفي الرأي والنزعات في مواجهة الثورة، فكان هذا الموقف وما ينطوي عليه من الاضطراب والتنافس من العوامل التي أعانت على ظهور الثورة ونجاحها.
وثمة أسباب عامة يشترك فيها الشعب بجميع طبقاته، منها أسباب سياسية، وأخرى اقتصادية، وثالثة اجتماعية.
الأسباب السياسية
فالأسباب السياسية ترجع إلى تذمر المصريين عامة من سوء نظام الحكم القائم ورغبتهم في التخلص منه، فقد كان قوام هذا النظام استبداد الحكم واضطهادهم الأهلين.
لم يكن ثمة عدل ولا قانون، ولا قضاء ينتصف للمظلوم ويعطي كل ذي حق حقه، ولا حرية، ولا مساواة، ولا ضمانات قانونية تكفل للناس حقوقهم وحياتهم، وكان الضرب بالكرباج شائعا يتخذه الحكام وسيلة لتحصيل الأموال أو أداة للقسوة والتعذيب ... حقا أن رياض باشا أمر بإبطاله، ولكن أوامره في هذا الصدد لم تنفذ تنفيذا تاما، وبقي الكرباج في كثير من النواحي أداة للحكم. وكانت السخرة مضروبة على البلاد، ولم تكن مقصورة على المنافع والأعمال العامة، بل كانت تستخدم لاستصلاح أطيان ذوي السلطة والجاه من الحكام والأمراء، وكان النفي إلى أقاصي السودان عقوبة يعانيها الكثيرون لمجرد الشبهة أو النكاية. ذكرت جريدة «المونيتور إجبسيان» - الجريدة الرسمية الفرنسية للحكومة - أنه لما ألف شريف باشا وزارته بعد قيام الثورة العرابية، تقدمت له عرائض كثيرة من المحكوم عليهم بالنفي إلى السودان يطلبون رفع الظلم عنهم، وبلغ عددهم 912 منفيا، وهو عدد كبير يدلك على كثرة المظالم التي كان الناس يعانونها قبل الثورة، وقد تبين من تحقيق هذه الشكايات أن كثيرين من المنفيين كان يتقرر نفيهم لمجرد محضر موقع عليه من بعض الأفراد، باتهام أي شخص بأنه خطر أو لمجرد خطاب من أية سلطة محلية بهذا الاتهام. ولم تكن المظالم مقصورة على طبقة دون أخرى، بل كانت عامة، يعانيها العامة والخاصة، ولم يكن ينجو من شرها إلا من كانت تشملهم رعاية أولي الأمر، على أن هذه الرعاية لم تكن مضمونة البقاء، بل كثيرا ما تنقلب غدرا لغير ما سبب سوى أهواء الطغاة وتقلباتهم.
فالمصريون كانوا إذن يتطلعون إلى التخلص من نظام الحكم القائم، وقد أدركت الطبقة الممتازة من الأمة أن إصلاح هذا النظام إنما يكون بقيام الدستور وإنشاء مجلس نيابي يوطد مبادئ العدل والحرية، ويتحقق فيه معنى الرقابة على الحكام، ويحول دون ارتكاب المظالم ... فيأمن الناس على حقوقهم وعلى حياتهم. ومن هنا اتحدت الطبقة المثقفة من الأمة مع الضباط الوطنيين في الشعور والميول، وأجمع الكل على المطالبة بالمجلس النيابي. فالثورة العرابية كانت من هذه الوجهة ثورة على المظالم، وثورة على الحكم الاستبدادي.
وليس يخفى أن البلاد عرفت شيئا من النظام الدستوري من قبل، إذ أنشئ مجلس شورى النواب سنة 1866 على عهد إسماعيل. ولكنه كان مجلسا لا سلطة له، فلم يكن له أي أثر في رفع المظالم عن الأهلين، وقد بدأت روح الحياة والمعارضة تظهر بين أعضائه في أواخر عهد إسماعيل، وتطلعت أفكار الخاصة من النواب والأعيان إلى إصلاح نظامه وتوسيع اختصاصه، وحقق شريف باشا هذه الآمال بوضع دستور على أحدث المبادئ العصرية سنة 1879، ولكن الأزمة التي انتهت بخلع الخديو إسماعيل حالت دون إصداره والعمل به.
وبينما كانت الطبقة المثقفة ترتقب إعلان الدستور على يد الخديو توفيق، إذا بهم يرون شريف باشا يستقيل لمعارضة الخديو إياه في تشكيل مجلس النواب، وإصراره على الحكم المطلق. ورأوا الخديو يؤلف وزارة برياسته، مما ينم عن ميوله الاستبدادية، ثم يكلف رياض باشا تأليف وزارة كان من مبادئها الأساسية حكم البلاد حكما مطلقا وحرمانها أي نظام دستوري ... حتى مجلس شورى النواب القديم على ما كان عليه من ضعف السلطة، فقط ظل معطلا زهاء سنتين، طوال عهد وزارة رياض باشا. ولم ينس الناس ما كان لهذا المجلس من بعض المواقف الطيبة في أواخر عهد إسماعيل، وأنه عطل في عهد توفيق، فكان لزاما أن يستأنفوا الجهاد للدستور، وكان طبيعيا إذا دعاهم داع إلى الثورة أن يلبوا نداءه طائعين مستبشرين ... ويتبين لك من هذه الناحية أن الثورة العرابية هي استمرار للحركة الوطنية التي ظهرت في أواخر عهد إسماعيل وامتداد لها.
وكانت سياسة رياض باشا من أسباب ظهور الثورة، فقد استهدف لحركة مقاومة قوية لما بدا منه من المعارضة في إنشاء مجلس النواب، وانحيازه للنفوذ الأوروبي، ولما عرف عنه من الاستخفاف بميول الشعب وعدم اكتراثه لآراء الخاصة من الكبراء والأعيان، وإصراره على قمع كل معارضة بالشدة واضطهاده للمعارضين. ومن أمثلة هذا الاضطهاد تجريده الفريق شاهين باشا كنج وزير الحربية السابق من رتبته وألقابه لاتصاله بالحزب الوطني، وتقديم السيد حسن موسى العقاد للمحاكمة ونفيه إلى أقصى السودان لاعتراضه على إلغاء قانون المقابلة، ثم اضطهاده للصحف المعارضة لوزارته.
استهدفت الصحف المعارضة للاضطهاد في عهد وزارة توفيق، ثم في عهد وزارة رياض، واستخدمت الحكومة اللائحة القديمة المسماة لائحة أو «نظامنامه» المطبوعات لإنذار الصحف أو تعطيلها. ففي عهد الوزارة التي رأسها توفيق باشا عطلت الحكومة جريدة «مرآة الشرق» لمدة شهر، وأنذرت جريدة «التجارة»، ثم عطلت جريدة «مرآة الشرق» لمدة خمسة أشهر «لأنها اعتادت الدخول فيما لا يعنيها، ونشرت مطالعات سخيفة مخترعة من تلقاء نفسها خرجت فيها عن حدود وظائفها»، وفي عهد وزارة رياض باشا أنذرت جريدتا «مصر» و«التجارة» لنشرهما مقالات عدتها الحكومة غير معتدلة تخدش الأذهان، ثم عطلتا نهائيا لإصرارهما على خطة المعارضين.
كانت جريدتا «مصر» و«التجارة» من أقوى صحف المعارضة، تجلت فيهما روح السيد جمال الدين، ولا غرو فصاحبها ومنشئها هو أديب إسحق من خاصة تلاميذ الحكيم الأفغاني، أنشئت الأولى سنة 1877 والثانية سنة 1878 في أواخر عهد إسماعيل، وكانتا في عهد توفيق لا تفتأ كل منهما تنشر المقالات الحماسية وتنتقد سياسة الحكومة وتندد بتفريطها في حقوق البلاد، فلم تطق وزارة رياض باشا صبرا على مسلكهما، وأصدرت قرارها بتعطيلهما تعطيلا نهائيا.
وأنذرت جريدة «مصر الفتاة» لطعنها على الحكومة لمناسبة توسيع اختصاصات الرقيبين الماليين، ثم عطلت تعطيلا نهائيا لنشرها مقالات وأخبارا عدتها الحكومة مهيجة للخواطر والأفكار. ومنعت جرائد «النحلة» و«أبو نضارة» ثم «أبو صفارة» و«القاهرة» و«الشرق» من دخول القطر المصري، وأنذرت جريدة «الإسكندرية» ثم عطلتها شهرا، وعطلت جريدة «المحروسة» لمدة خمسة عشر يوما. ولم يقتصر الاضطهاد على الصحف العربية، بل تناول الصحف الأوروبية، فعطلت جريدة «الريفورم» تعطيلا نهائيا وأغلقت مطبعتها بحجة أنها تنتشر مقالات مثيرة للأفكار، وأنذرت جريدة «الفارد السكندري».
فالصحف المعارضة، وما كانت تبثه في الأفكار من روح التبرم بنظام الحكم والتطلع إلى الحرية والدستور، وما لقيته من اضطهاد، كل ذلك كان من الأسباب الممهدة للثورة والمحرضة عليها. •••
وقد اشتد ساعد الحركة بتأليف جمعية من الناقمين من سياسة رياض باشا، عرفوا بالحزب الوطني «القديم»، وقد نشروا في 4 نوفمبر سنة 1879 أول بيان سياسي لهم، وطبعوا منه عشرين ألف نسخة. وسعى رياض باشا في معرفة ناشريه لإقصائهم إلى السودان، فلم يستطع إلى ذلك سبيلا. ويقول المسيو جون نينيه الذي عاصر حوادث الثورة العرابية: «إن إخفاق رياض باشا في تعقب ناشري هذا البيان شجع خصومه على متابعة العمل لإسقاطه، وإن منهم الخديو توفيق ذاته. ومن بينهم الباشوات الأربعة: شريف باشا، وإسماعيل راغب باشا، وعمر لطفي باشا، وسلطان باشا، وإنهم أوفدوا إلى باريس أديب إسحق لإنشاء جريدة القاهرة، وقد رحل فعلا إلى أوروبا بعد إلغاء جريدتيه «مصر» و«التجارة». وأصدر بباريس جريدة معارضة لوزارة رياض، وكانت من أشد الصحف لهجة ضدها، فكانت من أقوى العوامل في إثارة الأفكار على رياض ووزارته. وتعقبها رياض لمنع تداولها في مصر، ولكن الباشوات الأربعة كانوا يوزعونها في أنحاء البلاد. وتعددت الاجتماعات السرية في منزل سلطان باشا لتنظيم الحزب الوطني، وقويت الروابط بين منظميه ... وكان في مقدمتهم سلطان باشا، وأحمد عرابي بك، وصاحباه عبد العال حلمي وعلي فهمي، ومحمود سامي البارودي باشا، وسليمان أباظة باشا - مدير الشرقية - وحسن الشريعي باشا - مدير المنيا - ومحمود فهمي باشا.
ويقول المسيو «جون نينيه»: إن الغرض من ضم المديرين إلى الحزب هو نشر الدعاية له في الأقاليم، وإن سلطان باشا بوجاهته وثرائه - إذ كان يمتلك نحو ثلاثة عشر ألف فدان من أجود الأطيان - كان يطمع في رياسة الحزب رغم ضعف أخلاقه ودخيلة نفسه، ولم يكن يتطلع إلى الوزارة؛ لأنه لم يكن كفؤا لها بل كان يرنو إلى رياسة مجلس النواب.
ويقول عرابي في مذكراته عن تأسيس الحزب الوطني: إنه تألف من لفيف من العظماء والكبراء والعلماء والنبهاء، ويرجع تأليفه إلى التذمر من تغلغل النفوذ الأوروبي في الحكومة، فألف أولئك الكبراء هذا الحزب وجعلوا مركزه مدينة «حلوان»، ونشروا عدة منشورات في الصحف الفرنسية نصحوا فيها للحكومة بمراعاة مصالح البلاد، وأعلنوا عن وجود الحزب الوطني وبينوا واجباته وحقوقه، ثم اعترضوا على «الدين الممتاز» واختصاصه بالضمان، وطلبوا المطالب الآتية:
أولا:
تعاد إلى الحكومة المصرية جميع الأملاك المسماة بالخديوية.
ثانيا:
يلغى النص القاضي بتخصيص السكة الحديدية للقرض الممتاز - في قانون التصفية - فإن لم يرض بذلك الدائنون من الإنجليز تعين عليهم قبول ذلك الدخل كما هو من غير أن تؤخذ بقية الفائدة المخصصة لهم من الدخل العام.
ثالثا:
أن تكون الديون الممتازة والسائرة والمنتظمة دينا واحدا مضمونا بمال الأمة والبلاد بفائدة مقدارها 4 في المائة.
رابعا:
أن تقام إدارة مراقبة وطنية خاصة مؤقتة، يكون فيها ثلاثة من الأجانب تعينهم الدول وتقرهم الحكومة المصرية.
فرواية عرابي عن تأسيس الحزب الوطني لا تختلف في جوهرها عن رواية نينيه. ويقول عرابي: إنه لما علمت الحكومة بوجود هذا الحزب شددت الرقابة على زعمائه وهددتهم واضطهدتهم، وكان الفريق شاهين كنج باشا وزير الحربية السابق من زعماء هذا الحزب، فاحتمى بالحماية الإيطالية وغادر مصر إلى إيطاليا، فصدر أمر الخديو في 14 يونيو سنة 1880 بتجريده من رتبه وألقابه، ومحو اسمه من دفاتر ضباط الجيش. وبني الأمر على أنه دخل في حماية دولة أجنبية دون أن يعطى له إذن بذلك، وأنه سافر من مصر بدون جواز سفر مستعينا بجواز سفر حصل عليه من حكومة أجنبية دون أن تعترف به الحكومة المصرية.
يتبين مما تقدم أن الحزب الوطني كان له أثر كبير في إظهار الثورة العرابية. وكانت بالإسكندرية جمعية أخرى عرفت بجمعية «مصر الفتاة» رفعت عريضة إلى الخديو بمطالب الحرية، وأنشأت جريدة «مصر الفتاة» للدعوة إلى الحرية، وهي الجريدة التي عطلتها الحكومة كما تقدم.
وثمة عامل آخر، يتصل بالأسباب السياسية، كان له أثره في التحريض على الثورة، ويعد من مقدماتها، وهو حدوث سابقة للثورة العرابية ... ونعني بها ثورة الضباط على وزارة نوبار باشا أواخر عهد إسماعيل في فبراير سنة 1879، فإن تلك الثورة هي صورة مصغرة للثورة العرابية، إذ قامت على أكتاف الضباط، وكان الباعث شكواهم من تأخير مرتباتهم وإحالة 2500 منهم إلى الاستيداع. فذهب نحو ستمائة ضابط منهم يتبعهم لفيف من طلبة المدرسة الحربية ونحو ألفين من الجنود إلى وزارة المالية، بحجة رفع ظلامتهم إلى نوبار باشا والسير ريفرس ويلسن وزير المالية وقتئذ، فهجموا على نوبار باشا واعتدوا عليه بالضرب، وكذلك اعتدوا على السير ريفرس ويلسن، واقتحموا أبواب الوزارة واحتلوا غرفها وقاعتها وحبسوا نوبار باشا ورياض باشا - وكان وزيرا للداخلية - والسير ريفرس ويلسن في إحدى غرف الدور الأعلى، وكانت نتيجة تلك الثورة سقوط وزارة نوبار، فهذا الفوز الذي أحرزه الضباط سنة 1879 قد أغرى عرابي وصحبه بالثورة سنة 1881.
الأسباب الاقتصادية
لم تكن الحالة الاقتصادية خيرا من الحالة السياسية، بل كانت أدعى منها إلى الثورة. فالديون التي اقترضها الخديو إسماعيل ألقت على البلاد عبئا جسيما من الأثقال الفادحة، واضطرت الحكومة إلى تخصيص نصف موارد الميزانية لسداد فوائد الديون. فكان ذلك سببا لتذمر الأهلين خاصتهم وعامتهم؛ لأن تخصيص هذا المبلغ الضخم، الذي يجبى كل عام من عرق الفلاح وكده، معناه حرمان الأهلين ثمرة جهودهم ومتاعبهم وإضاعتها لحساب الدائنين ... هذا فضلا عن فداحة الضرائب في مجموعها، وعدم توزيعها توزيعا عادلا، واقتضائها بوسائل القهر والإرهاب. فانضم الأهلون إلى الثورة وشايعوها آملين أن تخفف عنهم أعباء الضرائب، وكان استفحال نفوذ الأجانب عامة، واستحواذهم على مرافق البلاد الاقتصادية، مما دعا إلى تبرم الأهلين بنظام الحكم ... فإن الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها والمزايا التي نالها التجار والمرابون منهم، قد أكسبتهم الأموال الطائلة، فأثروا على حساب الخزانة المصرية وعلى حساب الأهلين.
وزاد في تذمر المثقفين والأعيان استسلام الحكومة في عهد وزارة رياض باشا لمطالب الدائنين وحكوماتهم، فقد أقرت نظام الرقابة الثنائية كما أملاه القنصلان الإنجليزي والفرنسي، وخولت الرقيبين الأوروبيين سلطة واسعة المدى في شئون الحكومة المالية، واتسع النفوذ الأوروبي داخل الحكومة بواسطة الرقيبين وخارج الحكومة؛ لاستجابتها لمطالب الماليين الأوروبيين والترخيص لهم باستثمار موارد البلاد ومرافقها الاقتصادية، فأنشئت في عهد وزارة رياض باشا عدة مؤسسات مالية واقتصادية، زادت في طغيان النفوذ الأوروبي في حياة مصر الاقتصادية، كالبنك العقاري - وقد تأسس في 15 فبراير سنة 1880 - وشركة تكرير السكر، والشركة العمومية لإجراء الأشغال بالديار المصرية، وشركة المقاولات وغيرها، وكلها شركات أجنبية برءوس أموال أوروبية، وأعضاؤها من الأوروبيين، وعقود تأسيسها التي صدرت بها الأوامر العالية لم تراع فيها مصالح الأهلين في شيء ... فهذا الإسراف في رعاية المصالح ورءوس الأموال الأوروبية، وتمكينها من التغلغل في كيان البلاد المالي والاقتصادي، كل ذلك كان له أثره في تبرم الناس بالوزارة، فضلا عن أنه كان في ذاته عملا غير صالح ولا يتفق والروح القومية. •••
وزاد الأعيان سخطا على الوزارة إلغاؤها «قانون المقابلة» فانضموا إلى صفوف المعارضة؛ ذلك أن إبطال ما كان يقضي به هذا القانون من إعفائهم من نصف المربوط على أطيانهم من الضرائب، فيه ضياع أموالهم التي أدوها للحكومة مقابل هذا الإعفاء، وقد كان أكثر الأعيان اعتراضا على هذا الإلغاء السيد حسن موسى العقاد، فقدم بذلك مظلمة إلى لجنة التصفية نشرها في جريدة «الريفورم» ووصف فيها هذا العمل بأنه استبداد، وأبان أن قانون المقابلة، وما احتواه من المزايا لدافعي الضرائب مقدما هو عقد لا يجوز نقضه من جانب الحكومة وحدها، وأن الأهالي قد احتملوا شدائد كثيرة في أداء المقابلة، وباعوا في هذا السبيل مصوغاتهم وأملاكهم واستدانوا الديون الفادحة، فكان لزاما على الحكومة أن ترد جميع ما أداه المالكون إلى أصحابه، بحيث لا يسري مرسوم الإلغاء إلا بعد رد ما أخذته الحكومة. فرأى رياض باشا أن في تقديم هذه المظلمة إلى لجنة التصفية ونشرها في جريدة «الريفورم» معنى التشهير بالحكومة وإثارة الأفكار عليها، وبخاصة لأن العقاد دعا الأهالي إلى توقيع عرائض بهذا المعنى، فأثر بالقبض عليه وقدمه للمحاكمة، فحكم عليه مجلس مصر الابتدائي بالحبس سنتين، وشدد المجلس الاستئنافي هذا الحكم، فزاده إلى خمس سنوات. ولم تكتف الحكومة بذلك، بل قضى «مجلس الأحكام» بنفيه إلى فازوغلي بأقاصي السودان، ونفذ فيه الحكم وسيق إلى فازوغلي ... ولم يفرج عنه إلا في عهد وزارة شريف باشا بعد إنشاء مجلس النواب، يضاف إلى ذلك صدور قانون التصفية - يوليو سنة 1880 - فقد ظهر فيه من التحيز للدائنين الأجانب والإجحاف بالأهلين ما زاد الناس كرها لوزارة رياض باشا، وزاد الأعيان والملاك سخطا عليها لما فرضته عليهم من زيادة ضريبة العشر على أطيانهم.
ومن مظاهر سياسة الحكومة الاقتصادية إنقاص عدد الجيش توفيرا للنفقات ... وهذا النقص كان له سبب آخر يتصل بالحالة السياسية، وهو صدور الفرمان السلطاني لتوفيق باشا مشتملا على إنقاص عدد الجيش العامل إلى 18 ألف جندي، ولكن السبب الاقتصادي كان له أكبر الأثر في هذا النقص؛ لأن عدد الجيش نقص إلى اثني عشر ألفا أي إلى أقل مما حدده الفرمان السلطاني، وقد استتبع هذا النقص إحالة كثير من الضباط إلى الاستيداع ووقوعهم في الضيق المالي، ولم تعن الحكومة بتدبير وظائف لهم تعوضهم عما نقص من رواتبهم، فانضموا بطبيعة الحال إلى الناقمين.
وشارك الموظفون ضباط الجيش في شعورهم، إذ رأوا من مظاهر اتساع سلطة الرقيبين الأوروبيين ما يثير في نفوسهم روح السخط والتبرم، وأهم هذه المظاهر ازدياد نفوذ الموظفين الأوروبيين في دور الحكومة، وزيادة عددهم، وتمييزهم بالمرتبات الضخمة ... فاستاء لذلك الموظفون الوطنيون.
وخلاصة ما تقدم أن الثورة العرابية هي من الوجهة السياسية ثورة على الاستبداد والمظالم، ومن الوجهة الاقتصادية ثورة على التدخل الأوروبي في شئون مصر المالية، وعلى النظم الاقتصادية التي كانت تعانيها البلاد قبل الثورة.
الأسباب الاجتماعية
إن حالة المجتمع المصري كانت تؤهله بلا مراء - عند أول دعوة - لتلبية نداء الحرية والثورة ... وذلك بفضل انتشار التعليم من عهد محمد علي، فالمدارس التي أسسها والبعثات العلمية التي أوفدها إلى الخارج، وقد خرجت طبقة مثقفة نالت حظا موفورا من العلوم، وليس يخفى أن العلم من شأنه أن يهذب النفوس وينير البصائر، وينهض بالعقول والأفكار، ويسمو بها إلى التماس الرقي والتقدم، ويعرفها معاني الحرية والمساواة والحقوق الإنسانية، ويهيب بها إلى محاكاة الأمم الحرة في الثورة على الاستبداد. فالنهضة العلمية كان لها فضل لا ينكر في توجيه أنظار المثقفين إلى التبرم بالاستبداد والتطلع إلى الحرية والدستور.
واقترنت النهضة العلمية بنهضة في الأدب، قوامها الشعراء والكتاب من أدباء ذلك العصر، والأدب بما يطبع في نفس الأديب من التطلع إلى المثل العليا يمهد للنهضات الوطنية ويغذيها، ويحدو الأمم إلى الاستمساك بالحرية والكرامة الإنسانية، والنفور من الذل وإباء الضيم والمهانة ...
فالعلوم والآداب كان لها أثرها في تمهيد الأفكار لقبول الثورة وفي الدعاية لها، وقد كان لقصائد الشعراء ومقالات الأدباء وما كان يلقيه الخطباء في المحافل والمجتمعات أثر كبير في التحريض على الثورة.
وكانت الصحافة من العوامل القوية في ترقية الأفكار بما تكتب عن الشئون العامة في مصر والخارج، وما تنشر من المقالات عن مختلف الأحوال السياسية والاجتماعية، وما تحوي من التنويه بالأعمال النافعة وانتقاد الأعمال الضارة ... فكان لها فضل كبير في تفتيح أذهان الناس، وتبصيرهم بالحقائق، وتهذيبهم وتثقيفهم، وكان لصحف المعارضة أثرها في إحراج مركز الحكومة وتبرم الناس بها، وقد استهدفت هذه الصحف للإنذار والتعطيل كما تقدم، فكان الاضطهاد يكسبها عطف الناس ويزيدهم تعلقا بها، وتأييدا لآرائها وأفكارها الحرة.
ويتصل بالأسباب الاجتماعية تأثير السيد جمال الدين الأفغاني في المجتمع المصري، فقد ظهرت على يده بيئة استضاءت بأنوار العرفان، وارتوت من ينابيع العلم والحكمة، وتحررت عقولها من قيود الجمود والأوهام، وبفضله خطا فن الكتابة والخطابة في مصر خطوات واسعة، ولم تقتصر حلقات دروسه ومجلسه على طلبة العلم، بل كان يؤمها كثير من العلماء والموظفين والأعيان، وكان يحمل بين جنبيه روحا كبيرة ونفسا قوية، تزينها صفات وأخلاق عالية، فأخذ يبث في النفوس روح العزة والشهامة، ويحارب روح الذلة والاستكانة، وكان بنفسيته ودروسه وأحاديثه ومناهجه في الحياة، مدرسة أخلاقية رفعت من مستوى النفوس، وكانت على مر الزمن من العوامل الفعالة للتحول الذي بدا على الأمة، وانتقالها من حالة الخضوع والاستكانة إلى التطلع للحرية والتبرم بنظام الحكم القديم ومساوئه، والسخط على تدخل الدول في شئون البلاد.
ولئن نفي جمال الدين من مصر في أوائل حكم توفيق، فإن روحه ومبادئه وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري وهيأته للثورة، ولا غرو فكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه أو المتأثرين بتعاليمه، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزا أن يمدها بآرائه الحكيمة وتجاربه الرشيدة، فلا يغلب عليها الخطل والشطط، ولكن شاءت الأقدار والدسائس الإنجليزية أن ينفى السيد من مصر، وهي أحوج ما تكون إلى الانتفاع بحكمته وصدق نظره في الأمور. (2) عرابي يتزعم الجيش
كان ضباط الجيش يتطلعون إلى رجل منهم يتولى زعامتهم وتوحيد كلمتهم للمطالبة بحقوقهم المشروعة ... فوجدوا في عرابي ذلك الزعيم، ولقد كانت صفات الزعامة متوافرة فيه بالنسبة للظروف التي عاصرها، فقد كان ذا شخصية قوية جذابة تؤثر فيمن حوله وتجتذبهم إليه، وهذه أولى صفات الزعامة، كانت أقواله تقع من نفوس الضباط والسامعين موقع الإقناع، وهذا مظهر لقوة شخصيته، ولولا أنه ذو شخصية كبيرة قوية لما استطاع أن يجمع الجيش وضباطه على محبته، والانضواء تحت لوائه، والائتمار بأوامره.
ويمكن تحديد سنة 1881 لبدء زعامته العسكرية على معظم ضباط الجيش ... في هذه السنة كان عثمان رفقي يتولى وزارة الحربية، وكان وحده من أسباب ظهور الثورة العرابية، وآخر ما وقع منه - مما عجل بالثورة - أنه أصدر أمرا بنقل الأميرالاي عبد العال حلمي حشيش بك - أحد زعماء الثورة فيما بعد - قائد آلاي طرة إلى ديوان الجهادية (وزارة الحربية) وجعله معاونا بها، وفي هذا تنقيص من درجته ومركزه، وأمر بتعيين خورشيد نعمان بك بدله، وهو من أصل شركسي، وأصدر أمرا آخر بفصل أحمد عبد الغفار بك قائمقام آلاي الفرسان، وعين بدله ضابطا شركسيا.
علم عرابي بهذه الأوامر في 16 يناير سنة 1881 قبل نشرها، فثار لها، وقال لمن بلغه نبأ هذه الأوامر: «إن هذه لقمة كبيرة لا يقوى عثمان رفقي على هضمها.» وذهب إلى داره ساخطا محنقا، فألقى كثيرا من الضباط ينتظرونه ليتشاوروا معه فيما يجب عمله، إذ كانوا قد بلغهم أيضا نبأ تلك الأوامر، فأخذوا يتداولون البحث في الموقف، فاتفقت كلمتهم على اختيار عرابي رئيسا لهم، وعهدوا إليه في العمل للتخلص من هذه الحالة، وقرروا أنهم يتضامنون معه في تنفيذ ما يأمر به، وأقسموا على السيف والمصحف أنهم يفدونه ويفدون الوطن بأرواحهم، واتفقوا على كتابة عريضة إلى رياض باشا يطلبون فيها عزل وزير الحربية عثمان رفقي باشا.
الثورة في مرحلتها الأولى
(1) فاتحة الثورة العرابية
كتب عرابي العريضة وتلاها على الحاضرين، فوافقوا عليها ووقع عليها كما وقع معه الأميرالاي علي فهمي بك والأميرالاي عبد العال حلمي بك، ووضع المجتمعون الخطط الكفيلة بالمحافظة على النظام عند قيامهم بما اعتزموه، والمحافظة على حياتهم إذا أرادت الحكومة أن تبطش بهم.
يعد هذا الاجتماع فاتحة الثورة العرابية؛ لأن تعاهد كبار الضباط على مقاومة تنفيذ الأوامر العسكرية، والجهر بمناصبة وزير الحربية العداء والمطالبة بعزله، واختيارهم عرابي رئيسا لهم في هذه الحركة، وحلفهم اليمين على التضامن وإياه، ومفاداته ومفاداة الوطن بأرواحهم ... كل ذلك معناه التمرد والخروج على النظام وتحدي الحكومة والاستهانة بهيبتها وقوتها، أو بعبارة أخرى هي الثورة على الحكومة.
وفي غداة ذلك اليوم - أي في 17 يناير سنة 1881 - ذهب الضباط الكبار الثلاثة: أحمد عرابي بك، وعلي فهمي بك، وعبد العال حلمي بك إلى وزارة الداخلية، وقدموا العريضة إلى خليل يكن باشا وكيل الوزارة، وطلبوا إليه تقديمها إلى رياض باشا ... فذهب إليه، ثم عاد وأخبرهم بأن رياض باشا يطلب أن يقابلوه، فلما قابلوه وعدهم بالنظر في الأمر، ولم تبد منه علامات السخط والغضب.
وبعد أسبوع من هذه المقابلة ذهبوا إلى داره، وقابلوه ثانية وسألوه عما تم في أمر العريضة، فأجابهم متهددا متوعدا، وقال لهم: إن تقديم مثل هذه العريضة يؤدي إلى الهلاك ...
فلم يتراجع عرابي وصاحباه أمام هذا التهديد، وأصروا على طلباتهم، وأبان عرابي أن ما يطلبونه هو حق وعدل. وانتهى الحديث بأن أخبرهم بأنه سينظر في الأمر، وانصرفوا على ذلك. (1-1) واقعة قصر النيل
اجتمع مجلس الوزراء يوم 31 سنة 1881 في سراي عابدين برياسة الخديو، وبحث في أمر هذه العريضة ... فاستقر الرأي على وجوب محاكمة الضباط الثلاثة، والقبض عليهم لتقديمهم إلى المجلس العسكري، وأخذ عثمان باشا رفقي على عهدته تنفيذ القرار، وأن يكون مسئولا إذا حصل ما يخل بالأمن، ولم يعرف الضباط الثلاثة ما قرره مجلس الوزراء في شأنهم، ولم يخطرهم عثمان باشا رفقي بأمر القبض عليهم ... بل نفذه بطريقة ملتوية لا تدل على شعور الحكومة بهيبتها وسلطانها، وذلك أنه تحايل عليهم وأرسل إليهم في مساء ذلك اليوم تذاكر، يدعوهم فيها إلى الحضور لديوان الوزارة بقصر النيل صباح اليوم التالي بحجة المداولة معهم في ترتيب الاحتفال بزفاف الأميرة جميلة هانم شقيقة الخديو ...
فأحس عرابي ورفيقاه المكيدة المدبرة لهم؛ لأنه لم تجر العادة بأن يستدعي وزير الحربية ثلاثة من أمراء الآلايات للمذاكرة في مثل هذا الشأن ... فاستعدوا للدفاع عن حياتهم، واتفقوا على أن يلبوا الدعوة وأن يذهبوا إلى قصر النيل، على أن يصحبهم بعض ضباط الآلاي الأول - آلاي الحرس - وكان مقره بقشلاق عابدين - كعيون يرقبون الحالة عن بعد، لكي يبادروا إلى إبلاغ إخوانهم بما يقع إذا أصاب الضباط الثلاثة مكروه. •••
وصل عرابي وصاحباه إلى قصر النيل، فألفوه غاصا بكبار الضباط الموالين للحكومة، وكان المجلس العسكري منعقدا، فتلا على الضباط الثلاثة الأمر القاضي باعتقالهم ومحاكمتهم، ثم نزعت منهم سيوفهم إيذانا بإنفاذ الأمر ... وكان ذلك حوالي الظهر، وسيقوا إلى قاعة السجن بقصر النيل بين صفين من الضباط الشراكسة، وتقاذفت عليهم ألفاظ الشماتة والسباب، ووقف عليهم الحرس وبأيديهم السيوف مسلولة، وعين عثمان باشا رفقي ثلاثة ضباط بدلهم على آلاياتهم الثلاثة.
فلما علم عيون الآلاي الأول باعتقال الضباط الثلاثة، أسرعوا بالعودة إلى مركز الآلاي بقشلاق عابدين، وأنهوا إلى ضباطه ما وقع ... فهاج الضباط جميعا واعتزموا إنقاذ إخوانهم، ونهض البكباشي محمد عبيد - بطل واقعة التل الكبير - مناديا الجند النداء العسكري بالاحتشاد والتأهب للمسير. فاعترضه قائم مقام الآلاي خورشيد بك بسمي، وسأله عن سبب هذا النداء فلم يجبه بكلمة، وأمر بعض الجنود باعتقاله في إحدى قاعات القشلاق، واصطف الجنود بأسلحتهم، وساروا بقيادة محمد عبيد إلى قصر النيل حيث الضباط المعتقلون ...
وبينما كان الجند يستعدون للخروج من القشلاق، علم الخديو بهذه الحركة، وشاهدها بنفسه من سلاملك السراي المقابل للقشلاق، فأمر الفريق راشد باشا حسني سر ياوره بأن يتوجه إليهم لوقف الحركة، فلم تجد هذه الوساطة نفعا، فاستدعى الخديو الضباط فلم يحضر أحد.
سار جنود الآلاي الأول من قشلاق عابدين إلى قصر النيل ... فلما بلغوه وضع البكباشي محمد عبيد الحصار حوله، وأمر بقية الجند بالهجوم على الديوان، فهجم الجنود حاملين بنادقهم، وفي أطرافها الرماح «السونكي» واقتحموا الديوان صائحين صاخبين، فوقع الرعب في نفوس القواد والضباط الموجودين بالديوان، وفي مقدمتهم عثمان باشا رفقي وزير الحربية، وبادروا إلى الفرار. أما عثمان رفقي فقد فر من إحدى النوافذ إلى «ورشة» الترزية يطلب النجاة لنفسه. وأخذ الجند يبحثون عن الضباط المعتقلين، وتفرقوا لذلك في جميع الغرف والجهات، وكسروا الأبواب والشبابيك وكل ما عاقهم عن السير، إلى أن وصلوا إلى مقر الضباط الثلاثة، ففك البكباشي محمد عبيد سراحهم.
وخرج الضباط الثلاثة من قصر النيل ظافرين، وساروا يحيط بهم الجند إلى قشلاق الآلاي الأول بميدان عابدين، وكان عرابي وصحبه على عهد مع ضباط الآلايات الثلاثة أن يتضامنوا معهم، ويبادروا إلى نجدتهم إذا حل بهم مكروه. •••
ولم يكد يعلم آلاي طرة، الذي كان على رأسه عبد العال حلمي، بما حل بعرابي وصاحبيه حتى هب لنجدتهم ... فلما حضر الأميرالاي الجديد خورشيد بك نعمان ليتسلم الآلاي بصحبة خورشيد باشا طاهر وأحمد بك حمدي ياور الخديو، بادر البكباشي خضر أفندي خضر إلى اعتقالهم، ووضعهم تحت الحفظ في غرفة القائم مقام فرج بك الدكر واعتقله معهم ... ثم أمر بتوزيع الأسلحة والذخيرة على الجنود، وسار بهم إلى قصر النيل لإنقاذ الضباط الثلاثة، وقد شعر ناظر محطة طرة بهذه الحركة فأرسل تلغرافا إلى الخديو ينبئه بها، فأوفد الخديو أحد ياورانه لمقابلة خضر وإخباره بما تم من الإفراج عن الضباط الثلاثة، وإقناعه بالرجوع من حيث أتى وإطلاق سراح الضباط الذين سجنهم بطرة ... فلم يلق الياور إليه أذنا صاغية، واستمر الجند سائرين بقيادة خضر أفندي خضر، وسار بهم إلى ميدان عابدين لكي يشاهدوا الضباط الزعماء بعد الإفراج عنهم، فلما وصلوا إلى ميدان عابدين، استقبله الآلاي الأول بالتعظيم العسكري وعزف الموسيقى، وتقدم ضباط آلاي طرة إلى عرابي وصاحبيه فهنئوهم بالسلامة وتعانقوا فرحين مستبشرين ... واحتشد الناس في الميدان لمشاهدة هذا المنظر الذي لم يألفوه من قبل، وعندئذ وقف عرابي خطيبا بأعلى صوته، وأثنى على إخلاص الضباط والجند لإنقاذه وإنقاذ صاحبيه من السجن. (1-2) أول انتصار لعرابي
كان احتشاد جنود الآلايين بأسلحتهم في ميدان عابدين كافيا لإيقاع الاضطراب في نفس الخديو وحاشيته، وقد استدعى وزراءه وخاصة رجاله حين بلغه نبأ ما حدث في قصر النيل، وتشاوروا فيما يصح عمله إزاء هذه الحركة ... فأشار محمود سامي باشا البارودي - وكان وقتئذ وزيرا للأوقاف - بإجابة طلبات الجند، وقال: إني أراهم مطيعين بدليل هتافهم باسم الخديو، ولم ير الخديو بدا من الإذعان، واتفق الرأي على أن يذهب البارودي باشا يصحبه خيري باشا رئيس الديوان الخديوي؛ ليقابلا عرابي وصاحبيه ويتعرفا ما يطلبون، فقابلاهم وعرفا منهم أنهم يطلبون عزل عثمان باشا رفقي، ويلتمسون العفو عنهم؛ لأن عثمان باشا هو السبب فيما حدث، فعاد البارودي وخيري باشا إلى الخديو وعرضا عليه حديثهما مع الضباط الثلاثة، فأمر باستدعائهم فحضروا والتمسوا منه العفو فعفا عنهم.
واستقال عثمان باشا رفقي، وأصدر الخديو أمره بإسناد وزارة الحربية إلى البارودي مع بقاء وزارة الأوقاف في عهدته ... فتم بهذا التعيين ثلاثة انتصارات نالها الحزب العسكري في يوم واحد: أولها إطلاق سراح الضباط الثلاثة، وثانيها عزل عثمان باشا رفقي الذي كان خصما لهم، ثم إسناد وزارة الحربية إلى نصير لهم، ومن هنا توطدت صلات الثقة بين البارودي والضباط، إذ برهن على أنه كان مؤيدا لهم داخل مجلس الوزراء، وظل عضدا لهم وموضع ثقتهم طوال عهد الثورة. (1-3) عرابي والقناصل
وفيما كان عرابي على رأس هذه الحركة أرسل إلى قنصلي إنجلترا وفرنسا كتابا يسوغ فيه عمله، ويبسط فيه شكواه من تصرف الحكومة، وكان البارون «دي رنج» قنصل فرنسا العام يعطف على مطالب الضباط، وينكر على وزير الحربية تصرفاته، وقد عرف في الجملة بالعواطف الطيبة نحو مصر ومناوأته المطامع الإنجليزية فيها.
وقد نقم الخديو ورياض باشا من البارون «دي رنج» عطفه على الضباط الوطنيين وتأييده إياهم ... فأرسل الخديو باتفاقه مع رياض إلى المسيو جول جريفي رئيس جمهورية فرنسا رسالة يشكو فيها مسلك القنصل العام. وكانت نتيجة هذا المسعى استدعاء البارون «دي رنج» إلى فرنسا في 22 فبراير سنة 1881 ثم نقله من منصبه، فغادر مصر على كره من الضباط الوطنيين في أول مارس سنة 1881، وكان نقله انتصارا لوزارة رياض باشا، وقد اغتبط الساسة البريطانيون لهذا النقل؛ لأنهم كانوا يرون في البارون «دي رنج» عاملا مناوئا لهم ومؤيدا للحركة الوطنية في مصر.
وعين بدله المسيو سنكفكس معتمدا وقنصلا عاما لفرنسا في مصر، فحضر إلى القاهرة وقدم أوراق اعتماده إلى الخديو في 26 يوليو سنة 1881 بسراي رأس التين.
أراد الخديو بعد انقضاء بضعة أيام على واقعة قصر النيل أن يجتذب إليه قلوب ضباط الجيش، ويزيل تأثير الحادثة من نفوسهم ... فاستدعى إلى سراي عابدين يوم 12 فبراير سنة 1881 ضباط آلايات العاصمة من رتبة بكباشي فما فوقهم، وحضر الاجتماع وزير الحربية «البارودي» وكبار رؤساء الجيش من رتبة فريق ولواء، فلما انتظم عقدهم، ألقى الخديو فيهم خطبة ضمنها العفو عما حدث يوم أول فبراير، وأكد لهم أنه لم يبق في نفسه أثر منها، وطلب إليهم احترام النظام وطاعة الحكومة.
فقابل الضباط هذه الخطبة بإظهار الولاء للخديو والامتثال للأوامر والقوانين والنظم العسكرية، وانصرفوا داعين شاكرين.
وكان الظن أن مثل هذه الخطبة ترد النظام إلى الجيش، وتدعو الضباط إلى الاطمئنان إلى نيات الحكومة نحوهم ... إذ لم يكن خافيا أنهم كانوا يتوجسون شرا من ناحيتها، ويتوقعون أن تتربص بهم الدوائر للاقتصاص منهم إذا أمكنتها الفرصة، وبذلك تزداد هوة التنافر اتساعا بينهم وبين الحكومة، فأراد الخديو بهذه الخطبة أن يدخل الطمأنينة إلى نفوسهم ويدعوهم إلى الثقة بمقاصد الحكومة، ولكن الحوادث جاءت على خلاف ما كان يظن ويتوقع. (1-4) بعد واقعة قصر النيل
لم يطمئن عرابي وصحبه على مركزهم، وعلى حياتهم بعد واقعة قصر النيل ... فبالرغم من عزل عثمان باشا رفقي، وتعيين وزير حربية يعطف عليهم ويؤيدهم، فإنهم كانوا يخشون على حياتهم أن تمتد إليها يد الاغتيال انتقاما مما فعلوا، وأقاموا لهم حرسا من المخلصين لأشخاصهم، وزادوا من عدد الخفراء لحراسة منازلهم ليلا، واختاروا ضباطا من خاصة أوليائهم لنقل المراسلات السرية بينهم، وصاروا إذا انتقلوا من مراكز آلاياتهم إلى بيوتهم اصطحب كل منهم حرسا من العساكر المسلحين للمحافظة على حياتهم، يلازمونهم حتى يعودوا إلى مراكزهم، وأكثروا من الاجتماعات السرية يعقدونها ليلا في منزل عرابي، ويدعون إليها من يثقون بإخلاصهم من الضباط للتشاور فيما يفعلون، وتنفيذ ما يستقر عليه رأيهم.
وقد أسفرت هذه الاجتماعات عن تقديم عريضة من جميع الآلايات بالمطالب الآتية:
أولا:
صرف نقود بدل التعيينات التي تؤخذ من مخازن الجهادية وتباع للآلايات، وذلك حفظا لحقوق العساكر من التلاعب بها، والخيانة التي كانت فاشية في المأمورين ورؤسائهم، وخصوصا في صنف المسلي «السمن»، فإنه كان يصرف للآلايات من الشحم الذي يصنع في تريستا، ويأتي في برامل باسم «مسلي»، وكان كريه الطعم والرائحة لا يصلح للطعام، ولكن لم يكن أحد ليجسر على المجاهرة بالحقيقة، لما للتجار المتعهدين بتوريده من المداخلة مع الرؤساء.
ثانيا:
عدم استقطاع مرتبات الضباط والعساكر في مدة الأجازات التي تعطى لهم إذا لم تتجاوز ثلاثين يوما، وإذا تجاوزت هذه المدة يستقطع نصفها فقط.
ثالثا:
يؤخذ من الضباط والعساكر نصف الأجرة في السكك الحديدية.
رابعا:
إبطال ورشة الترزية لما فيها من التلاعب والغبن الفاحش، وصرف أثمان الملابس نقدا لتشترى من الخارج بمعرفة الآلايات.
خامسا:
عدم جواز الترقي للعسكرية ما لم يسن لذلك قانون خاص يجري العمل على مقتضاه.
سادسا:
زيادة مرتبات جميع الضباط والعساكر بالنسبة لارتفاع أسعار الحاجات عن قيمتها من منذ ثمانين سنة؛ أي حين إنشاء العسكرية وترتيب تلك المرتبات الدنيئة.
سابعا:
سن قانون يشمل حالات الترقي والتقاعد والمكافآت والأجازات وتسوية معاش الاستيداع.
ثامنا:
إرجاع أحمد بك عبد الغفار قائم مقام السواري، الذي فصله عثمان باشا رفقي من الخدمة من غير محاكمة ولا سبب يوجب ذلك.
أجابت الحكومة معظم هذه الطلبات ... فعنيت وزارة الحربية بإصلاح مأكل الجيش، وصار يطبخ لهم في معظم الوجبات اللحم وأنواع الخضر والأرز باللبن والحلوى، بدلا من العدس والفول اللذين كانا طعامهم الدائم، وصار يعطى للجنود السودانيين شراب «البوظة» المصنوعة من الشعير كمألوف عادتهم، وتصرف لأولادهم ونسائهم جرايات زيادة عن جرايات الجند.
وعرض محمود سامي باشا البارودي على مجلس الوزراء وجوب سن القوانين اللازمة لإصلاح حالة الجند، وزيادة رواتب الضباط والجنود. وتألفت لجنة للنظر فيما يجب إجراؤه من التعديلات والإصلاحات في النظم والقوانين العسكرية، ورفع رياض باشا إلى الخديو في 20 أبريل سنة 1881 تقريرا بذلك أشار فيه إلى طلب ناظر الجهادية - وزير الحربية - زيادة رواتب الضباط والجند.
وبناء على هذا التقرير صدر مرسومان بتاريخ 20 أبريل سنة 1881 / 21 جمادى الأولى سنة 1298ه) يقضي الأول بزيادة رواتب الضباط والجنود.
ويقضي المرسوم الثاني بتأليف لجنة (قومسيون) برياسة وزير الحربية والبحرية للنظر والبحث في القوانين والنظم العسكرية المعمول بها وقتئذ، وإدخال كل ما ترى لزومه من التعديلات والإصلاحات فيها، وما ينبغي إجراؤه من الإصلاح في المدارس الحربية، وإعداد مشروع قانون بشروط الدخول في سلك الضباط وتعيينهم وترقيتهم واستيداعهم ورفتهم وتقاعدهم، وتسوية حالة الضباط المحالين إلى الاستيداع.
فأخذت اللجنة توالي الاجتماع لإعداد القوانين العسكرية الجديدة، وهي القوانين التي صدرت في عهد وزارة شريف باشا كما سيجيء بيانه. (1-5) الاحتفال بزيادة الرواتب
أقام محمود سامي باشا البارودي بعد صدور هذين المرسومين حفلة في ديوان الجهادية - وزارة الحربية - بقصر النيل ابتهاجا بزيادة رواتب الضباط والجند وتأليف لجنة إصلاح النظم العسكرية، وكأنما أراد أن يعلن عن أول ثمرة لتقلده وزارة الحربية ليكسب ثقة الضباط والجند ويزداد بهم نفوذا وسلطانا.
استكملت هذه الحفلة مظاهر الرونق والفخامة، إذ أعد فيها البارودي مأدبة فاخرة دعا إليها الوزراء وعلى رأسهم رياض باشا، ثم المراقبين الأوروبيين، وضباط الجيش ... ولما تكامل جمعهم جلسوا إلى موائد الطعام فتناولوا المآكل الفاخرة.
ثم قام محمود سامي باشا البارودي وألقى خطبة، نوه فيها بفضل الحكومة، وأعرب عن فضل الخديو فيما تقرر من الإصلاحات، ودعا الضباط إلى الخضوع لأوامر الحضرة الخديوية، ولعله أراد بهذه الخطبة أن يزيل من الأذهان تأثير التمرد الذي وقع من الجيش يوم أول فبراير سنة 1881، وهاك نص الخطبة:
هذه ليلة أنس دعتنا إلى الاجتماع فيها دواعي المحبة والائتلاف، تذكارا لمآثر الحكومة الخديوية الجليلة، التي وجهت عزيمتها إلى إصلاح أحوال الأهالي جميعا، وتعميم العدل فيهم وإيصال كل إلى ما يستحق، وقد رأينا في هذا الزمن القليل من عهد ما استلم خديوينا المعظم زمام الحكومة تغييرا مهما، إذ تبدل فيه العسر باليسر، والظلم بالعدل، والنقم بالنعم، وتقدمت فيه البلاد إلى نجاحها تقدما سريعا، وما ذلك إلا من حسن مقاصد هذا الجناب وطهارة سجاياه، خصوصا وأنه اصطفى لمساعدته على مقاصده الجليلة رجلا غيورا عالي الهمة زكي النفس، وهو حضرة دولتلو رياض باشا، فلم يأل جهدا في العمل، ولم يقصر في تذليل المصاعب باتحاده مع حضرات رفقائه الكرام حتى وصلنا إلى هذه الغاية التي لا ينكر أحد حسنها. ولا ريب في أن هذه نعم يجب علينا استبقاؤها وحفظها والاستزادة منها، ولن يكون ذلك إلا إذا قرناها بالشكر عليها، فقد قالوا: الشكر سياج النعم، وحقيقة الشكر أن يكون جميعنا مخلصا للحكومة في خدمته قائما بواجباته لها، معضدا لجميع مقاصدها، خاضعا لأوامر الحضرة الخديوية التي هي السبب في هذا الخير العظيم؛ وعلى ذلك لا بد أن ننادي جميعا: فليحي الجناب الخديوي أطال الله بقاءه!
ثم قام بعده رياض باشا وارتجل خطابا وجهه إلى الضباط، جاء فيه:
ليلة سرور، تجلى فيها الصدق والإخلاص، واجتمعت فيها القلوب على قصد أداء الشكر للجناب الخديوي، غير أن تذكار محامده ومآثره الجليلة، يجعل الشكر موضعا يقع موقع الفرض الشرعي.
إن محسنات العدل ووجوه الإصلاح التي امتازت بها مدة حكم الجناب الخديوي في هذه الأوطان أمر معلوم، يعد تعدادها من قبيل تحصيل حاصل ... وأنتم معاشر الضباط تعلمون ذلك حق العلم، فلا حاجة إلى بسط الكلام فيه، ومن أراد توضيح الحقيقة، فليقارن بين الحالة الحاضرة وما قبلها بسنتين يظهر له الفرق الجلي والبون التام ما بين الحالتين، وأن ضباط العسكرية وهم من أشرف أعضاء الحكومة ممن شملتهم هذه المحسنات وعمتهم فوائد الإصلاح. ومن أهم وجوهه التي شهدناها في عصر الخديو الجليل تقرير الأمن على الأرواح والأموال، وحفظ الحقوق الشرعية وأداؤها لأربابها، ويلزم لدوام ذلك ثبوت الطمأنينة ورسوخ قاعدة الراحة العمومية، ومدار ذلك وأساسه انتظام حال العسكرية.
وقد رأيتم من أنفسكم أن حقوقكم وصلت إليكم، وأنتم روح الضبط والربط، وأنتم قوة الحاكم وآلته المنفذة، فإذا بدأ الحاكم يحسن الالتفات ونظر إليكم بعين الرأفة والرحمة، فعليكم كما أخذتكم ما لكم، أن تؤدوا ما عليكم، وهو طاعة ولي الأمر الذي هو السبب الأعظم في جميع هذه الخيرات التي شملتنا، بل هو الذي أنعش في هذا الوطن روح الحياة بعد أن أشرف على الموت والدمار، فعليكم أن تكونوا دائما على قدم الاستعداد لتنفيذ أحكامه والمحافظة على أوامره ونواميسه العادلة، وعلينا جميعا أن نبتهل إلى الله تعالى بدوام بقائه وتأييد عزه، وأن ينادي لسان الصدق منا: فليعش الجناب الخديوي! (2) خطبة عرابي بك
وبعد أن جلس رياض باشا قام أحمد عرابي بك (باشا) وأجاب بتحقيق ما قاله وزير الحربية ورئيس الوزراء، وبين ما وصلت إليه الحكومة في ذلك العهد من التقدم، ناسبا جميع ذلك إلى همة الجناب الخديوي واستقامة وزرائه وغيرتهم على المصالح ... ثم قال: إننا على الدوام مطيعون لأوامره السامية، ونحن آلته المنفذة الحاضرة بين يديه يديرها كيف يشاء، وفي أي وقت أراد، وإننا بلسان واحد نسأل الله تعالى أن يحفظه لنا ويطيل بقاءه ويعززه برجال حكومته، ويمتع البلاد بأحكامه العادلة آمين، وكلنا بلسان واحد نسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ الحضرة الخديوية، ويوفق رجال حكومته الكرام لإصلاح البلاد وإسعاد العباد.
عظمت مكانة عرابي في نفوس الضباط والجند بعد انتصاره في واقعة قصر النيل، وزاد من التفافهم حوله أنه تقدم بطلباته سالفة الذكر إلى وزير الحربية الجديد «البارودي» واستجاب البارودي إلى طلباته.
وبذل البارودي جهدا موفقا في إعادة التفاهم بين الحكومة والضباط، على أن هذا التفاهم لم يدم طويلا ... ولم تلبث مظاهر الخلاف وبوادر الشقاق أن باعدت بين الفريقين، وأخذ كل فريق يسيء الظن بالآخر، ويتوجس خيفة من مقاصده وتدابيره. (3) استقالة البارودي
وقعت في شهر يوليو سنة 1881 حادثة بالإسكندرية أعادت القطيعة بين الضباط والحكومة ... وذلك أن الخديو توفيق كان يقضي صيف سنة 1881 بالإسكندرية. وقد حدث يوم 25 يوليو أن عربة لأحد تجار الثغر يقودها سائق أوروبي، كانت تسير في الشارع المؤدي إلى سراي رأس التين، فصدمت جنديا من فرقة المدفعية - الطوبجية - وأصابته إصابة قاتلة، نقل على إثرها إلى المستشفى وتوفي هناك، وكان الخديو وقتئذ بالسراي، فارتأى رفاق القتيل أن يحملوه إليها، ويلتمسوا من الخديو الاهتمام بمعاقبة الجاني.
وكان هذا العمل بالغا في الخروج على النظام؛ لأن مثل هذه الحادثة لا ترفع إلى الخديو، وليس من اللائق بمقامه أن يذهب الجنود إلى قصره حاملين القتيل يعرضونه عليه ويطلبون منه معاقبة الجاني، إذ إن السراي الخديوية ليست مخفر بوليس تحمل إليه جثث القتلى ... وقد دخل الجند السراي في جلبة وضجة، وصاحوا طالبين معاقبة الجاني ... فغضب الخديو من الجند وأمر بطردهم، فانصرفوا. وبعد أيام صدر الأمر بتشكيل مجلس عسكري لمحاكمتهم، فحوكموا وصدرت عليهم أحكام بالغة منتهى القسوة. فقد حكم على الجندي الذي دعا رفاقه إلى حمل القتيل إلى السراي بالأشغال الشاقة المؤبدة، وحكم على رفاقه وهم ثمانية بالأشغال الشاقة لمدة ثلاث سنوات، وبأن يقضوا مدة العقوبة بليمان الخرطوم، ثم يكونوا بعد ذلك من أفراد الجيش بالأقطار السودانية ... وأقر الخديو الحكم ونفذ في المحكوم عليهم وسيقوا إلى السويس، ومنها إلى سواكن ثم إلى الخرطوم.
كان لهذا الحكم الشديد وقع أليم في النفوس، وكتب عبد العال بك حلمي تقريرا إلى وزير الحربية «البارودي» يشكو فيه من قسوته، وذكر بعض الحوادث التي تجري في آلايه، والدسائس التي لا تنقطع.
رفع البارودي هذا التقرير إلى الخديو، فاستاء من ذلك وعده تطاولا على مقامه، وغضب على البارودي واعتزم إقصاءه عن وزارة الحربية، واستدعى الوزراء بالتلغراف من القاهرة ... فوفدوا إلى الإسكندرية واجتمعوا بالخديو في سراي رأس التين، وتداولوا في حادثة الجندي القتيل وما فعل رفاقه، وقرر الخديو أن بقاء البارودي في وزارة الحربية هو منشأ هذه الفوضى، ولا سبيل إلى إعادة النظام إلا بعزله. فلم ير البارودي بدا من أن يقدم استقالته، فقبلت في الحال، وعين الخديو صهره داود باشا يكن بدله، ثم أعقب ذلك صدور أمر آخر بعزل أحمد باشا الدرملي محافظ العاصمة، لما كان معروفا عنه من مشايعته لحركة عرابي، وتعيين عبد القادر باشا حلمي مكانه، وكان مكروها من العرابيين.
قابل عرابي وصحبه هذا التغيير بالانزعاج والتبرم ... وتوجسوا خيفة من عواقب إبعاد البارودي الذي كانوا يطمئنون إليه، ويركنون إلى إخلاصه ، وتوقعوا شرا مستطيرا من تعيين صهر الخديو على رأس الوزارة التي تملك ناصية الجيش، على أنهم كتموا شعورهم وأخذوا يتدبرون ما يجب عليهم عمله للمحافظة على حياتهم بعد هذا التغيير، وذهبوا إلى داود باشا في ديوان الجهادية يهنئونه بمنصبه الجديد، وطلبوا إليه أن يجعل فاتحة أعماله إصدار قوانين الإصلاحات العسكرية التي وضعت في عهد البارودي فوعدهم بذلك ...
ولكنه لم يلبث أن أصدر منشورا أبلغه جميع الآلايات، نهى فيه الضباط عن اجتماعهم في المنازل أو في أحياء المدينة، ونبه على عدم ترك مراكز الآلايات ليلا أو نهارا، وأنذرهم بأنه إذا وجد اثنان منهم أو أكثر مجتمعين معا في المدينة فسيجري ضبطهم بيد رجال الضبطية واعتقالهم، وأن كل من يتكلم منهم مع آخر في الأمور السياسية يسجن بالقلعة، وشدد على الضباط في اتباع هذه الأوامر وأخذ يراقب تنفيذها، فيذهب بنفسه ليلا إلى مراكز الآلايات ليتحقق من تنفيذ أوامره، وبث عبد القادر باشا حلمي محافظ العاصمة الجديد العيون والجواسيس على منازل رؤساء الحزب العسكري، وخاصة عرابي وعبد العال وأحمد عبد الغفار، لمنع اجتماعاتهم، فارتاعوا من ذلك ولزموا آلاياتهم.
كان الغرض من صدور هذه الأوامر تفريق اجتماعات الضباط، إذ كانت هذه الاجتماعات الوسيلة العملية لتبادلهم الآراء والأفكار، وتعاهدهم على التضامن واتحاد الكلمة واتفاقهم على الخطط التي يتبعونها لحفظ كيانهم وتحقيق مطالبهم ... فداود باشا يكن قد حقق بهذه الأوامر المخاوف التي ساورت عرابي وصحبه من تعيينه وزيرا للحربية بدلا من البارودي، واتفق الضباط على رفض تنفيذ هذه الأوامر.
عرابي الزعيم القومي
(1) الزعامة القومية
لم يكن لواقعة قصر النيل أثرها في الجيش فحسب، بل كان لها أثر بالغ في الأمة ... إذ جعلت لعرابي مكانة كبيرة في البلاد، وأخذت الألسنة تلهج باسمه وتمتدح شجاعته وإقدامه. والواقع أن الحادثة في ذاتها وما تنطوي عليه من الجرأة على الحكومة، وإطلاق سراح المسجونين، وعزل وزير الحربية عثمان رفقي الذي كان موضع سخط الضباط الوطنيين، وتعيين وزير يعطف عليهم ويؤيدهم، ثم الإصلاحات التي قام بها البارودي وأخصها زيادة رواتب الضباط والجند ، كل هذه الأعمال جعلت من عرابي زعيما قوميا اتجهت إليه الأنظار لتحقيق أماني الشعب، ولم يكن الجيش يصدر عن أفكار وعواطف تخالف أفكارها ونفسيتها، فهو أول شيء طبقة من صميم الأمة، وضباطه وجنوده متصلون بها بروابط القرابة والدم، وكانوا يمثلون الأمة من هذه الناحية، ومن كونهم جاءوا من مختلف نواحي المديريات.
وكانت المظالم التي شكا منها زعماء الجيش تشبه المظالم التي كانت البلاد تشكو منها، ولم يكن الناس راضين عن الحكومة وسياستها، بل كانوا يتبرمون بمظالم الحكام، وينقمون من الوزارة بسبب استسلامها للنفوذ الأجنبي وخضوعها لأوامر القناصل ومحاباتها الموظفين الأجانب في مصالح الحكومة، وتمييزها إياهم بالرواتب الكبيرة والمزايا العديدة، فلا غرو أن اغتبط الناس بتحقيق مطالب الجيش، وذاع في البلاد اسم عرابي كمنقذ للأمة من المظالم ومحقق للآمال، وقد لقي عرابي عطفا وتأييدا من جميع الطبقات، وفي مقدمتها العلماء والأعيان وعامة البلاد ومشايخ العربان، وأخذ هو يبث أفكاره بينهم ليكونوا عدته وحزبه، ويتأهب للقيام بحركة جريئة توطد نفوذه وسلطانه، ويطمئن بها على حياته وحياة صحبه الموالين له في الجيش ... وهي المطالبة بتأليف المجلس النيابي مع إسقاط وزارة رياض باشا، أو بعبارة أخرى إحداث انقلاب في نظام الحكم، وإحلال حكم الشورى محل الحكم الاستبدادي.
ولما اطمأن عرابي إلى أن الجيش في قبضة يده والأمة تناصره، شرع في إحداث الانقلاب الذي كان يرجوه في نظام الحكم، أو بعبارة أخرى أخذ يتأهب لمتابعة الثورة التي بدأها يوم أول فبراير سنة 1881.
وكانت الحكومة من ناحيتها تدفعه إلى الثورة دفعا، بما بدا منها من الحركات العدائية التي قصدت منها تفريق شمل زعماء الجيش وضباطه تمهيدا للتنكيل بهم ... فهي أولا لم تصدر القوانين العسكرية الجديدة التي وضعت في عهد البارودي، وكان هذا إخلالا بوعدها في تحسين حالة الضباط والجنود، وبرهانا على سوء مقاصدها نحو الجيش، واشتدت هذه المقاصد ظهورا من يوم عودة الخديو من مصيفه بالإسكندرية إلى العاصمة.
لم يكد الخديو يصل إلى العاصمة حتى أخذ ينفذ خطته، وقوامها تفريق وحدات الجيش، ونقل الفرق الموالية للحزب العسكري من العاصمة لكي يستبدل بها فرقا أخرى موالية للخديو ... فأصدر داود باشا يكن وزير الحربية أمرا بأن ينقل الآلاي الثالث من المشاة - آلاي القلعة - إلى الإسكندرية بدلا من آلاي الإسكندرية - الآلاي الخامس - وأن يأتي هذا إلى القاهرة مكانه، فلما علم ضباط الآلاي الثالث بهذا الأمر اضطربوا له وأوجسوا شرا من عواقبه، وذهبت بهم الظنون والوساوس كل مذهب، وخشوا أن يكون غرض الحكومة الانتقام منهم والتنكيل بهم، وسرت بينهم إشاعة أن في نية الحكومة إغراقهم في كوبري كفر الزيات حين سفرهم بالقطار إلى الإسكندرية، وعادت إلى أذهانهم حادثة إغراق الأمير أحمد باشا رفعت بن إبراهيم باشا في كفر الزيات في عهد سعيد باشا.
واتفقت كلمة ضباط الآلاي على رفض الإذعان لأمر وزير الحربية الجديد، والامتناع عن مغادرة القلعة ... فلما جمع قائد الآلاي ضباطه وتلا عليهم أمر الوزير أعلنوا جميعا أنهم يرفضون الإذعان له ... فكتب إلى وزير الحربية يخبره بذلك. واعتزم عرابي وصحبه تحريك الجيش والسير به إلى سراي عابدين في شكل مظاهرة عسكرية؛ لإملاء إرادتهم على الخديو لكي يضعوا حدا للحالة القلقة التي وصلت إليها البلاد، ولإحداث الانقلاب الذي أرادوه. (1-1) واقعة عابدين
اتفقت كلمة زعماء الضباط على إقامة المظاهرة العسكرية أمام سراي عابدين يوم 9 سبتمبر سنة 1881، ووضعوا لها خطة محكمة، وهي حضور جميع آلايات الجيش المرابطة بالقاهرة إلى ميدان عابدين في أصيل ذلك اليوم لتقديم طلبات الأمة إلى الخديو ... وقوامها إسقاط الوزارة، وتأليف المجلس النيابي، وزيادة عدد الجيش، فخاطب عرابي جميع آلايات المشاة والفرسان والمدفعية الموجودة وقتئذ بالعاصمة لموافاته بميدان عابدين في الساعة الرابعة لعرض طلباتهم على الخديو، وأرسل إلى وزير الحربية يبلغه أن يخبر الخديو بأن جميع الآلايات ستحضر إلى ساحة عابدين في الساعة المذكورة «لعرض طلبات عادلة تتعلق بإصلاح البلاد وضمان مستقبلها». وأرسل أيضا إلى قناصل الدول يطمئنهم أن لا خوف على رعاياهم من هذه المظاهرة؛ لأنها مقصورة على أحوال البلاد الداخلية.
احتشد الجيش في الموعد المضروب في ميدان عابدين، وكان أول من حضر إلى الميدان آلاي الفرسان «السواري » بقيادة أحمد بك عبد الغفار، ولعله بادر بالحضور؛ لأنه كان من أول الناقمين من النظام القديم، إذ فصله وزير الحربية الأسبق «عثمان باشا رفقي» لغير ما سبب، ثم جاء عرابي ممتطيا جواده شاهرا سيفه يقود آلاي العباسية، ويصحبه آلاي المدفعية «الطوبجية» يقوده إسماعيل بك صبري ومعه المدافع بذخيرتها، وكانت بطاريات المدافع تتخلل أورطة المشاة أثناء السير. •••
ولما وصل عرابي تفقد علي بك فهمي فلم يجده، وأخبره بعض الضباط أنه وزع آلاي الحرس داخل السراي، ومعه كمية وافرة من الذخيرة، وأنه على استعداد للدفاع عنها إذا مست الحاجة، فبعث إليه من فوره بالملازم محمد أفندي علي ليستدعيه ... فحضر علي بك فهمي، فسأله عرابي عن سبب جعله العسكر على أبواب السراي ومنافذها من الداخل، ولم يكن هذا اتفاقهم من قبل، فطمأنه علي بك فهمي، وقال له: «إن السياسة خداع.» أي أنه لم يفعل ذلك إلا لمخادعة الخديو وأنه باق على عهده، فطلب إليه عرابي أن يسحب آلايه من السراي ويأخذ مكانه في الميدان، ففعل. وأمر بخروج الآلاي من السراي، فخرج منها الجند جميعا واصطفوا إلى جانب إخوانهم في المكان المعين لهم من الدائرة، ثم تم ترتيب آلاي المدفعية والفرسان والمشاة على شكل مربع ... وجاء بعد ذلك الآلاي الثاني من قصر النيل يقوده بعض ضباطه؛ وذلك لامتناع قائده وكبار ضباطه عن الاشتراك في الحركة، ثم جاء الآلاي الثالث قادما من القلعة بقيادة البكباشي فودة حسن، والآلاي السوداني قادما من طرة بقيادة عبد العال بك حلمي، ثم أورطة المستحفظين يقودها القائمقام إبراهيم بك فوزي. وبذلك اكتمل الجيش في ميدان عابدين، إذ لم يبق آلاي من الآلايات المرابطة بالعاصمة إلا حضر إلى الميدان، وبلغ عدد الجنود المحتشدين في الميدان نحو أربعة آلاف بأسلحتهم ومدافعهم، وغصت أطراف الميدان بالجموع الحاشدة من الناس الذين جاءوا ليشهدوا هذا المنظر، وامتلأت نوافذ البيوت المجاورة للسراي وسطوحها بالنظارة، وكان الموقف رهيبا؛ لأن مجيء الجيش متهددا متوعدا، واحتشاده بأسلحته وذخائره ومدافعه أمام السراي الخديوية يحاصرها ويسد المسالك على من فيها ، كل ذلك خليق بأن يفزع الخديو ووزراءه، وخاصة بعد أن رأى أن حرسه الخاص قد تخلى عنه في هذه الساعة العصيبة وانضم إلى الجيش الثائر.
وكان الخديو قد جاء إلى السراي ودخلها من الباب الشرقي وصعد إلى ديوانه، وشهد تجمع الجنود في الميدان، وكان الوزراء قد توافدوا على السراي، وجاء أيضا بعض قناصل الدول والسير أوكلن كولفن المراقب المالي الإنجليزي ... فشهدوا هذا المنظر الذي لم يألفوا مثله في مصر من قبل. (1-2) الخديو في الميدان
وقد ظن الخديو أنه إذا نزل إلى الميدان، فإن ما له من الهيبة التقليدية في نفوس الرعية والجند يصد الجيش وضباطه عن التمرد، فنزل من السراي إلى حيث رؤساء الجند، يصحبه المستر كوكسن قنصل إنجلترا في الإسكندرية - وكان نائبا عن القنصل العام السير إدوار مالت لغيابه بالأجازة - والسير أوكلن كلفن المراقب المالي الإنجليزي، وبعض عساكر الحرس الخاص، فلما توسط الميدان نادى عرابي، فجاءه راكبا جواده شاهرا سيفه، وخلفه نحو ثلاثين ضابطا شاهرين السيوف. فلما دنا من الخديو صاح به أحد رجال الحرس: أن ترجل واغمد سيفك! ... ففعل ثم أقبل عليه ...
وهنا يقول عرابي: إن المستر كوكسن أشار على الخديو بأن يطلق عليه مسدسه، ولكن الخديو لم يعمل بإشارته وقال له: «أفلا تنظر إلى من حولنا من العسكر؟!» أي أنه خشي مغبة العمل بنصيحة المستر كوكسن. والواقع أنها نصيحة لا تنم عن إخلاصه للخديو ولا حسن قصد من المستر كوكسن ... فلو أن الخديو أمكنه أن يقتل عرابي في هذه اللحظة لما أمن على حياته من الجند والضباط.
أما ما فعله الخديو في ذلك الحين، فإنه صاح بالضباط الذين جاءوا خلف عرابي: «أغمدوا سيوفكم وعودوا إلى بلوكاتكم!» ... فلم يفعلوا وظلوا وقوفا في أماكنهم ... وكانوا كحرس خاص لعرابي، فلم يغادروه حتى انتهى الحوار بينهما. (1-3) مطالب عرابي
ولما وقف عرابي أمام الخديو وحياه التحية العسكرية، خاطبه الخديو قائلا: «ما هي أسباب حضورك بالجيش إلى هنا؟»
فأجابه عرابي: «جئنا يا مولاي لنعرض عليك طلبات الجيش والأمة ... وكلها طلبات عادلة!»
فقال الخديو : «وما هي هذه الطلبات؟»
فأجابه: «هي عزل رياض باشا، وتشكيل مجلس النواب، وإبلاغ عدد الجيش إلى العدد المعين في الفرمانات السلطانية.»
فقال الخديو: «كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا خديو البلد وأعمل زي ما أنا عاوز!»
فقال عرابي: «ونحن لسنا عبيدا ولا نورث بعد اليوم.»
فلما وصل الحوار إلى هذا الحد، أشار المستر كوكسن على الخديو بالرجوع إلى السراي لافتا نظره إلى سوء المغبة إذا زادت المناقشة عن هذا الحد ... فرجع الخديو ومن كان بمعيته إلى داخل السراي.
ثم عاد منها المستر كوكسن ومعه السير أوكلن كولفن، وخاطب عرابي كرسول من قبل الخديو قائلا: «إن عزل الوزارة من اختصاص الخديو، وطلب تشكيل مجلس النواب ليس من حقوق الجهادية، وزيادة الجيش لا لزوم لها لأن مالية الحكومة لا تساعد على ذلك.»
فقال عرابي: «اعلم يا حضرة القنصل أن طلباتي المتعلقة بالأهالي لم أعمد إليها إلا لأنهم أقاموني نائبا عنهم في تنفيذها بواسطة هؤلاء العساكر الذين هم عبارة عن إخوانهم وأولادهم ... فهم القوة التي تنفذ بها كل ما يعود على الوطن بالخير والمنفعة. وانظر إلى هؤلاء المحتشدين خلف العساكر، فهم الأهالي الذين أنابونا عنهم في طلب حقوقهم. واعلم علم اليقين أننا لا نتنازل عن طلباتنا، ولا نبرح هذا المكان ما لم تنفذ.»
فقال القنصل: «علمت من كلامك أنك ترغب في تنفيذ اقتراحاتك بالقوة، وهذا أمر ينشأ عنه ضياع بلادكم وتلاشيها.»
قال عرابي: «كيف يكون ذلك؟ ... ومن ذا الذي يعارضنا في أحوال داخليتنا؟ فاعلم أننا سنقاوم من يتصدى لمعارضتنا أشد المقاومة إلى أن نفنى عن آخرنا!»
قال القنصل: «وأين هي قوتكم التي ستدافع بها؟»
قال عرابي: «عند الاقتضاء يمكن أن نحشد مليونا من العساكر، يدافعون عن بلادهم ويسمعون قولي ويلبون إشارتي.»
فقال القنصل: «وماذا تفعل إذا لم تجب إلى ما تطلب؟»
فقال عرابي: «أقول كلمة أخرى.» فقال القنصل: «وما هي؟»
فقال عرابي: «لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط.»
قبول مطالب عرابي
وهنا انقطعت المخابرات بين الفريقين ... وتداول الخديو في الموقف مع من كانوا بداخل السراي من وزراء وقناصل وغيرهم، ومرت ساعة وهم يتداولون، فرأوا أن لا بد من الإذعان لمطالب الجند لأن الجيش بأكمله يؤيد هذه المطالب، ولم يكن لدى الخديو أية قوة يعتمد عليها، فاستقر الرأي على إجابة هذه المطالب تدريجيا، وأن يبدأ بسقوط الوزارة، فقدم رياض باشا استقالته إلى الخديو، وكان هذا أوج الثورة.
أبلغ عرابي هذا القرار، وطلب إليه الخديو قبول إسناد رياسة الوزارة الجديدة إلى علي حيدر باشا يكن، فلم يوافق على ذلك ... لما له من صلة القرابة بالخديو، فعرض عليه تعيين محمد شريف باشا رئيسا، فقبل ... وكان شريف باشا وقتئذ بالإسكندرية، فاستدعي بالتلغراف للحضور إلى العاصمة.
وبعد أن أجيبت مطالب عرابي توجه إلى الخديو في السراي وشكر له إرضاءه مطالب الأمة، فأقسم الخديو أنه مرتاح لما فعل وأنه وافق على تلك الطلبات بنية صادقة، فكرر عرابي الشكر والدعاء له، وأصدر أمره إلى الآلايات بالرجوع إلى مراكزها ماعدا آلاي طرة فإنه قضى ليلته في ضيافة آلاي الحرس بقشلاق عابدين.
ونشرت «الوقائع المصرية» في عدد الأحد 11 سبتمبر سنة 1881 البيان الآتي:
في ليلة السبت 16 شوال سنة 1298/ 10 سبتمبر سنة 1881 استعفت نظارة دولتلو رياض باشا فقبل استعفاؤها، وكلف دولتلو شريف باشا بتشكيل نظارة جديدة.
وزارة الأمة
حضر شريف باشا إلى العاصمة في اليوم التالي - 10 سبتمبر سنة 1881 - وذهب إليه عرابي في منزله، وهنأه برياسة الوزارة وفاوضه في أشخاص الوزارة الذين يؤلف منهم وزارته.
وكان طبيعيا أن يتدخل عرابي في تأليف الوزارة، ويكون له رأي في أشخاصها؛ لأنه هو الذي توصل بقوة الجيش إلى إسقاط وزارة رياض باشا، واختيار شريف باشا ذاته للرياسة، ولم يكن شريف يجهل ذلك أو يتجاهله، ولكنه كان رجلا أنوفا، مستقل الرأي، حفيظا على كرامته، لا يقبل أن يتلقى الأوامر من غيره، فضلا عن أنه كان يشعر في خاصة نفسه بخطر تدخل الجيش في السياسة، وأنه إذا استمر هذا التدخل وصار قاعدة متبعة في إدارة الشئون العامة، فإنه يؤدي إلى فساد الإدارة الحكومية، ويفضي إلى إنشاء دكتاتورية عسكرية لا يؤمن معها عدل أو حرية أو دستور؛ ولذلك اجتهد في وضع حد للتدخل العسكري في شئون الحكومة.
أما فيما يتعلق باختيار أعضاء وزارته، وتدخل عرابي في هذا الصدد، فإن هذا التدخل جعله يتردد أياما في قبول رياسة الوزارة ... فقد رغب إليه عرابي أثناء المقابلة الأولى في اختيار محمود سامي باشا البارودي للحربية، ومصطفى فهمي باشا للخارجية «لما يعلمه من ميلهما إلى العدل والحرية» - كما قال عرابي - ولم يكن هذا اعتقاد شريف باشا فيهما، وقد صارح عرابي أنه لا يقبل اشتراكهما معه في الوزارة؛ لأنهما حين كانا عضوين في وزارته السابقة التي ألفها في أول عهد الخديو توفيق تعاهدا وإياه، كما تعاهد سائر الوزراء على أنه إذا رفض الخديو الموافقة على تشكيل مجلس النواب، استقالت وزارته على أن لا يشترك أحد من أعضائها في الوزارة التي تخلفها ما لم يقبل الخديو تشكيل المجلس النيابي ... فنكث البارودي ومصطفى فهمي عهدهما. •••
ولكن عرابي كان حريصا على إسناد وزارة الحربية إلى البارودي لما ثبت من ولائه للحركة وإخلاصه للجيش، ولم ينس أنه على يده حين تولى وزارة الحربية أجيبت مطالب العرابيين الأولى، وهي زيادة رواتب الضباط والجند وتأليف لجنة لإصلاح القوانين العسكرية ... وأن الخديوي قد أقصاه بعد ذلك من وزارة الحربية لإخلاصه للحزب العسكري، أما مصطفى فهمي فكان عرابي يميل إلى تقليده وزارة الخارجية لما كان يتظاهر به من الإخلاص للحركة ... على أنه لم يبد منه أي عمل إيجابي يدل على هذا الإخلاص، وكل ما عرف عنه أنه من يوم أن اشترك في مقتل إسماعيل باشا صديق على عهد الخديو إسماعيل ملئ قلبه رعبا من هول هذا الحادث، ونفرت نفسه من استبداد الخديويين، ومن هنا اطمأن له العرابيون. وأراد عرابي أن يقنع شريف بقبول مرشحيه، فقال له: «إن لكل وقت حكما، وإني واثق بحبهما للحرية والعدل والمساواة، وفضلا عن ذلك فإن العسكرية لا تطمئن لغير محمود سامي باشا.»
فعرض شريف باشا على عرابي أن يقبلوه هو وزيرا للحربية، ولعله أراد بذلك أن يراقب بنفسه ابتعاد الجيش عن التدخل في سياسة الدولة، إذا هو تولى وزارة الحربية.
قال مخاطبا عرابي: «أفلا ترضون أن أكون ناظر الجهادية؟ ... فإني قد ربيت معكم في العسكرية.» والحق أن حجة شريف باشا كانت قوية؛ لأنه تلقى التعليم العالي في المدارس الحربية، ونال قسطا وافرا من علومها وفنونها في أرقى مدارس فرنسا، وهو بلا شك أكفأ في هذا الصدد من محمود سامي البارودي ومن القواد العرابيين، ولكن عرابي أصر على اختيار البارودي للحربية، وقال لشريف باشا: «لقد اخترناك رئيسا للوزارة، ولا بد من مراعاة ميول رجال العسكرية.» فأصر شريف باشا على عدم قبول مرشحيه، وانتهت المقابلة الأولى على غير اتفاق.
ومضت أيام وشريف باشا متردد في قبول الرياسة، ولم يكن يستطيع غيره أن يضطلع بأعبائها وينقذ الموقف، وظل في تردده حتى عاهده العرابيون في بيان مكتوب أن لا يتدخل الجيش في السياسة، وأن يكون خاضعا لأوامر الحكومة، فقبل تأليف الوزارة وألفها يوم 14 سبتمبر سنة 1881، ورضي بإسناد الحربية إلى البارودي والخارجية إلى مصطفى فهمي.
وقدم كبراء البلاد وأعيانها إلى شريف باشا بيانا يقرب من بيان الضباط في العبارة ويطابقه في المعنى، وغايته إعلان ثقتهم بصداقته وميلهم جميعا إليه وانعقاد قلوبهم عليه، وأنهم يكفلون له أن لا يقع في المستقبل شيء من الحوادث التي تنسب إلى رجال العسكرية، وواثقون من أمتهم ومن رجال العسكرية الذين هم أبناؤهم وإخوانهم بزوال كل خطر، وانقطاع جميع الأسباب التي توجب الخوف والاضطراب، ويسألون الله تعالى تأييد دولته وتوفيقه لإصلاح أحوال البلاد بعناية الجناب الخديو المعظم.
قبل شريف باشا تأليفه الوزارة بعد أن حصل على هذه العهود والمواثيق، فألفها في 14 سبتمبر سنة 1881. •••
وتعد وزارة شريف باشا «وزارة الأمة» لأنها ألفت تحقيقا لرغبة كبراء البلاد وأعيانها ... وقد ابتهجت الأمة ابتهاجا كبيرا بتأليفها، وعلقت عليها تحقيق آمالها في إقامة النظام الدستوري المقرون بالعدل والاستقامة. وقد اضطلع شريف باشا بالمهمة التي ألقتها الثورة على عاتقه، وأول ما رسم من الخطوط الحكيمة إعادة النظام إلى الجيش ... فإن الثورة باعتبارها ثورة عسكرية قد أخرجت الجيش عن مهمته الأصلية، وهي حفظ النظام والذود عن كيان البلاد، وجعلته أداة سياسية للسيطرة والحكم، وهنا موضع الخطر، إذ بذلك يختل النظام العسكري ويفقد الجيش روح النظام والقيام بالواجب، ويتسرب الانقسام إلى صفوفه، ثم تقع الحكومة فريسة الفوضى ... فبذل شريف باشا جهده في الحيلولة بين الجيش والسياسة، ووافقه عرابي على هذه الخطة في أوائل عهد وزارته، فقد ذهب إليه عقب تأليف الوزارة بيومين على رأس وفد من الضباط لتهنئته بالوزارة وشكره على قبول الرياسة، وألقى أمامه الكلمة الآتية:
إني بلسان قومي أعرض لدولتكم أننا جميعا واثقون بصداقة دولتكم، وخلوص طويتكم لمحبة الوطن وأهله، وجازمون بأن هذه الصفات التي تحلت بها ذاتكم الشريفة تكون وقاية لبلادنا، وسببا في استتباب الراحة العمومية فيها، وإننا نعلم واجباتنا والفروض التي تحتمها علينا وظائفنا العسكرية، وأعظمها حفظ البلاد ومن فيها؛ ولذلك فإننا نقر بأننا القوة المنفذة لما يصدر من الأوامر التي تكون إن شاء الله في خير، وقاضية بإصلاح شئون البلاد، إلا أن لنا حقوقا معلومة يمنحها لنا القانون، ونرجو من الله أن يحسن إلينا بنوالها بمساعدة دولتكم وتوفيق الله تعالى، ونسأله سبحانه أن يوفقنا جميعا لما فيه الخير والصلاح آمين.
وأمن عليه الحاضرون من الضباط ...
فترى في هذا الخطاب أن عرابي تعهد من جديد باحترام النظام، إذ يقر بأن الجيش هو القوة المنفذة لما يصدر إليه من أوامر. (2) خطبة شريف باشا
وقد اغتنم شريف باشا هذه الفرصة لينبه الضباط إلى واجبهم في إبعاد الجيش عن السياسة، فأجاب على كلمة الشكر بقوله: «في علمكم ما قال الأقدمون: آفة الرياسة ضعف السياسة، ولا حكومة إلا بقوة، ولا قوة إلا بانقياد الجنود انقيادا تاما وامتثالهم امتثالا مطلقا.» «كل حكومة عليها فرائض وواجبات، من أهمها صيانة الوطن وحفظ الأمن العمومي فيه ... وهذا وذاك لا يتأتيان إلا بطاعة رجالها العسكرية، فترددي أولا في قبول الرياسة ما كان إلا تجافيا عن تأسيس حكومة غير قوية تخيب بها الآمال، ويزيد معها الإشكال، فأكون عرضة للملامة بين إخواني في الوطن وبين الأجانب، وحيث أغاثتنا الألطاف الإلهية وحصل عندي اليقين بانقيادكم، فقد زال الاضطراب من القلوب، ورتبت الهيئة الجديدة من رجال ذوي عفة واستقامة، فأوصيكم بملاحظة الدقة في الضبط والربط؛ لأنهما من أخص شئون العسكرية وأساس قواها، واعرفوا أنكم مقلدون أشرف وظيفة وطنية ... فقوموا بأداء واجباتها الشريفة، وعلى القيام بأداء كل ما يزيدكم فخرا وسؤددا، وفقنا الله وإياكم.»
فهذه الخطبة على إيجازها، جمعت أسمى ما يقوله زعيم سياسي صائب الرأي بعيد النظر في الظروف التي تألفت فيها وزارته. إذ لم يكن خافيا أن الدول الاستعمارية - وخاصة إنجلترا - كانت تتطلع إلى الثورة العرابية لكي تتخذ منها ذريعة للتدخل في شئون البلاد، ولم تخف هذه المطامع عن عرابي ذاته، فقد ذكر في مذكراته أنه كان يلاحظ هو وصحبه عقب واقعة قصر النيل كثرة تردد السير إدوار مالت قنصل إنجلترا في مصر على الخديو ليلا ونهارا ... فأوجسوا من ذلك خيفة على مصير البلاد، وخشوا من مطامع إنجلترا، وتحدثوا بأنها تطمع في احتلال وادي النيل أسوة بما فعلته فرنسا في تونس إذ احتلتها سنة 1881.
فشريف باشا سعى جهده في أن لا يتخذ دعاة الاستعمار من الثورة ذريعة للتدخل في شئون البلاد؛ من أجل ذلك لم يفته النصح للعرابيين أن لا يقحموا الجيش في غمار السياسة، فتضطرب الأحوال وتتفتح الثغرات للتدخل الأجنبي، ولم يكن يخفى أن زعماء الثورة من الضباط قد داخلهم شيء كثير من الزهو والخيلاء، إذ كانوا قوام الحركة، وبفضلهم سقطت وزارة رياض باشا البغيضة إلى الرأي العام، وتألفت وزارة شريف المرجوة من الأمة، فلو لم يكن شريف عظيم النفس قوي الشخصية، لجعل خطبته تمليقا لضباط الجيش اكتسابا لثقتهم وتأييدهم، ولكنه على العكس خاطبهم بلهجة الناصح الأمين، ودعاهم إلى التزام حدود واجباتهم، وهي الطاعة والنظام والذود عن الوطن. •••
ولم يكن مثل شريف ليقبل أن يكون أداة في يد الجيش وزعمائه؛ لأنه لم يقصد من تأليف الوزارة مجدا ولا سلطة، وقد عرف عنه التعفف والنزاهة في كل أدوار حياته، وشهد له ماضيه بأنه لا يحرص على المناصب، وأنه يزهد فيها إذا رآها تخالف مبدأه وكرامته، ولقد كان من الوجهة الدستورية أسبق في الكفاح للدستور من العرابيين، فعلى يده تطور نظام مجلس النواب، إذ تألفت وزارته الأولى في عهد الخديو إسماعيل على قاعدة تقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمام المجلس، وعلى يده وضع دستور سنة 1879 على أحدث المبادئ العصرية، ولم يحل دون صدور المرسوم الخديو بإنفاذه إلا خلع إسماعيل، ومن أجل الدستور استقال من وزارته الثانية في أوائل عهد الخديو توفيق، وبرنامجه سنة 1881 حين ألف وزارته الجديدة كان استئنافا لجهاده في سبيل الدستور منذ سنة 1879؛ أي قبل أن تظهر الحركة العرابية بسنتين، فلا غرو أن يشعر شريف بعزة النفس والاستقلال في الرأي إزاء العرابيين.
وقد حققت وزارة شريف باشا كثيرا من الإصلاحات في المدة الوجيزة التي تولت فيها الحكم، وكان مما أنفذته إصدار القوانين العسكرية التي كان هدفها تحسين حال الضباط والجند، وإصلاح التعليم في المدارس الحربية.
وابتهج الضباط بصدور هذه القوانين، وزادتهم ثقة بوزارة شريف باشا ... وذهب وفد منهم إلى داره وقدموا له شكرهم، وشكر زملائهم على عنايته واهتمام وزارته بإصدارها، وأعربوا له عن حسن مقاصدهم وكامل ثقتهم به وبوزارته، وعاهدوه على ألا يخالفوا له أمرا وأن ينقادوا لإرادة الحكومة، ولا يترددوا في الذهاب إلى أية جهة تأمرهم بالذهاب إليها. (3) عرابي في الشرقية
وقد رغب شريف باشا في نقل زعماء الحركة من القاهرة إلى الأقاليم لكي يخفف من ضغط الحزب العسكري على الحكومة، ويحقق مبدأه الذي تولى الوزارة على أساسه وهو إبعاد الجيش عن السياسة جهد المستطاع، وأقنع عرابي وصحبه بأن مصلحة البلاد تقضي بإبعاد الآلايات التي يتولون قيادتها عن العاصمة حتى تهدأ الخواطر، ويقوى سلطان الحكومة حيال الدول. وزاد في حجة شريف باشا إرسال الحكومة التركية وفدا إلى مصر برياسة علي نظامي باشا، لتحقيق أسباب تمرد الجيش وخروجه على الخديو ... فقد ورد نبأ قيام هذا الوفد من الآستانة في 3 أكتوبر سنة 1881. فاتخذ شريف باشا من هذا الحادث وسيلة لإقناع زعماء الضباط بالابتعاد عن العاصمة، لكي يكون ذلك دليلا قائما على إذعانهم للحكومة وتنفيذهم أوامرها وترك سلطة الحكم في يدها، ولكي يمتنع الاتصال بينهم وبين الوفد العثماني القادم فلا ينفسح المجال أمامه للدس والتفرقة، فاقتنعوا بهذه الحجة، واستقر رأي وزارة الحربية على نقل آلاي عبد العال حلمي إلى دمياط، وآلاي عرابي إلى رأس الوادي بالشرقية ... ويقول عرابي إنهم قبلوا ذلك على شرط صدور الأمر الخديوي بانتخاب النواب لكي يطمئن على إنشاء المجلس النيابي، وفعلا صدر الأمر المذكور في 4 أكتوبر سنة 1881.
وكان سفر الآلايين إلى مقرهما الجديد فرصة للمظاهرات الوطنية التي تجلت فيها حماسة الأهلين وعواطفهم نحو الجيش.
كان آلاي عبد العال حلمي بك هو السابق بالسفر إلى مركزه الجديد، وكان يوم سفره يوما مشهودا، فقد انتقل الآلاي إلى محطة العاصمة مارا وسط المدينة، وسبقه إليها معظم ضباط العسكرية وضباط المستحفظين والبوليس للقيام بواجب التوديع، وامتلأت المحطة بالمودعين، ولما وصل إليها الآلاي أخذ مصطفى بك العناني أحد أعيان القاهرة، ومن كبار تجارها ينشر الورود والرياحين على رءوس العساكر، وسقى الناس شرابا سكريا في ذلك اليوم إكراما للجيش المنقذ للبلاد من هاوية الاستبداد، وحضر محمود سامي باشا البارودي وزير الحربية ليودع الآلاي المسافر يصحبه عرابي بك، وتبودلت الخطب الحماسية في المحطة قبل قيام القطار.
وفي 6 أكتوبر سنة 1881 سافر آلاي عرابي من العاصمة بين مظاهر الحماسة والتكريم ... فتحرك من مركزه بالعباسية في الساعة الثامنة صباحا قاصدا المحطة، وشق المدينة من باب النصر تتقدمه موسيقاه تعزف بألحانها الحربية، فتثير الحماسة في النفوس إلى أن بلغ المشهد الحسيني، فاصطف الآلاي أمام المسجد ... ثم دخل عرابي وزار مقام الحسين رضي الله عنه يصحبه بعض الضباط، وأدار بيرق الآلاي على الضريح الشريف، ودعوا الدعوات الصالحة، ثم خرجوا وسار الآلاي إلى المحطة، مارا بالموسكي ثم شارع البوستة، فشارع كلوت بك، وكانت الشوارع تزخر بالمتفرجين، وازدحمت المحطة بالمودعين، إذ حضر إليها جميع ضباط الجيش المصري ورؤسائه وكثير من الأعيان والتجار وعامة الناس، وتبودلت الخطب الوطنية في المحطة.
ثم تحرك القطار في منتصف الساعة الحادية عشرة قاصدا مدينة الزقازيق، وصحب عرابي في سفره السيد عبد الله نديم - خطيب الثورة - واستقبل وصحبه وجنده في المحطات بمظاهر الفرح والسرور والتكريم، وكان السيد عبد الله نديم يخطب في الناس في كل محطة، واستمرت مظاهر الاحتفالات حتى بلغ القطار محطة الزقازيق، فاستقبل القادمين جمهور الأعيان والأهالي والتجار يتقدمهم أمين بك الشمسي كبير تجار البندر، وهتفوا لعرابي وللجيش هتاف الدعاء، ونثروا على العساكر الورود والأزهار العطرية وسقوهم الشراب السكري، ونزل عرابي من القطار وحيا جميع المستقبلين، وألقى فيهم خطبة حماسية بدأها بقوله:
سادتي وإخواني، أنا أخوكم في الوطنية، واسمي أحمد عرابي. ولدت في بلدة «هرية رزنة» من بلاد الشرقية هذه، فمن عرفني منكم فقد عرفني، ومن لم يعرفني فقد عرفته بنفسي، وها أنا واقف بين أيدي الأهل والخلان.
وأخذ يشيد بما قام به وزملاؤه الضباط.
ثم استأنف القطار السير قاصدا إلى رأس الوادي حيث كان مركز الآلاي ... وبعد أن استقر به عرابي وجنده يومين دعاه أمين بك الشمسي، ودعا معه صحبه من الضباط إلى وليمة شائقة فخمة تكريما لهم، فلبوا الدعوة وألقى عرابي في الوليمة خطبة بمعنى الخطبة السابقة، وشكر أمين بك الشمسي وأثنى عليه الثناء المستطاب، ثم وقف السيد عبد الله نديم وألقى خطبة حماسية، تعالى في أثنائها هتاف الاستحسان من الحاضرين.
وفي اليوم التالي دعي عرابي لوضع الحجر الأساسي للمدرسة الأميرية بالزقازيق ... فلبى الدعوة وحضر الحفلة، ووضع الحجر الأساسي للمدرسة باسم الخديو، وألقى بهذه المناسبة خطبة ذكر فوائد التعليم، وحث الحاضرين على العناية بتعليم أبنائهم؛ ليعدوهم لخدمة بلادهم في المستقبل. (3-1) تعيين عرابي وكيلا لوزارة الحربية
بقي عرابي في منصبه بالشرقية نحو ثلاثة أشهر يتنقل في الجهات، ويبث أفكاره بين الأعيان والأهلين، وقد أوجست الحكومة خيفة من ابتعاده طويلا عن العاصمة، وتركه يجمع حوله الأتباع والأنصار بعيدا عن رقابتها، فاقترح البارودي تعيينه وكيلا لوزارة الحربية، فصدر الأمر العالي بذلك في 4 يناير سنة 1882، وعاد إلى العاصمة واستقر بها، وتوطدت الثقة بينه وبين البارودي، وعظم نفوذه، وصارت داره كعبة لطلاب الحاجات وذوي الشكايات يقصدون إليها من كل فج، حتى أصبحت تشبه مجموع دوائر الحكومة لكثرة من كان يفد عليها من الزائرين والشاكين، وتردد عليه مراسلو الصحف الأوروبية؛ ليأخذوا عنه الأحاديث والبيانات عن الحركة التي قام بها، فازدادت شهرته في الأوساط الأوروبية.
إنشاء المحاكم الأهلية
إن أهم إصلاحات الوزارة الشريفية بعد الإصلاح الدستوري هو إنشاء المحاكم الأهلية ووضع نظامها الجديد ... ففي 17 نوفمبر سنة 1881 صدر القانون المعروف بلائحة ترتيب المحاكم الأهلية، وهي تتضمن معظم القواعد العامة للنظام القضائي الحالي، وأهمها: (1)
وجوب العمل بالقوانين بعد نشرها وإعلانها في الجريدة الرسمية «ويكون إجراء العمل بمقتضاها في القطر المصري بعد مضي ثلاثين يوما من تاريخ الإعلان، وأما في السودان وباقي ملحقات الحكومة المصرية، فيكون العمل بها بعد مضي سبعين يوما.» (2)
عدم سريان القوانين على الماضي، وصدور الأحكام باسم الحضرة الخديوية، ووجوب استنادها إلى القوانين التي سيجري نشرها أو القوانين واللوائح الجاري بموجبها متى كانت أحكامها غير مخالفة لنصوص القوانين المذكورة. (3)
رتبت اللائحة أنواع المحاكم الجديدة ... فقضت بإنشاء محكمة ابتدائية في كل من مصر والإسكندرية، وفي كل مديرية من الوجه البحري والقبلي، وفي السودان وباقي ملحقات الحكومة المصرية، وإنشاء محاكم جزئية في دوائر اختصاص المحاكم الابتدائية، ومحكمتين استئنافيتين إحداهما بمصر والأخرى بأسيوط، «أما فيما يختص باستئناف الأحكام الصادرة من المحاكم الابتدائية بالسودان وباقي ملحقات الحكومة المصرية، فيتقرر فيما بعد بأمر الحضرة الخديوية» ومحكمة نقض بالقاهرة، وكان اسمها في اللائحة «محكمة التمييز»، وإنشاء النيابة العمومية. (4)
ونصت اللائحة على عدم جواز عزل قضاة المحاكم، إنما للحكومة حق استبدال من ترى فيه عدم اللياقة والاستعداد منهم في أثناء السنوات الثلاث الأولى من تاريخ تعيينه ... ونصت على عدم نقل القضاة من محكمة إلى أخرى إلا برضاهم، وبمقتضى أمر يصدر من الحضرة الخديوية بناء على طلب وزير الحقانية، وبعد أخذ رأي محكمة النقض. (5)
تقررت في اللائحة قواعد اختصاص هذه المحاكم على النظام الجاري العمل به اليوم. (4) تركيا والثورة العرابية
لم يكن موقف تركيا حيال مصر أثناء الثورة العرابية موقفا سليما ولا نزيها، بل كانت ترمي إلى انتهاز الفرص لانتقاص مزايا الاستقلال، الذي نالته مصر في عهد محمد علي ثم في عهد إسماعيل، واسترداد هذه المزايا والتدخل في شئون مصر الداخلية، ومع أن تركيا وقتئذ كانت من الضعف والارتباك بحيث لا تستطيع أن تجعل مصر ولاية عثمانية خاضعة لحكمها، فقد كانت السياسة التركية قائمة على الدس وقصر النظر ... فهي لم تدع وسيلة إلا انتهزتها لإحراج مركز مصر والوقيعة بها، وكان موقفها من يوم أن ظهرت الثورة العرابية إلى أن وقع الاحتلال موقفا مشئوما، قوامه الختل وسوء النية والخداع، فضلا عن الجهل وقصر النظر، وكان ذلك من أكبر العوامل المساعدة على وقوع الاحتلال. (4-1) الوفد العثماني الأول
حدثت واقعة عابدين يوم 9 سبتمبر سنة 1881 وانتهت بسلام، وتألفت وزارة شريف باشا المرجوة من الأمة، وهدأت الأحوال، وابتدأت الوزارة الجديدة تحقق برنامجها بين مظاهر الثقة والاطمئنان. وبالرغم من ذلك، فإن الحكومة التركية رأت في هذه الحادثة فرصة جديدة للتدخل في شئون مصر وانتحال حق الإشراف عليها، فقررت إرسال لجنة إلى مصر للنظر في الحوادث الأخيرة، وقد عرفت هذه اللجنة بالوفد العثماني، وهو مؤلف من علي نظامي باشا سر ياور السلطان عبد الحميد، وعلي بك فؤاد من أعضاء مجلس شورى الدولة ونجل عالي باشا الصدر الأعظم المشهور، وفي معيتهما قدري بك وصفر أفندي وسيف الله أفندي من ياوران السلطان.
تحرك هذا الوفد من الآستانة يوم 2 أكتوبر سنة 1881 قاصدا إلى مصر ... ولم يسبق تأليفه مخابرة بين حكومة الآستانة والحكومة المصرية حتى يعرف مقصدها من إيفاده، بل فوجئت البلاد بتلغراف من الآستانة ينبئ بقيام هذا الوفد، فقوبل النبأ بالدهشة لأن حالة البلاد لم تكن تسيغ إيفاده، فضلا عما يحدثه مجيئه من هياج الخواطر وإثارة الهواجس في وقت كانت البلاد محتاجة فيه إلى إقرار الطمأنينة في النفوس.
ولكن الحكومة العثمانية كانت في الواقع تتعمد إحداث حدث يثير الخواطر في مصر ... فلعلها كانت تأمل أن تستفيد من الثورة، أو لعلها نظرت بعين الاستياء إلى قيام وزارة حرة تقيم النظام الدستوري في مصر؛ لأن مثل هذا النظام لم يكن لترضى عنه حكومة الآستانة التي جبلت على كراهية الحرية والدستور. هذا إلى أن على رأسها السلطان عبد الحميد الذي بدأ عهده بتعطيل القانون الأساسي العثماني، وإلغاء مجلس المبعوثين «النواب»، وتشتيت دعاة الحرية وأنصارها ... أضف إلى ذلك أن الخديو توفيق لم يكن منظورا إليه في الآستانة بعين الرضا والعطف؛ لأن سلطان تركيا لم يكن ليغفر له إغفاله الذهاب إلى عاصمة السلطنة، حين ولايته الحكم ليقدم له فروض الولاء.
حقا أن توفيق باشا اعتذر عن عدم ذهابه إلى الآستانة بارتباك أحوال مصر، وضرورة وجوده في عاصمة ملكه، ولكن هذا العذر لم يكن ليقبله حكام الآستانة، إذ كان من أخص صفاتهم الغطرسة والكبرياء وسوء الظن والانتقام؛ لذلك انتهزوا كل فرصة لإحراج مركز الخديو وإثارة المشاكل والعقبات في وجهه، ففكرة إرسال وفد إلى مصر فكرة قوامها الكيد وسوء القصد، وقد استاء لها شريف باشا وأبدى مخاوفه منها.
جاء هذا الوفد إلى الإسكندرية يوم الخميس 6 أكتوبر سنة 1881، ووصل أعضاؤه إلى القاهرة في مساء ذلك اليوم، ونزلوا ضيوفا على الحكومة بقصر النزهة بشبرا.
وفي صبيحة الجمعة ذهبوا إلى سراي الإسماعيلية لمقابلة الخديو، فاستقبلهم بالترحاب وتبادل وإياهم عبارات التحية والود، وأبلغوه تحيات السلطان وأعربوا له عن تمام رضاه وسروره لما يبذله في تحسين أحوال البلاد، وأن الغرض من إرسال هذا الوفد هو إظهار الثقة بالخديو وتأييد نفوذه وتثبيت مركزه ... فرد عليهم بعبارات الشكر المألوفة، ثم انصرفوا عائدين إلى قصر النزهة، وهناك رد لهم الخديو الزيارة.
وذهب علي نظامي باشا إلى قصر النيل حيث كان ديوان الحربية ومركز الآلاي الثاني ... فاستقبله محمود سامي باشا البارودي وزير الحربية، وهناك استدعى طلبة بك عصمت قائد الآلاي، ومعه الضباط من رتبة قائمقام وبكباشي، وألقى فيهم خطابا باللغة التركية - عربه لهم البارودي - حثهم فيه على طاعة الخديو وتنفيذ أوامره.
فأجابه طلبة بك عصمت بقوله: «إن العساكر المصرية جموعا وأفرادا على قدم الطاعة والانقياد لولي أمرنا الخديو المعظم، يتلقون أوامره بالامتثال، ويقفون عند حد نواهيه ... فإن كلا منا يعلم أن أول واجب على الجند هو طاعة ولي الأمر والإذعان لما يأمر به، وما منا إلا محب للجناب الخديوي ميال بكليته إلى الامتثال لإرشاداته.»
ولما انتهى من كلامه وقف علي نظامي باشا، وصافح طلبة بك ومن معه من الضباط، وأثنى عليهم الثناء الجميل، ثم بقي مع محمود باشا سامي البارودي نحو نصف ساعة وانصرف ... وزار بعد ذلك شيخ الجامع الأزهر ونقيب الأشراف وشيخ المالكية ... وكانوا في أحاديثهم معه يثنون على الجيش، ويطرون أعماله ويذكرون فضله فيما نالته البلاد.
وقد استاءت فرنسا وإنجلترا من حضور الوفد العثماني على غير اتفاق معهما ... وعدتاه تدخلا من تركيا في شئون مصر الداخلية، وطلبتا من الحكومة العثمانية تقصير مدة إقامته ... وانتهزت إنجلترا هذه الفرصة لتعلن عن نفوذها في مصر حيال حضور الوفد، فطلب السير إدوار مالت من حكومته إرسال بارجة حربية إلى مياه الإسكندرية، فأجابت طلبه، واتفقت مع الحكومة الفرنسية على أن ترسل كل منهما بارجة على أن تعود البارجتان من الإسكندرية حين مبارحة الوفد العثماني أرض مصر، وقد وصلت فعلا البارجة الفرنسية «ألما» إلى مياه الإسكندرية، ثم جاءتها البارجة الإنجليزية «إنفنسبل». وغادرتا الميناء يوم 20 أكتوبر غداة سفر الوفد العثماني، فكانت هذه المظاهرة البحرية أول مظاهرة من هذا النوع أثناء الثورة العرابية، والمظاهرة الثانية وقعت في شهر مايو سنة 1882 كما سيجيء بيانه. ويلاحظ أن البارجة «إنفنسبل» هي إحدى البوارج التي اشتركت في ضرب الإسكندرية يوم 11 يوليو سنة 1882، فحضور الوفد العثماني كان باعثا على مجيء هذه البوارج ... فلا جرم كان حضوره ضارا بمصر من جميع النواحي.
وظل رجال الوفد العثماني في مصر بضعة عشر يوما بين مقابلات وولائم، وأجمعت كلمة من حادثوهم من ذوي المقامات على أن البلاد ليس فيها أي اضطراب، وأكد لهم الخديو أن الجيش على طاعته، وبذلك انتهت مهمتهم، واتضح أن مجيئهم لم يكن له مسوغ ولا كانت له نتيجة ما، وعادوا إلى الإسكندرية يوم 18 أكتوبر سنة 1881، وفي صباح اليوم التالي انقلبوا راجعين إلى الآستانة. (5) إنشاء مجلس النواب
في 4 أكتوبر سنة 1881 رفع شريف باشا إلى الخديو تقريرا بإجابة مطلب الأمة في صدد إنشاء مجلس النواب، ضمنه مزايا النظام الدستوري وضرورة إقراره مصر، وطلب تمهيدا لتأليف المجلس النيابي الجديد إجراء انتخابات عامة طبقا للائحة مجلس شورى النواب القديم ... على أن تعرض الوزارة على المجلس المنتخب مشروع اللائحة الأساسية التي تكفل نهوضه إلى مستوى المجالس النيابية الصحيحة، أو بعبارة أخرى دعا إلى انتخاب مجلس شورى النواب على أن يكون «جمعية تأسيسية» تضع الدستور الجديد.
وفي نفس اليوم الذي رفع فيه شريف باشا تقريره إلى الخديو، صدر الأمر العالي بإجراء الانتخابات العامة، وتحديد يوم 23 ديسمبر سنة 1881 لافتتاح مجلس النواب.
ولما كان نظام مجلس شورى النواب القديم يجعل انتخاب النواب موكولا إلى عمد البلاد ومشايخها في المديريات وجماعة الأعيان في القاهرة والإسكندرية ودمياط، فقد جرت انتخابات سنة 1881 على هذا الأساس.
ولا شك في أن جعل انتخاب النواب موكولا إلى عمد البلاد ومشايخها في المديريات؛ يسهل على الحكومة السيطرة على الانتخابات وإملاء إرادتها فيمن يختارهم العمد والمشايخ ... ولكن شريف باشا حرص حرصا شديدا على أن تجرى الانتخابات حرة بعيدة عن تدخل الحكومة، وأصدر منشورا بذلك إلى جميع المديريات والمحافظات نبه فيه المديرين والمحافظين إلى ترك الانتخابات حرة، وهو أول منشور انتخابي في تاريخ مصر الحديثة يقضي باحترام حرية الانتخابات العامة.
وفي الحق أن الحكومة لم تتدخل في هذه الانتخابات، ولم تتعرض لحرية الناخبين في انتخاب من يريدون ... فكان الانتخاب حرا بكل معاني الحرية، وكذلك كان حرا من تدخل العرابيين، وإملاء إرادتهم على الناخبين وترشيح أشياعهم وأتباعهم، وقد كان في استطاعة حزبهم باعتباره صاحب الفضل في إنشاء مجلس النواب أن يتدخل في الانتخابات، ويملي إرادته على الناخبين، لكي يضمن تأليف غالبية النواب من أتباعه ومرشحيه. ولو فعل ذلك لقضى على حرية الانتخاب قضاء مبرما ... ولكن حسنا فعل، إذ ترك الناخبين أحرارا في انتخاب من يأنسون فيهم الاستقامة والإخلاص والكفاية، ولم يسلبهم حرية الاختيار التي هي قوام الحياة الدستورية الصحيحة ... فجاءت الانتخابات صورة صادقة لإرادة الناخبين، وضرب العرابيون بذلك مثلا رائعا في احترام حرية الانتخاب. (5-1) افتتاح مجلس النواب
كان افتتاح مجلس النواب يوما مشهودا من أيام مصر التاريخية، استقبلته الأمة مغتبطة مبتهجة بما نالته من تقرير حريتها السياسية بإنشاء مجلس يمثلها ويشرف على شئونها وأقدارها، وقد كان هذا المجلس حقا رمزا لهذه الحرية ... ولولا دسائس الإنجليز ومكايدهم لكان فاتحة عصر جديد لنهضة مصر وتقدمها.
أعدت قاعة اجتماع المجلس بديوان وزارة الأشغال - قاعة اجتماع مجلس الشيوخ الآن - وحدد يوم الإثنين 26 ديسمبر سنة 1881 لافتتاحه.
1
فلم تكد تشرق شمس ذلك اليوم حتى ازدحم الديوان والشوارع المفضية إليه بالجماهير، واصطفت أورطة من الآلاي الأول المشاة - آلاي الحرس - على جانبي الطريق من باب الديوان إلى سلم القاعة بقيادة البكباشي محمد عبيد (الذي تقدم الكلام عن الدور الذي قام به في واقعة قصر النيل) ومعها موسيقاها العسكرية تصدح بألحان الفرح والسرور والابتهاج.
وحضر النواب وأخذوا مجالسهم ووجوههم تتهلل غبطة وسرورا ... وفي نحو الساعة العاشرة صباحا تحرك الركب الخديوي من سراي الإسماعيلية، فأطلقت المدافع من القلعة إيذانا بتحرك الموكب، وكان يصحب الخديو في عربته شريف باشا رئيس مجلس الوزراء، وأحمد خيري باشا المهردار - حامل الختم - ورئيس الديوان الخديوي، وطلعت باشا كاتب الديوان الخديوي.
فلما أقبل الركب صدحت الموسيقى بالسلام، وهتف الجنود بحياة الخديو منادين النداء المعتاد: «أفندمز جوق باشا» - أي يعيش أفندينا - وكان في انتظاره على سلم المجلس جميع الوزراء، ورئيس مجلس النواب وبعض أعضائه فتلقوه بالإجلال ... وقصد إلى الغرفة المعدة لاستراحته فلبث بها هنيهة قصيرة، ثم أنهى إليه محمد سلطان باشا رئيس المجلس، أن المجلس قد استعد وكمل اجتماع الأعضاء، فسار الخديو ودخل قاعة الاجتماع في نحو الساعة الحادية عشرة وحيا الأعضاء ... فتلقوه بجميل الإعزاز والإجلال.
وأخذ مجلسه يحف به كبار رجال الدولة، وافتتح المجلس بتلاوة خطبة العرش، وقد تلاها بنفسه، وهذا نصها:
أبدي لحضرات النواب مسروريتي من اجتماعهم، لأجل أن ينوبوا عن الأهالي في الأمور العائدة عليهم بالنفع، وفي علم الجميع أني من وقت ما استلمت زمام الحكومة، عزمت بنية خالصة على فتح مجلس النواب ... ولكن تأخر افتتاحه للآن بسبب المشكلات التي كانت محيطة بالحكومة. فأما الآن، فنحمد الله تعالى على ما تيسر لنا من دفع المشكلات المالية بمساعدة الدول المتحابة، ومن تخفيف أحمال الأهالي على قدر الإمكان، فلم يبق مانع من المبادرة إلى ما أنا متشوق لحصوله، وهو مجلس النواب الذي أنا فاتحه في هذا اليوم باجتماعكم، وأنتم تحيطون علما أن جل مقاصدي ومساعي حكومتي هو راحة الأهالي ورفاهيتهم، وانتظام أمورهم بتعميم العدالة بينهم، وتأمين سكان القطر على اختلاف أجناسهم، وهذا منهجي واضحا مستقيما، وعليه سيري منذ توليت أمركم، محبا للتربية ونشر العلوم والمعارف.
فعلى المجلس أن يكون مساعدا للحكومة في هذه الأمور كلها، خالصا مخلصا في خدمة الوطن، منحصرة أفكاره ومذكراته في المنافع العمومية، مع مراعاة قرار لجنة التصفية وسائر تعهدات الحكومة مع الدول، سالكا المسلك المعتدل والمنهج القويم الذي هو أهم شيء في هذا الوقت، الذي هو عصر الترقي والتمدن ... فالواجب علينا الاعتدال والتأني وحسن التبصر، وأن نكون يدا واحدة في إتمام الأعمال النافعة، متوسلين بعناية الله تعالى وإمداد رسوله الكريم، ومتمسكين بقوة ارتباطنا بالحضرة الشاهانية والدولة العلية أدامها الله، نسأل الله حسن النجاح إنه ولي التوفيق.
ولما انتهى الخديو من تلاوة خطبة العرش هتف الجميع له، وأطلقت المدافع من القلعة مؤذنة بانتهاء الخطاب مبشرة باجتماع مجلس النواب ... ثم برح الخديو مكان الاجتماع، وصدحت الموسيقى بنغمات التحية له، وعاد إلى سرايه في موكب حافل.
وتعد خطبة الخديو توفيق من الوثائق الهامة في تاريخ مصر الدستوري؛ لأنها أول خطبة لولي الأمر في افتتاح أول مجلس نيابي كامل السلطة في تاريخ مصر الحديث، وهي في مجموعها سديدة المعاني واضحة الأسلوب، متضمنة إعلان الخديو انضمامه إلى الأمة في إقرار النظام الدستوري، وقد ألقاها بنفسه دون أن يستنيب عنه رئيس مجلس الوزراء كما هو العرف البرلماني، فكان في إلقائه إياها تثبيتا وتوكيدا لما احتوت عليه من الآراء والمعاني.
لم تكن جلسة الافتتاح علنية، وذلك طبقا للائحة مجلس شورى النواب القديمة ... ولكن الحكومة تجاوزت عن تطبيق هذا النص ، فدخل كثير من النظارة مكان الاجتماع، ووقفوا حول مقاعد الأعضاء حتى انتهت حفلة الافتتاح، ولم يدع أحد من قناصل الدول إلى حضور الحفلة باعتبارها حفلة سرية طبقا للائحة القديمة، ولأن هذا الاجتماع من شئون البلاد الداخلية، وقد أعد في القاعة 120 كرسيا لجلوس النواب، وكانوا في الواقع أقل من ذلك ... ولكن الحكومة كانت معتزمة تعديل اللائحة الأساسية القديمة بزيادة عدد النواب عن بعض المديريات، وانتخاب نواب عن السودان، فأعدت منذ افتتاح المجلس المقاعد الكافية لهذا العدد ... وأعدت كذلك نحو 400 كرسي للنظارة؛ لاعتزامها جعل جلسات المجلس علنية في اللائحة الجديدة.
وبعد انصراف الخديو دخل النواب مكان الأقلام «اللجان» وظلوا مستريحين ساعة من الزمن، ثم عادوا إلى قاعة المجلس واستأنفوا اجتماعهم، فألقى فيهم محمد سلطان باشا الخطبة الآتية:
أيها السادة النواب
نحمد الله الذي جعل أمرنا شورى، ونصلي ونسلم على نبيه المأمور بالشورى والآمر بها. وبعد، فقد سمعتم ما تضمنته المقالة الخديوية الكريمة من حسن القصد وسمو الإدارة، فما زادكم إلا يقينا بما عهدتم بالجناب المعظم من صفاء النية وكرم العنصر وسلامة الطوية، والارتياح إلى المصلحة الوطنية ... وقد اجتمعتم في هذا المكان الرفيع بعناية الجناب العالي ورجال حكومته السنية للنظر في أمور أوطانكم، وأنتم خلاصة وجهاء القطر وبضعة أعيانه ونبهائه، فواجباتكم من هذا القبيل تقضي عليكم بالحكمة والاعتدال والثبات ...
ولا أزيدكم علما أن الوطن العزيز محتاج إلى الإصلاح والتنظيم، قابل للتقدم والعمران جامع لأسباب المنافع الكلية، فما عليكم إلا السعي والاجتهاد لنوال المراد، ولكنكم لا تجهلون أن علينا حقوقا واجبة الحفظ، وذمما لازمة الرعاية، وأنا قد أمرنا شرعا بحفظ العهود ورعي الذمم، فمن تلك العهود شدة الارتباط وصلة التابعية للدولة العلية، التي هي مركز قوتنا ومرجع سطوتنا، وقد عرفنا منها العناية وعرفت منا الإخلاص، فلا بد من ثباتنا على هذه الحال بالنظر إليها، ولا شك أن تقدمنا واستقامة أمورنا وتأييد أمر الشورى فينا يسر هذه الدولة العلية، لما ينشأ لنا عنه من القوة التي تكون جزءا من قوتها الكلية، ومن الذمم والمواثيق علاقتنا المالية والتجارية مع الدول العظمى، فهذه الذمم واجبة الرعاية لما يترتب على حفظها من استحكام صلات المودة بيننا وبين هاتيك الدول، التي ينبغي لنا الاعتقاد برغبتها في انتظام أمورنا، وميلها إلى كل ما يعود علينا بالنفع كما صرح بذلك عظماء رجالها على منابر المجالس النيابية وفي المنشورات الرسمية.
فإذا حفظنا تلك العهود ورعينا هذه الذمم، وعرفنا حقوق الوطن علينا ولم نذهل عن شيء من الواجبات، لزمنا الأخذ بأسباب الحكمة والثبات للنظر فيما يجلب لنا النفع، ويدرأ عنا الضرر ويثبت للناس جدارتنا بما وصلنا إليه، ويحقق بنا ظن أبناء الوطن الذين جعلونا موضع ثقتهم واعتمادهم.
فوجهوا إخواني همتكم في السعي بالحكمة والاعتدال والتبصر والثبات ... فمن جد وجد، ومن سار على الدرب وصل.
ثم ألقى سليمان باشا أباظة نائب الشرقية الخطبة الآتية:
سعادة الرئيس، الحمد لله على سوابغ آلائه ونوابغ نعمائه. وبعد، فقد أبان رئيس مجلسنا الهمام ما تضمنته المقالة الخديوية الكريمة من حسن القصد وصفاء النية والميل إلى المصلحة الوطنية، وأوضح بعد ذلك حق الوطن علينا وواجباتنا بالنظر إلى العهود الواجبة الحفظ والذمم اللازمة الرعاية، وهذا موقف، الشكر له والثناء عليه، أقوم فيه أصيلا عن نفسي ونائبا عن سائر إخواني النواب ... فيا سعادة الرئيس الهمام، لقد علمت وأنت أولنا أن ليس منا من قبل النيابة على علم بعظم واجباتنا الوطنية والسياسية، إلا وفي عزمه أداء حق الوطن وحفظ العهود المرعية وخدمة الأمة بما يجلب لها النفع ويدرأ عنها الضر ... ويا إخواني، لقد علمتم أن الأنظار محدقة إلينا والأفكار محومة علينا، وأن الوطن العزيز محتاج إلى الإصلاح كما قال سعادة الرئيس، فلندخل الإصلاح من بابه، ونأخذ فيه بأسبابه، لا ننظر إلا إلى المصلحة العمومية، ولا نهتم إلا بالمنفعة الوطنية، وقد حصل لنا اليقين بأن يد الجناب المعظم منبسطة لمساعدتنا، وعناية رجال حكومته متوجهة إلى تأييد مجلسنا، وأن الأمة تتوقع منا الاجتهاد في سبيل الحكمة والسداد ...
فما أجدرنا بتحقيق الآمال، وما أحقنا بالسعي فيما يصلح به الحال ويحسن الآمال، وقد آن الشروع في العمل، فلنقبل عليه بنفوس راضية، وقلوب صافية، وأفكار متوجهة إلى حقوق الوطن، ونيات معقودة على أداء الواجبات، والله ولي توفيقنا عليه توكلنا وإليه ننيب.
كان افتتاح المجلس بمثابة عيد قومي عام ... تجلت فيه مظاهر الابتهاج والغبطة والسرور العظيم، فوفد على العاصمة في ذلك اليوم كثير من الزائرين من مختلف المديريات لمشاهدة حفلة الافتتاح، وأقيمت الولائم والحفلات في القاهرة والإسكندرية ابتهاجا بافتتاح المجلس الجديد، واشترك فيها كثير من النواب والأعيان والموظفين وطبقات الشعب كافة، وعبرت الصحف أصدق تعبير عن شعور الرأي العام نحو هذا الحادث الهام في حياة مصر القومية.
وقد اجتمع المجلس يوم افتتاحه وانتخب من بين أعضائه لجنة عهد إليها تحضير الجواب على خطاب العرش وتقديمه إلى الخديو، وهذه اللجنة مؤلفة من عشرة أعضاء من النواب البارزين وهم: أحمد بك الشريف، عبد السلام بك المويلحي، محمد بك الشواربي، أمين بك الشمسي، وهلال بك منير، محمود بك سليمان، أحمد بك علي، مراد أفندي السعودي، إسماعيل أفندي سليمان، علي بك شعير. •••
وقد أعدت اللجنة الجواب وأقره المجلس، وفي يوم الخميس 29 ديسمبر سنة 1881، ذهب سلطان باشا رئيس المجلس ومعه عبد الله باشا فكري كبير الكتاب، وأعضاء اللجنة العشرة إلى سراي الإسماعيلية بملابسهم الرسمية؛ لتقديم جواب المجلس على خطاب العرش، فقابلهم الخديو بحضور الوزراء، وتلا محمود بك سليمان الجواب، وهذا نصه:
بعد حمد الله تعالى على توفيقه ورشاده، والصلاة والتسليم على من اصطفى من عباده، نقوم لدى هذه السدة الخديوية الكريمة، نحن معاشر نواب الأمة المصرية مقام النيابة عن جميعها، في تقديم واجب الشكر لهذا الجناب الخديوي الفخيم على انعطاف عواطفه نحو مجلس الشورى النيابية، الذي افتتحه بنطقه الشريف؛ إظهارا لمقصده الجليل من حيز القول إلى عالم الفعل، وإجابة لرغبة الأمة ونظرا للمصلحة العامة ... بعد أن زالت العوائق دونه وامتنعت الموانع بيننا وبينه، بجلائل هممه الخديوية التي ذللت لها صعاب المسائل، وخضعت دونها رقاب المشاكل، حتى صفا الوقت واطمأنت الحال، «ودنى المنى وانقادت الآمال»، ولقد شنف أسماعنا وأنعش أرواحنا ذلك النطق الكريم ، وملك أفئدتنا وملأها سرورا وطربا بما تضمن من الإفصاح عما عرفناه لولي النعمة، وألفناه من نزاهة النية ونبالة القصد، حتى لقد نطقت السرائر بما بدا على قسمات الوجوه من سمات السرور، فلم تدع للألسنة من حاجة للتعبير عن فرط محبة عظيمة من أمة كريمة لمولى متفضل عليها متحبب إليها، محب لحريتها مشغوف بخيرها ومنفعتها.
فلم يبق إلا أن نبذل غاية ما في السعة، ونأتي على قاصية الاستطاعة في نفع هذه الأمة التي ندبتنا للنظر في منفعتها، واستنابتنا عن أنفسها لرؤية مصالحها، سالكين في ذلك من مسالك الحزم والتبصر وحسن النظر ما تحسن بعناية الله مغبته، وتحمد بيمن توفيقه عاقبته، ويعضد مقاصد حكومتنا السنية المتجهة للسداد والرشاد وسلامة البلاد والعباد، ويؤيد ما لنا من روابط التبعية للذات السنية السلطانية والدولة العلية العثمانية، التي منحتنا عواطفها الكريمة من الامتيازات المرعية ما جلت به النعمة وعظمت المنة، ويؤكد علائقنا الودادية مع الدول الأجنبية المحبة لمنفعتنا وفائدة بلادنا، مبتهلين إلى الله جل ثناؤه وتقدست آلاؤه، في أن يحرس لنا هذا الجناب الخديوي الفخيم، ويديم لأوطاننا به النفع العميم، أدام الله توفيقنا على أحسن ما يرام، وبلغ به الوطن العزيز غاية المرام.
وتعد خطبة رئيس مجلس النواب، يوم افتتاح المجلس وتعقيب سليمان باشا أباظة عليها، وجواب المجلس على خطبة العرش من الوثائق الهامة في تاريخ المجلس ... وهي صورة ناطقة تمثل لنا جانبا من الحياة السياسية والآداب البرلمانية في ذلك العصر، ولغة هذه الوثائق ومعانيها حسنة في مجموعها، وتدل على سهولة استساغة نواب سنة 1881 للأساليب البرلمانية الحديثة. (6) وضع الدستور
واشتغلت وزارة شريف بوضع الدستور، وكان يسمى في اصطلاح ذلك العصر «اللائحة الأساسية» أو «القانون الأساسي». وقد وضع على أحدث المبادئ العصرية، إذ يتضمن القواعد الرئيسية للنظم البرلمانية، كتقرير مبدأ المسئولية الوزارية أمام مجلس النواب، وتخويل المجلس حق تقرير القوانين بحيث لا تصدر إلا بتصديق منه، وتقرير الميزانية والرقابة على أعمال الحكومة وموظفيها، وإلزامها بعدم فرض أي ضريبة أو إصدار أي قانون أو لائحة إلا بعد تصديق المجلس ، وقد أخذ بنظرية وحدة الهيئة النيابية، فجعلها ممثلة في مجلس النواب دون مجلس الشيوخ.
ولما أتم شريف باشا وضع الدستور عرضه على مجلس النواب للمناقشة فيه وإقراره ... ففي عصر يوم 2 يناير سنة 1882، جاء إلى مجلس النواب يصحبه سائر الوزراء، فعرض الدستور على هيئة المجلس، وألقى في هذا المقام خطبة ضافية، ذكر فيها خلاصة ما احتواه من القواعد، وألمع إلى أنه بوضع هذا الدستور إنما ينفذ الخطة التي رآها من ثلاث سنوات في عهد الخديو إسماعيل.
وقد أحال المجلس مشروع الدستور على «اللجنة الدستورية»، وهي لجنة ألفها خصيصا للنظر فيه، وكانت تسمى «لجنة اللائحة»، وقد بحثت اللجنة مواد الدستور، وأقرت معظمها مع تعديلات يسيرة في بعضها لا تغير من جوهره شيئا، وكاد الأمر يتم بالاتفاق بين الحكومة والمجلس على نصوص الدستور، لولا الأزمة السياسية التي أدى إليها تدخل فرنسا وإنجلترا في وضع الدستور، وانتهت بسقوط وزارة شريف. (6-1) أزمة يناير سنة 1882
اعترض وضع الدستور أزمة سياسية خطيرة نسميها أزمة يناير سنة 1882 ... ترجع إلى سوء نية إنجلترا وفرنسا حيال مصر، وائتمارهما بالنظام الدستوري، الذي كاد يستقر بإعلان اللائحة الأساسية، ولم يكن بقي على إعلانها وصدور المرسوم بها سوى إجراءات شكلية من تبادل الرأي بين مجلس النواب والحكومة على التعديلات الطفيفة التي أدخلتها لجنة المجلس في مشروع اللائحة ...
ولكن إنجلترا وفرنسا أرادتا أن تحدثا حدثا يخلق الاضطراب في مصر، وقد يودي بالدستور ... وذلك بتدخلهما في شئون مصر الداخلية وإيقاع الفرقة بين الخديو والأمة، ولكي تتخذا من هذه الفرقة ذريعة للتدخل المسلح.
ففي اليوم الثامن من شهر يناير سنة 1882 توجه السير إدوار مالت معتمد إنجلترا، والمسيو سنكفكس المعتمد الفرنسي مجتمعين إلى سراي عابدين، وقدما إلى الخديو مذكرة مشتركة من الدولتين بتاريخ 7 يناير سنة 1882، قوامها أنهما حيال الحوادث الأخيرة قد أجمعتا على تأييد سلطة الخديو.
وفحوى المذكرة أن الدولتين انتحلتا لنفسيهما حق القوامة والرقابة على مصر، وإقرار الأمن والنظام فيها والتدخل في شئونها الداخلية ... وظاهر من عباراتها أن فرنسا وإنجلترا كانتا تنظران بعين الاستياء إلى تأليف مجلس النواب، وقيام النظام البرلماني في مصر ... ولم تكتما الإعراب عن هذا الاستياء صراحة في المذكرة، إذ جعلتا من الحوادث الموجبة للتدخل «صدور الأمر الخديوي باجتماع مجلس النواب».
قوبلت هذه المذكرة في مصر بالسخط العام ... وهاجت لها الخواطر، وتوجه شريف باشا إلى معتمدي فرنسا وإنجلترا، وأنهى إليهما اعتراضه على المذكرة.
وأعقب هذا التدخل تدخل آخر، إذ طلب قنصلا الدولتين من شريف باشا بإيعاز من الرقيبين الأوروبيين ألا يخول مجلس النواب حق تقرير الميزانية، وقدما إليه في 26 يناير سنة 1882 مذكرة بهذا المعنى أثناء اشتغال «اللجنة الدستورية» بالنظر في اللائحة الأساسية ...
كان هذا التدخل تحديا بالغا لكرامة البلاد وحقوقها، وتدبيرا مبيتا بين الدولتين للتدخل المسلح وخلق الذرائع للاحتلال ... إذ ما شأن إنجلترا وفرنسا بنظام مجلس النواب المصري؟ وأي قانون يخولهما حق التدخل في وضع الدستور، والمطالبة بحرمان المجلس حق تقرير الميزانية؟!
ولا شك أن هذا عدوان منكر لا سند له من الحق ولا من العهود المبرمة بين مصر والدولتين، لا سيما أن مشروع اللائحة الأساسية كان ينص في صراحة لا إبهام فيها على احترام اتفاقات مصر الخاصة بتسوية الديون، وفي هذا النص الكفاية لاطمئنان الدول ورعاياها على حقوقهم ... أما التذرع بهذه الديون لحرمان مجلس النواب حق تقرير الميزانية، وهو أهم خصائص البرلمان، فهو الظلم والاعتساف والتحكم الذي لا مسوغ له، وهو الطمع الاستعماري الذي لا يحترم حقا ولا يرعى عهدا.
كان الموقف على جانب كبير من الخطر ... فهناك أولا حقوق الأمة وكرامتها، ولا تقبل أمة تحترم نفسها أن تنزل على إرادة دولتين غاصبتين تريدان حرمان مجلس النواب حقا من أقدس حقوقه، وهو تقرير الميزانية ... وهناك من جهة أخرى الخطر الماثل أمام رجل الدولة، إذ يرى البلاد هدفا للتدخل المسلح من جانب الدولتين المتحفزتين للاحتلال. •••
وقد ارتأى شريف باشا درءا للأزمة، أن لا يبت مجلس النواب بقرار نهائي في المادة المتعلقة بالميزانية، وأن يرجئها إلى حين حتى تنجلي الغمة، وبذلك يتفادى التدخل المسلح الذي لم يكن في استطاعة مصر أن تصده لما كانت عليه وقتئذ من الضعف والارتباك، والتأجيل في ذاته لم يكن مضيعا لحقوق الأمة في الدستور، بل كثيرا ما يكون التأجيل من الوسائل السياسية التي يعمد إليها لاتقاء الأزمات ... على أن وضع الدستور قد يستغرق وقتا يطول أو يقصر على حسب الظروف والملابسات. ولم يكن النص الخاص بالميزانية في ذاته مستعجلا؛ لأن ميزانية سنة 1882 كان قد صدر المرسوم باعتمادها في 22 ديسمبر سنة 1881؛ أي قبل انعقاد مجلس النواب ... فالبحث في أمر الميزانية لا تبدو أهميته العملية إلا في ختام سنة 1882 حيث توضع ميزانية سنة 1883، فإرجاء البت في هذا النص لم يكن له من الخطر ما يدعو إلى التصادم بين المجلس والوزارة.
وقد نصح المستر «بلنت» عرابي وصحبه بالاعتدال في موقفهم من هذه الأزمة، وبأن لا يقطعوا برأي في نص الميزانية قبل أن تفاوض الوزارة حكومتي فرنسا وإنجلترا، وأيده الشيخ محمد عبده في نصيحته، وروي عنه أنه قال في هذا الصدد: «لقد لبثنا عدة قرون في انتظار حريتنا، فلا يشق علينا أن ننتظر الآن بضعة أشهر.» ولكن نصيحة الاثنين عبثا.
وقد عرض شريف باشا على مجلس النواب فكرة التأجيل ... ولكن عرابي ورؤساء الضباط والأعضاء البارزين من النواب لم يقبلوا هذا الحل، وارتئوا رأيا آخر يناقضه وهو تقرير مادة الميزانية في الحال، ويلوح لنا أن ثمة عاملا آخر غير الاقتناع كان له دخل في الأخذ بهذا الرأي، وهو انصراف العرابيين عن شريف، ورغبتهم في إقصائه عن الحكم وإسناد رياسة الوزارة إلى رجل منهم، إذ لم يكن يخفى أن شريف باشا، وإن كان قد ألف وزارته على قاعدة إجابة مطالب العرابيين لكنه كان يشعر حيالهم بشيء من الاستقلال والكرامة.
وهذا ما جعل العرابيين يرغبون في التخلص منه، ويستبدلون به رجلا من خاصتهم ... وقد ساعد على ظهور هذه الرغبة طموح محمود باشا سامي البارودي إلى رياسة الوزارة ... فقد كان البارودي كثير الطموح إلى السلطة والجاه، ومن هنا تعقدت الأزمة، وامتنع الأخذ برأي شريف باشا؛ لأن البارودي وهو وزير الحربية في وزارة شريف باشا، قد زين لعرابي وصحبه أن يتشبثوا برأيهم ويرفضوا التأجيل، ويقرروا مادة الميزانية فورا، وقد رتب على هذه الخطة وصوله إلى الرياسة؛ لأنه كان مفهوما أن رفض النواب رأي شريف باشا يؤدي بداهة إلى استقالته، فيدعى هو إلى تأليف الوزارة الجديدة. (7) استقالة شريف باشا
وكان ما رتبه البارودي ... فقد اتفقت كثرة النواب على رفض التأجيل، وعلى إقرار مادة الميزانية كما هي، ورأى شريف باشا من حديثه مع أعضاء اللجنة الدستورية أنهم راغبون في إسقاط وزارته، فلم ير بدا من تقديم استقالته في 2 فبراير سنة 1882.
وقد كان يجدر بالنواب أن يتريثوا في الأمر ... وأن لا ينقلبوا بهذا السرعة على من كان موضع آمالهم حتى الأمس، ومما يستوقف النظر ويدعو إلى الأسف، أن يكون أول عمل هام لمجلس النواب هو التخلص من الرجل الذي أنشأه وناضل من أجله، ووضع نظامه الأساسي ... ولكنها الأهواء والمطامع كان لها الأثر البالغ في ركوب هذا المسلك.
ويعد سقوط وزارة شريف باشا إقصاء تاما لسلطة الخديو، وانتصارا حاسما للحزب العسكري وعلى رأسه عرابي؛ لأن الخديو لم يكن راغبا في استقالة شريف باشا.
وقد ذاعت شهرة عرابي في أوروبا عقب سقوط هذه الوزارة، بعدما تبين أن له النفوذ الفعال في مجلس النواب ... إذ استطاع بواسطته إسقاط الوزارة التي رغب في التخلص منها. (8) وزارة البارودي
نزل الخديو على إرادة الحزب العسكري - وفي الظاهر إرادة النواب - فأسند رياسة الوزارة إلى محمود سامي البارودي ... فألفها وأدخل عرابي فيها وزيرا للحربية ... ويبدو من التأمل في الكتاب الذي رفعه إلى الخديو بتأليف الوزارة أن لا خلاف في المبادئ العامة بين الوزارة الجديدة والوزارة المستقبلة ...
والخلاف الحقيقي بينهما هو في إقرار المواد المتعلقة بالميزانية فورا ... وكان شريف يرى تأجيلها إلى حين، وثمة فارق آخر في التشكيل، فإن وزارة البارودي مؤلفة من صميم العرابيين ... وحسبك أن فيها عرابي باشا وزيرا للحربية، وقد كانت في ذلك الحين أهم الوزارات شأنا وأعظمها نفوذا، وربما كان هذا من أهم الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تغيير الوزارة؛ لأن عرابي كان يطمع في أن يتولى وزارة الجهادية بعد أن ارتقى في عهد وزارة شريف باشا إلى منصب وكيلها، كما كان يطمع البارودي في رياسة الوزارة، وهكذا كان التطلع إلى المناصب الوزارية - ولم يزل - من أسباب ما حل بمصر من الكوارث.
ثورة عرابي في مرحلتها الثانية
(1) المرحلة الثانية من الثورة
ويقيننا أن الثورة العرابية قد بدأت تسلك سبيلا بعيدا عن الحكمة من يوم أن اتفق عرابي وصحبه على إسقاط وزارة شريف باشا، وبدأت بذلك مرحلتها الثانية ... مرحلة الشطط والخطل، فإن شريف باشا كان بلا نزاع أقدر من البارودي على حسن تدبير الأمور في تلك الأوقات العصيبة، إذ له من ماضيه السياسي وثقافته واختباره ما يجعل له كفاية ممتازة في الاضطلاع بالمهام السياسية. أما البارودي فقد كانت نشأته أدبية وحربية فحسب، وعلى أنه من أعلام الأدب وكبار الشعراء، وله في ذلك المقام الذي لا يبارى ... لكن هذه المزايا ليست هي المطلوبة لتصريف سياسة مصر، وخاصة في ذلك العصر المضطرب ... أضف إلى ذلك أن النشأة الحربية إذا اجتمعت إلى الشعر والأدب، تثير في النفس روح الخيال والتطلع إلى أقصى مراتب المجد والعلا، ومن هنا جاءت آمال البارودي بعيدة الأفق، لا تقف عند حد حتى بلغت التطلع إلى العرش.
وقد عظم شأن عرابي بتقلده وزارة الحربية، فإنها الوزارة الوحيدة التي كانت تتطلع إليها الأنظار في ذلك الحين ... وفيها كانت تتمثل سلطة الحكم وقوة الحركة الوطنية، فأصبح عرابي الرئيس الفعلي للحكومة، وزاد من مكانته نيله بعد تقلده رتبة لواء «باشا»، لما للألقاب والرتب من الأثر الذي لا ينكر في نفوس العامة والخاصة، وصار له الأمر والنهي، لا في وزارة الحربية فحسب، بل في كل وزارات الحكومة، وأصبح دكتاتورا محضا، وأضحت داره ملجأ لطلاب الحاجات وأصحاب الشكايات. (2) دستور سنة 1882
أقر مجلس النواب الدستور وصدر به المرسوم الخديوي في 8 فبراير سنة 1882، وقدمه البارودي إلى المجلس موقعا عليه من الخديو، وألقى لهذه المناسبة خطبة بليغة جاء فيها:
أيها السادة النواب ... أحسب نفسي سعيد الطالع بحضوري بينكم حاملا إلى حضراتكم القانون الأساسي ، الذي سيكون إن شاء الله قاعدة لجميع أعمالكم، ويسرني كل السرور أنني لم أحمله إليكم إلا بعد يقيني أنه خير أساس يمكنكم أن ترفعوا عليه من الأعمال ما يعزز شأن البلاد، وينمي ثروتها ويقوي أصول العدالة فيها ...
إلا أنني أعلم كما تعلمون أن مجرد وضع القانون على أصول الحرية وقواعد العدالة لا يكفي في وصولنا إلى الغاية المقصودة من اجتماع حضراتكم، بل لا بد أن ينضم إلى ذلك خلوص النية من كل واحد منكم في المحافظة على حدود هذا القانون ودقة النظر في الوقوف عندها، بحيث تكون جميع الأعمال والأفكار منحصرة في دوائرها، وقد قال عقلاء السياسيين إن الوصول إلى هذا النوع من الكمال، أعني حصر جزئيات الأعمال وكلياتها في دائرة القانون، إنما ينال بعد العناء وطول التجارب ... لكني لا أعد هذا صعبا عليكم، فإن العناية الإلهية ساعدت سعد البلاد بوقوع الانتخاب على حضراتكم، وأنتم على أكمل درجات العقل والفضيلة، ولا عناء في اتباع القانون إلا على القاصرين، وفي أملي أنكم ستحققون ما يظنه أحباء البلاد فيكم عندما تبتدئون في الأعمال المهمة التي تهيأتم الآن لمباشرتها، بأن تستعملوا صادق النظر للوقوف على ما فيه خير بلادكم، وتوجهوا إلى ذلك ماضي الهمم حتى لا يضيع الزمن الطويل في الحصول على فائدة قليلة، وهذا لا يكون إلا بتخليص الأفكار وتمحيص الطوايا من شوائب النزعات الشخصية، بأن نجعل الأعمال وقفا على المصالح العمومية التي نفعها في الحقيقة عائد عليكم وعلى أبنائكم.
إن التفات النظر إلى الخصوصيات يبعث في القلوب محاسدات ومنافرات تحمل على الخلاف الدائم، نعوذ بالله، وإنكم تعلمون أن الذين رقوا إلى ذروة العز وأوج الشرف لم ينالوا ذلك إلا بإخلاصهم في طلب النفع العام، فاعترف العالم بفضلهم وأجلتهم القلوب فأعلتهم أعلى المنازل، فثبتوا في مكانتهم ما داموا بحلية الإخلاص، وإني أهنئ نفسي بوقوفي بين عقلاء البلاد العارفين بحقوق بلادهم عليهم، العالمين بأن شرفهم معقود بشرف أوطانهم، الموقنين بأنهم لن يكونوا نوابا حقيقيين إلا إذا أقاموا على صدقهم براهين من العمل وحججا من الثبات في خطة الاعتدال، حتى يقنع بها البعيد كما عرفها القريب.
وفي علم حضراتكم أيها السادة أنني عند استلامي رياسة النظار، رفعت إلى جناب خديوينا المعظم تقريرا بينت فيه مبادئ الهيئة الحاضرة، وأظنكم قرأتموه وتأملتم معانيه، وقد تكرم علي جناب الخديوي بقبوله. وإني مؤمل فيكم أن تكونوا عضدا لنا وساعدا قويا على تتميم ما قصدنا، ليستقر أمر النظام وتتوفر لدينا أسباب الثروة والرفاهية، ونحفظ الحقوق التي لنا، ونؤدي الواجبات التي علينا، ونوفي بجميع عهودنا لمن عاهدناه، ونكون بذلك قد أرضينا سلطاننا الأعظم الذي يسره نجاحنا وتقدمنا، وأرضينا جميع الدول المتمدنة التي تحب أن ترانا حائزين لشرفنا، حافظين لحقوقنا قائمين بعهودنا، وآخر ما نتواصى به إلا نجعل للتعصب المشربي دخلا في الأعمال الوطنية التي كلفتكم البلاد أن تقوموا بأدائها، وأن تكون الوطنية الحقة هي الباعث القوي على كل فكر، والغاية القصوى من كل قول وعمل، نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا لما فيه رفعة أوطاننا وتقدم بلادنا، وأن تتمتع البلاد ببقاء حضرة خديوينا المعظم أيده الله.
ولما انتهى من خطبته قدم للمجلس نسخة الدستور مصدقا عليها من الخديو.
فنهض عبد السلام بك المويلحي، وألقى كلمة شكر للبارودي على إسراعه بالتصديق على الدستور، ورد عليه البارودي باسمه واسم زملائه بأنهم لم يفعلوا إلا الواجب، ثم ألقى سلطان باشا بلسان النواب كلمة شكر أخرى، وانتهت الجلسة إذ كانت الساعة السابعة.
وبعد انفضاض الجلسة توجه النواب إلى السراي الخديوية؛ ليؤدوا للخديو واجب الشكر ... فلما مثلوا بين يديه تلقاهم بالبشر والإيناس، وتقدم سلطان باشا بالنيابة عنهم وقال: «إن حضرات النواب وفدوا إلى هذه الساحة الفيحاء؛ ليقدموا للجناب المعظم شكرهم وامتنانهم على ما أولاهم جنابه الكريم من النعم، وما منحته حضرته العلية لأهل القطر من التفضل والإحسان.» ثم دعا للجناب الخديوي بدوام العز والإقبال وأمن جميع الحاضرين ... فوقع ذلك موقع القبول لدى الخديو وشكر النواب على صنعهم الجميل، ثم جلسوا ودارت بينهم أحاديث ودية.
وأعرب لهم الخديو عن ميله الغريزي لمحبة الإصلاح، وحسن مساعيه لمنفعة رعيته ، وأنه لا يقصد بهم إلا الخير، ولا يريد لهم غير خطة التقدم والعمران، ثم نصح لهم أن يسلكوا جادة الخير، ويسيروا في سبيل المنافع العمومية بقلوب ثابتة ونيات صادقة، متخذين الحزم مرشدا والسكون والتأني دليلا، ووعدهم بأنه مستعد لمساعدتهم في كل ما أرادوه من الأعمال النافعة للبلاد ... فخرجوا من لدنه شاكرين، ثم قصدوا إلى ديوان الداخلية، وكرروا الشكر لرئيس مجلس الوزراء فقابلهم بالترحاب، وكان عنده أثناء المقابلة وزراء المالية والحقانية والخارجية والأشغال ... فقدم لهم النواب شكرهم وثناءهم وأنابوا عنهم سلطان باشا في تقديم الشكر عنهم للوزراء، ثم انصرفوا فرحين مسرورين.
وأخذ مجلس النواب يضطلع بمهمته في كفاية وجهد يستحقان التقدير والثناء، ومع أنه لم يجتمع إلا زمنا وجيزا لم يتجاوز ثلاثة أشهر، فقد قام بطائفة صالحة من الأعمال، فقد قرر الدستور ... وهذا من أهم أعماله، ووضع النظام الداخلي للمجلس، وتباحث في مسائل هامة تتصل بتقدم البلاد ورفاهيتها كعلاج غلاء الأسعار وتعميم التعليم الابتدائي، ومنع تضخم المعاشات، ونظر في اقتراح قدمه نائب إسنا بإنشاء خزان أسوان وأقره المجلس، وهذا يدلك على أن نواب سنة 1882 لم يفتهم التفكير في أعظم مشروعات الري التي تمت في العهد الحديث. (3) ظهور الفتن
كانت مدة انعقاد المجلس فترة تقدم ونشاط، تمتعت مصر خلالها بالهدوء والسكينة في ظل النظام الدستوري، ولم تكد تنتهي الدورة النيابية حتى اكفهر جو الصفاء الذي ساد مصر من قبل، وأخذت الأحداث تتوالى على البلاد ... فكأن انفضاض المجلس كان نذيرا بالانتكاس والرجعية ... ولقد كان محتملا لو بقي المجلس منعقدا أن يعالج هذه الأحداث بالحكمة والروية، ولكن شاءت الأقدار والملابسات أن يضطرب الجو بعد انتهاء الدورة البرلمانية، فاحتملت وزارة البارودي وحدها تبعة معالجة الموقف، وواجهت مشكلات عدة داخلية وخارجية، وتفاقم الخلاف بينها وبين الخديو حتى أدى إلى استقالتها.
وأول الأحداث الداخلية التي انتابت البلاد بعد انفضاض مجلس النواب، هو مؤامرة لضباط الشراكسة ... وهي حادثة خطيرة كان لها تأثير كبير في تطور الثورة العرابية بل في مصير البلاد قاطبة ... وخلاصتها أنه في شهر أبريل سنة 1882 علم عرابي من طلبة باشا عصمت، قائد اللواء الأول أن بعض الضباط الشراكسة يأتمرون به، ويدبرون الأمر لقتله وقتل رؤساء الضباط الوطنيين والوزراء، وأن بعض من صدر إليهم الأمر منهم بالسفر إلى السودان كانوا قوام هذه المؤامرة، فعرض عرابي الأمر على الوزراء ثم على الخديو، فتقرر تحقيق هذه المؤامرة في مجلس حربي، وتألف هذا المجلس برياسة الفريق راشد باشا حسني.
فأخذ المجلس في التحقيق، وسأل من عرفت أسماؤهم من المتآمرين ... فدلوا على ثمانية عشر ضابطا مشتركين معهم في المؤامرة، فأمر المجلس بالقبض عليهم وأخذ في استجوابهم، فدل هؤلاء أيضا على غيرهم، فقبض عليهم ... حتى بلغ عدد المعتقلين نحو أربعين ضابطا، وفي مقدمتهم عثمان باشا رفقي وزير الحربية السابق وخصم عرابي اللدود، وقد سيق المقبوض عليهم إلى سكنة قصر النيل وعوملوا بالغلظة والشدة.
واختلفت الآراء في حقيقة هذه المؤامرة، فقال بعض الرواة: إنها مؤامرة حقيقية، كان القصد منها اغتيال رؤساء الحزب العسكري وفي مقدمتهم عرابي، وقال البعض الآخر: إنها مؤامرة خيالية قوامها فزع عرابي وخوفه على حياته، فصدق الرواية التي خلقتها أوهام المفسدين وأراد الانتقام من خصومه، وقد كان عرابي لا يفتأ تساوره الهواجس من ناحية خصومه.
وفي 30 أبريل سنة 1882 أصدر المجلس حكمه في القضية، وهو يقضي على الأربعين ضابطا المتهمين بالنفي المؤبد إلى أقاصي السودان، مع تجريدهم من الرتب العسكرية والامتيازات والنياشين، وأن يكونوا متفرقين في الجهات التي ينفون إليها، ولا تكون هذه الجهات في مركز الحكمدارية «الخرطوم» ولا المديريات ولا السواحل، وصدر هذا الحكم أيضا على اثنين من غير العسكريين مع تجريدهما من الحقوق المدنية، وأحيلت محاكمة خمسة غيرهما إلى المحاكم الأهلية. وحكم على راتب باشا الذي عد محركا للمؤامرة بالتجريد من الرتب العسكرية والامتيازات والنياشين وحرمانه العودة إلى مصر، وإذا عاد يقضى عليه بالنفي على النحو السابق.
رفع الحكم إلى الخديو للتصديق عليه ... فرآه بالغا منتهى القسوة، فامتنع عن إقراره، ووقع من أجل ذلك خلاف كبير بينه وبين الوزارة، إذ أصر على تعديل الحكم، وتمسكت الوزارة بإقراره ، وانتهى الأمر بأن أصدر الخديو «إرادة سنية» في 9 مايو سنة 1882 بتعديل الحكم إلى النفي من القطر المصري والترخيص للمحكوم عليه بالتوجه أنى شاءوا خارج القطر مع عدم حرمانهم رتبهم ونياشينهم، وقد وقع الخديو هذه الإرادة بحضور السير إدوار مالت والمسيو سنكفكس قنصلي بريطانيا وفرنسا.
على أن هذا التعديل لم يحسم الخلاف بين الخديو والوزراء، فقد ذهب البارودي إلى الخديو عقب توقيعه أمر التعديل، ولامه في لهجة شديدة لنزوله على إرادة قناصل الدول، وإهماله رأي الوزراء، وطلب إليه إضافة عقوبة التجريد من الرتب العسكرية إلى أمر التعديل ... فاجتمع القناصل ثانية لدى الخديو عقب هذه المقابلة، وانتهى الاجتماع بإصرار الخديو على «الإرادة السنية» التي أصدرها ...
فهاج ذلك سخط الوزراء، واجتمعوا يوم 10 مايو اجتماعا طويلا دام ثماني ساعات انتهوا فيه إلى وجوب انعقاد مجلس النواب للنظر في هذا الخلاف - وكانت قد فضت دورته - وبدا على اجتماعهم روح المعارضة الشديدة للخديو، فأنكروا عليه حق العفو ... وصرح الخديوي من ناحيته أنه لا يطيق استمرار هذه الحال؛ لأنه يراد المساس بامتيازاته. ولما طال اجتماع الوزراء قلق قناصل الدول وأوجسوا خيفة من تفاقم الخلاف، وجاءوا أثناء الاجتماع، وسألوا عما إذا كان ثمة خطر يتهدد حياة الرعايا الأوروبيين، فأجيبوا بألا شيء يتهددهم البتة، وأبلغهم وزير الخارجية «مصطفى باشا فهمي» أنه بإزاء استحالة الاتفاق مع الخديو ... ولأن رئيس الوزارة لا يمكن أن يستقيل في هذا الظرف، فإن المجلس قرر دعوة مجلس النواب إلى الانعقاد؛ لينظر في الخلاف القائم بين الخديو والوزراء.
وكان لهذا القرار خطورته؛ لأن عرض الخلاف بين الخديو والوزارة على مجلس النواب مع إصرار الخديو على موقفه، معناه التهديد بخلعه ... وهذا ما كان عرابي وصحبه يذكرونه في أحاديثهم.
ولما كانت الدعوة إلى اجتماع مجلس النواب يجب أن تصدر عن الخديو ... فقد أوفد الوزراء حسين باشا الدره مللي وكيل الداخلية إلى الخديو لإبلاغه القرار، ولكن الخديو رفض عقد المجلس، فدعت الوزارة النواب إلى الاجتماع بواسطة المديرين، وهذا لا يعد اجتماعا قانونيا طبقا لأحكام الدستور «اللائحة الأساسية».
ولقد لبى أكثر النواب الدعوة، فجاءوا القاهرة ... وتعددت اجتماعاتهم الخاصة، وكان الوزراء لا يفتئون يعقدون مجلسهم لتقرير خطتهم تجاه الخلاف المتفاقم بينهم وبين الخديو.
وفي ظهر يوم 12 مايو سنة 1882 اجتمعوا في دار البارودي ومعهم بعض رؤساء الجيش ... ثم جاءهم محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، يصحبه عبد السلام بك المويلحي أحد النواب البارزين، ثم جاءهم بعض النواب، وتحدثوا في أمر الخلاف وتعددت الاجتماعات من النواب والوزراء، وكان فريق من النواب يميل إلى حسم الخلاف بالحسنى، إذ رأوا أن استمرار الشقاق يهدد البلاد بأعظم الأخطار ...
ولم يوافق النواب عامة على عقد المجلس بصفة رسمية، لعدم مشروعية الاجتماع غير العادي إلا بأمر من الخديو، كما تقضي بذلك المادة 9 من الدستور ... وتعددت مع ذلك اجتماعاتهم غير الرسمية، ووقف النواب من أمر هذا الخلاف موقف الاستقلال والاعتدال، فلم يعتبروا أنفسهم آلات صماء في يد الحزب الغالب، ولم يذعنوا لإرادة المسيطرين على هذا الحزب، بل تدبروا الأمر بوحي من إرادتهم، فبرهنوا على استقلال يحمدون عليه، وكانوا لخلفائهم مثلا صالحا في الاضطلاع بأعباء النيابة، وتقدير الأمانة التي في عهدتهم.
وقد سوي الخلاف مؤقتا بين الوزارة والخديو، ببقاء الوزارة في مركزها مع تعديل حكم المجلس العسكري طبقا لما ارتآه الخديو.
وكان يجمل بعرابي وصحبه أن يقبلوا هذا التعديل من بادئ الأمر بغير حاجة إلى إيجاد هذه الأزمة ... وكان الأنفع للبلاد ما داموا قد قبلوا التعديل في النهاية ألا يثيروا من أجله حربا بينهم وبين الخديو، في وقت كانت الأخطار تكتنف مصر فيه وتتهدد استقلالها، ولم يكن الخلاف الذي شجر بينهم وبين الخديو في هذه الحادثة مما يستوجب عقد مجلس النواب؛ لأن عقد المجلس بصفة مستعجلة، وبغير الأوضاع القانونية، معناه إعلان الثورة على الخديو، ولم يكن بقي من أوجه الخلاف بعد أن اتفقت وجهة نظر الفريقين على تعديل الحكم، سوى تجريد الضباط المحكوم عليهم من الرتب العسكرية أو عدم تجريدهم ... والمجالس النيابية لا تعقد بصفة غير عادية من أجل خلاف صغير كهذا.
ومما يؤخذ على الزعماء أنهم خلال تلك الأزمة قد جاهروا في اجتماعاتهم برغبتهم في خلع الخديو، وتعيين الأمير حليم باشا مكانه، ولم يستمعوا إلى نصائح المعتدلين الذين حذروهم عواقب هذا الطيش ... ولو كان على رأس الوزارة رجل أكثر حكمة وأبعد نظرا في الأمور من البارودي، لما استفحل الخلاف بينها وبين الخديو إلى هذا الحد، وهذا ما دعانا إلى الاعتقاد بأن سقوط وزارة شريف باشا لم يكن من مصلحة البلاد في شيء، وأنه بداية المرحلة الثانية للثورة العرابية، مرحلة الخطل والشطط. (4) حضور الأسطولين الإنجليزي والفرنسي
استفاضت الأنباء في غضون الخلاف بين الوزارة والخديو عن اعتزام إنجلترا وفرنسا إرسال أسطوليهما إلى الإسكندرية، وقد تحققت هذه الأنباء ... فقررت الدولتان على أثر ما بلغهما من اشتداد الخلاف بين الخديو والوزارة، ودعوة مجلس النواب إلى الاجتماع بدون أمره، إرسال أسطوليهما إلى مصر، إذ عدتا هذه الحالة حالة ثورة تستدعي التدخل، وأفضى اللورد «جرانفيل» وزير خارجية إنجلترا بهذه الفكرة يوم 12 مايو سنة 1882 إلى المسيو «تيسو» سفير فرنسا في لندن، قائلا إن الحاجة ماسة إلى القيام بمظاهرة بحرية في مياه الإسكندرية، وقد صادفت هذه الفكرة قبولا من الحكومة الفرنسية، وسوغت الدولتان هذا العمل بأن الغرض منه حماية رعاياهما من الأخطار التي يستهدفون لها، ولم يكن ثمة خطر ولا خوف من هذه الناحية، وإنما هي حجة مصطنعة ووسيلة باطلة تستر الغرض الحقيقي، وهو خلق الذرائع للتدخل المسلح في شئون مصر.
وتلك كانت المظاهرة البحرية الثانية التي قامت بها الدولتان خلال الحوادث العرابية، والأولى كانت في شهر أكتوبر سنة 1881 لمناسبة حضور الوفد العثماني الأول كما تقدم بيانه، والثانية كانت أشد خطرا من الأولى، إذ إنها لم تكن مظاهرة فحسب، بل كانت مقدمة لضرب الإسكندرية وللاحتلال البريطاني.
اتفقت الدولتان على أن ترسل كل منهما ست بوارج إلى المياه المصرية، وجاءت الأنباء بأن الأسطولين على أهبة الحضور، فقوبل الخبر في مصر بالقلق والانزعاج.
كانت هذه الأنباء جديرة بتحذير العرابيين والخديو عواقب الخلاف بينهما؛ لأن مجيء الأسطولين الإنجليزي والفرنسي كان نذيرا بالتدخل المسلح في شئون مصر ... ولكن لم يعتبر الفريقان بهذا النذير واستمر كل منهما يكيد للآخر، وهكذا تغلبت الشهوات الشخصية ونزوات الرءوس على مصالح الوطن العليا في أشد الساعات خطرا.
أعلن زوال الخلاف ظاهرا يوم الإثنين 15 مايو سنة 1882، في الوقت الذي كانت البوارج الإنجليزية والفرنسية تتأهب لتمخر العباب قاصدة الإسكندرية.
بدأت البوارج تصل إلى مياه الإسكندرية يوم الجمعة 19 مايو سنة 1882، ففي أصيل ذلك اليوم جاءت مدرعة إنجليزية، وفي صباح السبت 20 منه دخلتها سفينتان أخريان، وثلاث سفن فرنسية، وكانت السفن الإنجليزية بقيادة الأميرال السير بوشان سيمور، والفرنسية بقيادة الأميرال كونراد، ولما كان مجيئهما «بصفة ودية» فقد أطلقت المدافع تحية لقدومهما!
وبعد ظهر يوم السبت نزل الأميرالان إلى البر مرتدين ملابسهما الرسمية، وزارا محافظ الإسكندرية، فرد لهما الزيارة تبعا للتقاليد المعتادة ...
وفي 21 مايو جاءت الإسكندرية أيضا سفينتان حربيتان يونانيتان «تأمل!» وبارجة إنجليزية أخرى قادمة من مالطة، وفي يوم الإثنين جاءت بارجة إنجليزية وتوجهت إلى بورسعيد، وفي أوائل يونيو وصلت ثلاث بوارج إنجليزية أخرى إلى الإسكندرية، كما جاءت بارجة فرنسية وجاءت أيضا بارجة أمريكية. (4-1) مطالب إنجلترا وفرنسا
لم يكد يحضر الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى مياه الإسكندرية، حتى أخذت الدولتان تخاطبان مصر بلغة التهديد والبلاغات الرسمية ... فبدأتا بطلب استقالة وزارة البارودي وخروج عرابي من القطر المصري، وأخذ المسيو سنكفكس قنصل فرنسا العام على عاتقه أن يسعى أول الأمر إلى هذا الغرض «بطريقة ودية» فاتصل بزعماء العرابيين بواسطة سلطان باشا؛ ليحملهم على قبول هذه المطالب من غير حاجة إلى بلاغ نهائي. فعرض عليهم سلطان باشا هذه المطالب كأنها مقترحات من عنده، فرفضوا قبولها، ومن ذلك الحين فقد سلطان باشا ثقة العرابيين، وبدأ انحيازه إلى صف الخديو.
ولو أن عرابي قبل هذه المقترحات وغادر البلاد لكان ذلك تضحية منه في سبيل مفاداتها من التدخل الأجنبي المسلح، ولتركها على الأقل في ظروف أسعد حالا، وأهون من رحيله عنها بعد هزيمة التل الكبير.
وفي يوم الخميس 25 مايو سنة 1882 جاءت تعليمات الحكومتين إلى قنصليهما ... ومضمونها تقديم البلاغ النهائي الذي أعدتاه إلى الوزارة المصرية، وانتظار الجواب منها، وبعد ظهر ذلك اليوم قدم القنصلان إلى البارودي بلاغ الدولتين في شكل مذكرة «نوتة» طلبا فيها استقالة الوزارة، وإبعاد عرابي باشا عن القطر المصري مؤقتا مع حفظ رتبه ومرتباته ونياشينه، وإقامة عبد العال حلمي باشا وعلي فهمي باشا الديب في الأرياف، بجهات لا يخرجان منها مع حفظ رتبهما ومرتباتهما ونياشينهما.
رد الوزارة
اجتمع الوزراء يوم ورود المذكرة، وقرروا رفض مطالب الدولتين، ويقول البارودي إنه نصح عرابي بقبولها فلم يقبل هو وإخوانه، وأيد هذه الرواية أحمد بك رفعت سكرتير مجلس الوزراء ... إذ قال إن البارودي أفضى إليه بأنه مقتنع بقبول هذه المطالب «ولكن الجهادية لم تقتنع»، فقال له أحمد بك رفعت: «اقنعهم»، فأجابه البارودي: «لا يمكنني، فإننا متحالفون مع بعض». وهذا يعطيك فكرة عن الحالة السياسية في ذلك الوقت العصيب، ويدلك على أن البارودي كان يأتمر بأوامر عرابي في السياسة العامة، ولو خالفت رأيه ... وليس هذا ما يجب على رئيس الوزارة أن يعمله في أزمة خطيرة يرتبط بها كيان البلاد.
أما الخديو فقد أعلن قبول مطالب الدولتين، فاستقالت وزارة البارودي في 26 مايو سنة 1882 احتجاجا على مطالب الدولتين وعلى قبول الخديو إياها، فقبل الخديو استقالتها، وهاجت الخواطر وخاصة بين الضباط؛ لأن قبول استقالة الوزارة معناه إقصاء عرابي باشا عن وزارة الحربية.
وبالرغم من استقالة الوزارة، فإن عرابي بقي على اتصال دائم بضباط الجيش لكي يضمن أن لا يقبل الجيش وزيرا للحربية سواه ... وهذا ظاهر من الخطاب الذي أرسله بتاريخ 27 مايو سنة 1882 إلى أنصاره من الضباط، فقد أخبرهم فيه أنه مع استقالته من وزارة الحربية، فإنه لم يستقل من رياسة الحزب الوطني، ويطلب إليهم أن يأتمروا بأوامره وأن يحافظوا على الأمن.
ويقول عرابي في مذكراته: أنه أرسل هذه الرسالة تلغرافيا إلى جميع مراكز العسكرية، بعد أن قابله قناصل الدول وطلبوا إليه تأمين رعاياهم.
لم يكن من الميسور في هذه الظروف تأليف وزارة جديدة، تخالف الوزارة المستقيلة في خطتها وتنال ثقة النواب والضباط.
ففي صباح يوم السبت 27 مايو سنة 1882؛ أي غداة استقالة الوزارة، عقد الخديو في سراي الإسماعيلية اجتماعا كبيرا برياسته، حضره النواب والعلماء والأعيان وأصحاب المناصب والرتب ... وكان من الحاضرين شريف باشا، فكلفه الخديو تأليف وزارة جديدة، فأبى وأصر على الإباء.
اجتماع خطير
وفي غروب ذلك اليوم - 27 مايو - اجتمع النواب في دار محمد سلطان باشا رئيس مجلس النواب، ووفد عليهم كبار العلماء ... فعقدوا اجتماعا حافلا، ثم جاءهم عرابي وهو في شدة الغضب، فأخذ يخطب فيهم متهددا متوعدا كل من يناصر الخديو.
وجاء جمع من كبار الضباط، منهم عبد العال حلمي باشا وعلي فهمي باشا الديب ومحمد عبيد بك، وبصحبتهم نفر غير قليل من صغار الضباط والجند، فدخلوا مكان الاجتماع بشكل مظاهرة عسكرية، يطلبون خلع الخديو علنا ويتهددون من يظهر له الولاء، وقد بلغ تهور العرابيين أشد ما يكون ... إذ ألقى عرابي خطبة ملأها طعنا في الخديو وفي العائلة الخديوية، ونادى بخلعه، وختم خطبته بقوله: «من كان معنا فليقم!» فحدثت ضجة كبيرة في المكان ووقف الضباط ... ولكن معظم النواب والملكيين لم يقوموا، فتهددهم الأميرالاي محمد بك عبيد بالسيف، فظلوا جالسين، وتبين من ذلك الموقف أن النواب لا يوافقون عرابي على خلع الخديو.
ولم يكتف عرابي بذلك، بل هدد بمحاصرة سراي الإسماعيلية التي كان الخديو مقيما بها، وأمر بإحضار آلاي خليل بك كامل لهذا الغرض، وانتهى الاجتماع في هرج ومرج دون أن يظفر بضم النواب إلى صفه، ولما رأى هو وطلبة ويعقوب سامي أن النواب لا يوافقونهم على إعلان خلع الخديو، اكتفوا بالإلحاح في بقاء عرابي وزيرا للحربية، فقبل سلطان باشا أن يقوم بهذه الوساطة لدى الخديو في ذلك ... وقابل سلطان باشا الخديو في ذلك اليوم بسراي الإسماعيلية، وتحدث معه مليا في شأن الخلاف وإيجاد طريقة لتسويته، ثم اجتمع بدار سلطان باشا جمع من النواب والعلماء وضباط الجيش، وانتهوا إلى الاتفاق على مقابلة الخديو، ورجائه إبقاء عرابي باشا وزيرا للحربية، لكي لا يضطرب حبل النظام، فذهب وفد من النواب مؤلف من سلطان باشا وحسين باشا الشريعي، وسليمان باشا أباظة إلى سراي الإسماعيلية، وقابلوا الخديو وعرضوا عليه رغبتهم في بقاء عرابي «ناظرا للجهادية»، وبعد إصراره على رفض طلبهم عاد فقبل رجاهم، وأصدر أمرا إلى عرابي بإعادته إلى وزارة الحربية هذا نصه:
ولو أنكم استعفيتم ضمن هيئة النظار التي استعفت، ولكن مراعاة لحفظ الراحة والأمنية، استصوبنا بقاءكم على نظارة الجهادية والبحرية، وأصدرنا أمرنا هذا لكم لتعلموه وتبادروا بإجراء ما فيه، انتظام أحوال العسكرية بالطريقة الكاملة لحفظ الأمنية العمومية على الوجه المرغوب كما هو مقتضى إرادتنا.
عاد إذن عرابي إلى تقلد وزارة الحربية، ورياسة الجيش والسيطرة على الحكومة، وظلت النفوس قلقة تترقب ما تتمخض عنه الحوادث، وبقي عرابي وصحبه نافذي الكلمة في شئون الحكومة كافة.
مذبحة الإسكندرية
(1) موقف الدول
ظلت إنجلترا مشتركة مع فرنسا في موقفهما حيال مصر حتى حضور الأسطولين، وقد ظهر اشتراكهما في العمل فيما وقع من الأحداث السابقة، كوضع الرقابة الثنائية، ثم المظاهرة البحرية الأولى التي وقعت في أكتوبر سنة 1881، ثم تقديم مذكرة 7 يناير سنة 1882 التي أدت إلى سقوط وزارة شريف، وتقديم المذكرة الأخيرة التي أدت إلى استقالة وزارة البارودي ... على أن إنجلترا قد اعتزمت بعد أن قطعت هذه المرحلة التمهيدية أن تنفرد بالعمل تحقيقا لأغراضهما الاستعمارية ... ولم يخف اللورد جرانفيل هذه النية عن الحكومة الفرنسية، فقد أبلغ المسيو دي فريسينيه رئيس وزراء فرنسا بما يأتي: «إننا كنا سعداء بالأمس إذ شاطرنا حكومتكم رأيها، حين كنا نأمل الوصول إلى نتيجة مرضية، ولكن مع الأسف ليست هذه هي الحالة الآن.»
وصرح السير إدوار مالت قنصل إنجلترا العام في مصر يوم 27 مايو سنة 1882: «أنه لا يعتبر نفسه مقيدا بالوسائل المنطوية على التساهل الواردة في مذكرة 25 مايو.»
وبدأت نية الانفراد بالعمل من الجانب الإنجليزي بمظهر فعلي، فيما بعث به أميرال الأسطول البريطاني إلى حكومته يوم 29 مايو سنة 1882 ينبئها بأن المصريين ينشئون بطارية تجاه إحدى بوارج الأسطول، ويطلب إرسال بوارج أخرى، فلبت الحكومة طلبه، ودل هذا العمل على نية إنجلترا في احتلال مصر.
ورأى مسيو دي فريسينيه أنه يستطيع إنقاذ الموقف، بدعوة الدول إلى عقد مؤتمر للنظر في المسألة المصرية، فعرض في 30 مايو سنة 1882 على الدول الأوروبية الكبرى عقد هذا المؤتمر ... فلم تتردد إنجلترا في قبول هذه الفكرة، وبادر اللورد جرانفيل وزير خارجيتها بإعلان قبولها، إذ كان يعتقد أن السياسة لا يصعب عليها أن تبتدع الحوادث التي تسوغ تدخلها المنفرد في مصر. (2) الوفد العثماني الثاني
في أثناء أزمة استقالة وزارة البارودي، أرسل الخديو توفيق برقية إلى السلطان ينبئه فيها عن هياج الضباط، فجاءه الرد من «الباب العالي» بأن السلطان باعث إليها بلجنة للنظر في المشكلة ... ففي اليوم الثاني من شهر يونيو سنة 1882 عين مصطفى درويش باشا معتمدا عثمانيا ساميا للحضور إلى مصر، وعهد إليه برياسة وفد أرسله السلطان إلى مصر لمعالجة الحالة فيها، وكان هذا جوابها على رسالة الخديو، وعلى فكرة عقد مؤتمر دولي للنظر في المسألة المصرية، فقد كان ظنها أن حضور «مندوب شاهاني» يغني عن عقد مثل هذا المؤتمر ويكفي لإعادة السلام والوئام في مصر، وكذلك كانت سياستها قائمة على الجهل وقصر النظر، فبينما كانت إنجلترا تعمل على التدخل الحربي، وترسل أسطولها تمهيدا وتأييدا لهذا التدخل، فإن الحكومة التركية توهمت أن مجرد إيفادها مندوبا ساميا كدرويش باشا يعيد الأمور إلى نصابها في مصر، ويحول دون تدخل إنجلترا، وتوهمت أن عدم اشتراكها في المؤتمر يمنع الدول من أن تتدخل أو تبرم أمرا في المسألة المصرية.
كان هذا هو الوفد العثماني الثاني الذي جاء مصر في أثناء الحوادث العرابية، والوفد الأول هو الذي حضر في شهر أكتوبر سنة 1881 برياسة علي نظامي باشا كما تقدم بيانه.
ويهمنا أن نقرر أن كلا الوفدين لم يحضر بنية خالصة نحو مصر، بل حضر للمظاهرة وللإعلان عن سلطة تركيا في القطر المصري، دون أن يعمل كلاهما أي عمل نافع في فض الخلاف بين الخديو والجيش أو في إنقاذ مصر من مطامع إنجلترا.
جاء الوفد العثماني الثاني برياسة درويش باشا في الوقت الذي اكتمل فيه عدد البوارج الإنجليزية والفرنسية في مياه الإسكندرية ... وقد كانت رؤية هذه البوارج كافية لإفهامه أن الموقف جد عصيب، وأن حضوره بصفته مندوبا عن السلطان لا يمكن أن يؤثر في الموقف شيئا بإزاء تلك المدافع الضخمة الفاغرة أفواهها، وتلك المعدات الحربية التي تنذر بالشر والدمار، وأن هذا الموقف لا يحله حضور مندوب عثماني عدته المظاهر الفارغة التي يحاط بها، ولا يهمه قبل كل شيء إلا الرشا والأموال التي يتطلع إليها. •••
كل ما فعلته تركيا إذن تجاه حضور الأسطولين الإنجليزي والفرنسي أن أوفدت درويش باشا المذكور، ثم أرسلت قبل وصوله إلى مصر تلغرافا في 5 يونيو بأن وزارة الخارجية البريطانية أبلغت السفارة التركية في لندن، بأن الجنود المصرية تجري التجهيزات والترميمات في حصون الإسكندرية على نية تهديد الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، وأن الباب العالي يطلب منعها إذا كانت جارية، ثم أردف ذلك بتلغراف آخر في اليوم التالي يستعجل الرد.
وكان هذا البلاغ من وزارة الخارجية البريطانية بداية التحرش بالسلطات المصرية، إذ بني ما زعمه الأميرال سيمور من أن السلطات المصرية تحصن القلاع المواجهة للأسطول، فكان ذلك السبب المنتحل باعثا لتركيا على طلب الكف عن هذه التجهيزات، ورأى عرابي إزاء هذا الإلحاح أن يأمر بالكف عنها، وأرسل إلى الخديو كتابا بذلك في 5 يونيو سنة 1882 خلاصته أن هذه التجهيزات إنما هي ترميمات اعتيادية لا يمكن الاستغناء عنها في أي وقت، وأنها لم تكن لقصد سيئ بل هي ضرورية لبقاء الاستحكامات الواجب حفظها، وتعهدها بدوام الترميم والإصلاح.
ونوه في النهاية إلى أن استمرار وجود تلك الترميمات هو السبب الوحيد لتسكين روع الأمة المصرية، وإزالة القلق والاضطراب المستولي على القلوب من وجود الأسطول الإنجليزي في المياه المصرية، وإجرائه حركات ومناورات حربية داخل الميناء وخارجه وأخذه مقاسات أعماق المياه، واقتراب السفن الإنجليزية من الشواطئ أمام الاستحكامات، وأن هذه الإجراءات هي التي تعتبر تهديدات حقيقية، وهي التي هيجت أفكار الأمة المصرية وأحدثت الاضطراب، ومع ذلك فإنه حرر بوقف الترميمات المذكورة «رجاء عودة الدونانمة الإنجليزية»، وقد وقفت فعلا أعمال الترميم من ذلك الحين.
وإنك لترى في موقف تركيا حيال مصر إحراجا ظاهرا لها، فإن كل الدلائل تدل على نية التحرش من جانب الإنجليز ، ومع ذلك فإن الحكومة التركية لم تتحرك إلا لتطلب من السلطات المصرية الكف عن إجراء الترميمات بالحصون، وكان هذا الطلب تأييدا ظاهرا للسياسة الإنجليزية، ولم يكن إيفاد درويش باشا في هذا الموقف العصيب إلا عملا عقيما لم تفد مصر منه شيئا.
وصل درويش باشا إلى الإسكندرية يوم 7 يونيو سنة 1882 على ظهر اليخت السلطاني «عز الدين» يصحبه ابنه، ومعه الشيخ أحمد أسعد أحد المقربين إلى السلطان عبد الحميد، ووكيل الفراشة بالمدينة المنورة وبعض الضباط والمأمورين ... وبلغ عدد الوفد وحاشيته 58 شخصا. وقد كان كلا الفريقين يعمل على اجتذابه إلى ناحيته، وبدأ هذا التزاحم منذ وصل الوفد إلى الإسكندرية، فقد أوفد الخديو علي ذو الفقار باشا السر تشريفاتي يصحبه حسن حلمي باشا من أعضاء مجلس الأحكام، وطه لطفي باشا من الياوران لاستقباله على ظهر اليخت.
وأرسل عرابي من ناحيته يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الحربية، ووقع الخلاف بين الرسولين في أثناء المقابلة، ولكن درويش باشا استقبل كليهما بالبشاشة، ونزل وصحبه بسراي رأس التين، وفي اليوم التالي ركبوا قطارا خاصا أقلهم إلى العاصمة، وقد عرجوا في الطريق على مدينة طنطا حيث زاروا مقام السيد أحمد البدوي، يتبركون بزيارته ... ثم استأنفوا السفر إلى أن بلغوا العاصمة، ونزلوا بسراي الجزيرة التي أعدت لإقامتهم حتى تنتهي مهمتهم، وبعد أن أخذوا راحتهم ذهبوا إلى سراي الإسماعيلية، فقابلهم الخديو بالترحاب ورد الزيارة للمندوب العثماني بسراي الجزيرة، على أن الخديو لم يكتم عن درويش باشا استياءه من حسن مقابلته لمندوب عرابي، ومن لهجة الخطاب حين قابله بسراي الإسماعيلية ... فتظاهر درويش باشا بأنه جاء لتثبيت سلطة الخديو.
وكانت خطة الوفد أن يتظاهر لكلا الفريقين المتخاصمين (الخديو والعرابيين) أنه معه ... فمن مظاهر تأييده للعرابيين أنه طلب نحو مائتي نيشان لضباط الجيش مكافأة لهم على ولائهم وإخلاصهم «للذات الشاهانية»، وطلب لعرابي باشا النيشان المجيدي من الطبقة الأولى، فكان هذا علامة على رضاء الآستانة عنه وعن مسلكه، على أن درويش باشا قد انتهى إلى الانضمام علانية للخديو ...!
وظهر تحول درويش باشا إلى جانب الخديو من نصحه لعرابي بالذهاب إلى الآستانة ليقابل السلطان، وأكد له أنه سيلقى منه كل رعاية وإكرام، وقد فطن عرابي إلى عواقب هذه النصيحة، وأنه قد لا يعود من الآستانة إذا هو ذهب إليها، فاعتذر للمشير العثماني بأن الأمة لا تسمح له بمغادرة البلاد، والنصيحة وإن كانت في ذاتها ليست صادرة عن نية حسنة، ولكننا نعتقد أن رحيل عرابي في تلك الآونة كان خيرا من بقائه في مصر، ومهما تكن عواقب رحيله عنها، فإنها تهون إلى جانب ما حل بمصر وبعرابي ذاته من الكوارث بعد ذلك.
ولكي نقدر مبلغ ما كان لحضور درويش باشا من الأثر، ومبلغ عجزه عن معالجة الموقف، يكفي أن نذكر أنه لم يكد يمضي على حضوره بضعة أيام حتى وقعت مذبحة الإسكندرية المشئومة، وذلك في 11 يونيو سنة 1882، فكانت إعلانا رهيبا بإخفاق مهمة المندوب العثماني، وقد حضر ضرب الإسكندرية يوم 11 يوليو، ثم انقلب إلى الآستانة في 19 يوليو سنة 1882 دون أن يعمل أي عمل لمنع وقوع هذه الكوارث. (2-1) بعد استقالة البارودي
كانت الحالة في أشد الاضطراب بعد استقالة وزارة البارودي، فالوطنيون من جهة توقعوا شرا مستطيرا من مجيء الأسطولين الإنجليزي والفرنسي، وأخذوا يترقبون الحرب والقتال من ساعة إلى أخرى، والأجانب من جهة أخرى علموا أن البلاد قادمة على حرب ... فكانوا يخشون على حياتهم أن تستهدف للخطر إذا قامت الحرب المنتظرة، فمصدر الاضطراب هو في مجيء الأسطولين لا في استقالة وزارة البارودي ذاتها؛ لأن هذه الاستقالة ما كانت لتحدث في البلاد حدثا لو وقعت في ظروف عادية.
فلو أنها استقالت دون أن يكون الأسطولان مرابطين في الإسكندرية لأمكن حل الأزمة الوزارية بغير عناء كبير، إما بإعادة وزارة البارودي ذاتها، أو بتأليف وزارة أخرى تضطلع بأعباء الحكم وتعمل على تهدئة الخواطر، ولكن وجود الأسطولين قد أوجد حالة غير طبيعية، إذ كان مجيئهما مظهرا للتهديد والوعيد ... فبقيت مناصب الوزارة شاغرة منذ 27 مايو سنة 1882، وتولى الخديو سلطة الحكم مؤقتا، ثم اضطر أن يعيد عرابي باشا إلى وزارة الحربية؛ خوفا من انتفاض الجيش على الحكومة ، وبقيت الوزارات الأخرى شاغرة.
وأخذ الأجانب يهاجرون من القاهرة والأقاليم إلى الإسكندرية، ليكونوا تحت رعاية الأسطولين وعلى مقربة منهما، فغصت مدينة الإسكندرية بالأجانب من سكانها، ومن القادمين إليها من الأقاليم، وكان احتشادهم فيها من الأسباب الباعثة على تفاقم الهياج؛ لأن أحاديثهم كانت تدور حول اقتراب وقوع القتال، وما يستهدفون له من غضب الأهلين إذا نشبت الحرب بل قبل نشوبها؛ لأن مجرد وجود الأسطولين في مياه الإسكندرية، وتقديم بلاغ الدولتين إلى الحكومة المصرية وإصرارهما على إجابة مطالبهما ... كل ذلك كان رمزا لاعتداء الدولتين الأوروبيتين على البلاد وإهاجة الخواطر. (3) مذبحة الإسكندرية
في هذا الجو من اضطراب الخواطر وقعت الحادثة المعروفة بمذبحة الإسكندرية ... ففي يوم الأحد 11 يونيو سنة 1882، في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، وقع شجار بين أحد المالطيين من رعايا الإنجليز وأحد الأهلين يدعى «السيد العجان» ... كان المالطي هو البادئ فيه بالعدوان، فقد كان الوطني صاحب حمار ركبه المالطي، وأخذ يطوف به من صبيحة النهار متنقلا من قهوة إلى أخرى، وانتهى طوافه إلى حانة «خمارة» قريبة من قهوة القزاز بالقرب من مخفر اللبان بآخر شارع «السبع بنات» ... فطالبه الوطني بأجرة ركوبه، فلم يدفع له سوى قرش صاغ واحد، فجادله في قلة الأجر، فما كان من المالطي إلا أن أشهر سكينا طعنه بها عدة طعنات دامية مات على إثرها.
وقع هذا الحادث في الزقاق الكائن خلف «قهوة القزاز»، فهرع رفاق القتيل إلى ذلك المكان، يريدون أن يمسكوا بالقاتل، ولكنه فر إلى أحد المنازل المجاورة، وأخذ المالطيون واليونانيون الساكنون بالقرب من مكان الحادث يطلقون النار على الأهلين من الأبواب والنوافذ، فسقط كثير منهم بين قتيل وجريح ... فثارت نفوس الجماهير تطلب الانتقام لمواطنيهم، وتحركت طبقة الدهماء للاعتداء على الأوروبيين عامة، فأخذوا يهجمون على كل من يلقونه منهم في الطرقات أو في الدكاكين ويوسعونهم ضربا ... وكان سلاحهم في هذه المعركة العصي والهراوات ليس غير.
وانبث الدهماء في المدينة يستنفرون الناس للقتال، ويقتلون من يلقونه من الإفرنج ضربا بالعصي والهراوات، ونهبوا دكاكين شارع السبع بنات، وامتد الهياج من هذا الشارع إلى الشارع الإبراهيمي وإلى شارع الهماميل، وشارع المحمودية وجهة الجمرك والمنشية وشارع الضبطية «رأس التين» وغيرها من الشوارع التي يقطنها الأوروبيون أو يمرون منها، وقد قتل كثير منهم أمام الضبطية، إذ كانوا قادمين من الترسانة عائدين من زيارتهم للبوارج الإنجليزية والفرنسية، وكان الأوروبيون من ناحيتهم يطلقون الرصاص من النوافذ على الأهلين، فقتل من الجانبين خلق كثير. •••
وإذ كان البادئ بالعدوان أحد الرعايا «المالطيين» وقد شاهده بعض الحاضرين يلوذ بالفرار إلى منزل يسكنه مواطنوه، فقد أرسل قسم اللبان إلى المستر كوكسن قنصل إنجلترا لإيفاد أحد موظفي القنصلية لكي يخرج المعتدي من ذلك المنزل، فحضر المستر كوكسن بنفسه أثناء اشتداد الهياج، فأصيب بضربة حجر وعصا جرح بسببها جرحا بليغا، وجرح أيضا في ذلك اليوم قنصل اليونان وقنصل إيطاليا، فكانت إصابة القناصل من مظاهر خطورة الحالة.
وكان عمر باشا لطفي محافظ المدينة حين بدأت الحادثة، يتولى رياسة قومسيون تحقيق الجمرك بدار المحافظة، فأبلغه أحد موظفي الضبطية نبأ الشجار الذي وقع بين الوطني والمالطي، وكان ذلك في نحو الساعة الثالثة بعد الظهر، فأوفد حسين بك فهمي وكيل المحافظة إلى مكان الواقعة لفض الخلاف، ثم جاء بعد ربع ساعة نبأ باستفحال الفتنة وتجسمها، وأن السيد بك قنديل مأمور الضبطية مريض في منزله، فذهب بنفسه إلى جهة الواقعة بشارع السبع بنات.
وهناك أدرك خطورة الفتنة ورأى ازدحام الشارع بالمتجمهرين، فطلب من إسماعيل باشا كامل قومندان الجنود بالإسكندرية، إرسال المدد من الجند لوقف الهياج ... فتباطأ الأميرالاي مصطفى بك عبد الرحيم قائد الآلاي الخامس، الذي كان مرابطا برأس التين والقائمقام سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس، الذي كان بباب شرقي في إرسالهما الجند، ولم يحضروا إلا في الساعة الخامسة مساء قبل المغرب بساعة، وحين جاء الجند فرقوا المتجمهرين بغير صعوبة، وانتهت الفتنة في مغرب الشمس، فساد المدينة سكون رهيب، إذ لزم الناس بيوتهم، وخلت الطرقات من المارة، وانقضى الليل والناس في وجل وفزع.
وبلغ عدد القتلى في هذه الحادثة 49 منهم 38 من الأجانب والباقون من الأهلين . (3-1) اجتماع القناصل بالإسكندرية
اجتمع القناصل مساء يوم الحادثة، وكان من بينهم الكابتن مولينو من ضباط المدرعة الإنجليزية «إنفنسبل»، وقد عهد إليه الأميرال سيمور أن ينوب عن المستر كوكسن في إدارة القنصلية عقب إصابته في الحادثة، وحضر الاجتماع محافظ المدينة، وتداولوا فيما يجب اتخاذه لإعادة النظام وتهدئة الخواطر، فصرح كبار ضباط الجيش بالإسكندرية أنهم مكلفون بحفظ الأمن ... على ألا يتدخل الأسطولان في الأمر، فطلب القناصل من قائدي الأسطولين أن لا يتخذا تدابير ظاهرة، ولكن بعض الزوارق الإنجليزية شوهدت في منتصف الليل، قادمة من إحدى بوارج الأسطول ترسو على شاطئ الميناء الشرقي.
وكان مجيئها تنفيذا لتعليمات الأميرال سيمور، الذي أصدر أمره بأن تخرج البارجة «سوبرب» من الميناء الغربي وترسو خارج الميناء الشرقي، وأن ترسل بعض الزوارق إلى البر لنقل النساء والأطفال إلى البارجة، فاعترض الضباط على هذه الوسيلة إذ رأوا في حضور الزوارق الإنجليزية إلى البر ما يدعو إلى هياج الجمهور والجند، فوعد نائب القنصل البريطاني بإبعاد الزوارق عن البر، وانفض الاجتماع الأول على ذلك.
وقع النبأ في العاصمة
كان عرابي بالقاهرة حين وقعت الحادثة، وقد علم بها تلغرافيا قبل الساعة الخامسة مساء، فأسف لها أسفا عظيما ... ولما ذاعت أخبارها في العاصمة مساء 11 يونيو، قوبلت بالاستياء والاستنكار في الدوائر الوطنية، لما توقعه العارفون من عواقبها الوخيمة، وكانت ضربة موجهة إلى العرابيين؛ لأن أقل ما تدل عليه أن زمام الأمن قد أفلت من أيديهم، وأنها تتخذ حجة ضدهم على أنهم غير قادرين على ضبط الأمن وصيانة الأرواح، وبخاصة بعد أن أعيد عرابي إلى وزارة الحربية وتعهد بكفالة الأمن والنظام.
وكانت هذه المذبحة نذيرا للعرابيين بأن البلاد قادمة على خطر كبير، إذ لم يكن خافيا أن السياسة الإنجليزية قد دبرت الوسائل لوقوعها تحقيقا لأغراضها في مصر، ولكن العرابيين لم يقدروا العواقب حق قدرها، وقد اتخذ القناصل هذه الحادثة ذريعة لمخاطبة ولاة الأمور في العاصمة بلهجة شديدة طالبين حماية الأجانب وأموالهم في البلاد، وقررت الحكومة مساء 11 يونيو إيفاد لجنة إلى الإسكندرية للنظر في أمر تلك الحادثة، والكشف عن أسبابها والتحقيق مع المتهمين فيها.
وعقد الخديو اجتماعا في سراي عابدين صبيحة يوم الإثنين 12 يونيو، حضره محمد شريف باشا، ودرويش باشا المندوب العثماني وقناصل فرنسا وإنجلترا والنمسا وألمانيا وإيطاليا والروسيا، الذين جاءوا يطلبون تأمين رعاياهم على أرواحهم وأموالهم ... فجرت المباحثة في هذا الاجتماع فيما يجب اتخاذه حيال حوادث الإسكندرية، فاستقر الرأي على إعطاء وكلاء الدول السياسيين الضمانات الوثيقة التي تكفل إعادة الأمن إلى نصابه، وصيانة أرواح الأجانب وأموالهم.
ومن أهم هذه الضمانات امتثال عرابي باشا لأوامر الخديو، فدعي عرابي إلى حضور الاجتماع، وخوطب في الأمر فأجاب بالقبول، وزاد أن تعهد للمجتمعين بمنع ما من شأنه إثارة الخواطر، كالاجتماعات العامة وانعقاد الجمعيات وإلقاء الخطب ونشر المقالات المهيجة، وأبان أن في مقدوره بمساعدة جنوده تأييد الأمن وإقرار الراحة والطمأنينة، وتعهد الخديو بإصدار الأوامر الكفيلة بتهدئة الخواطر، وقال درويش باشا: إنه يأخذ على عاتقه تنفيذ الأوامر الخديوية بأن يشترك مع عرابي في إنفاذها، ويشاركه المسئولية في هذا الصدد، فاكتفى وكلاء الدول ظاهرا بهذه العهود، وانفض الاجتماع.
وإنفاذا لهذه العهود أصدر الخديو أمرا إلى عرابي باشا، بالتنبيه على قواد الجيش وضباطه بالقاهرة والإسكندرية والأقاليم، بزيادة الدقة والسهر على الأمن العام.
وأصدر الخديو أمرا بهذا المعنى إلى المحافظين والمديرين، ونشر عرابي في ذلك اليوم إعلانا بدعوة الجمهور إلى الإخلاد إلى السكينة والطمأنينة، وأذاع أمرا آخر وجهه إلى قواد الجيش وضباطه وغيرهم، يدعوهم إلى بذل أقصى جهودهم لإقرار الأمن والراحة والنظام، وزادت الحكومة قوات الجيش في الإسكندرية لتكون كافية لقمع كل فتنة تحصل بين الأجانب والأهلين، فأنفذت إليها الآلاي الثاني والآلاي الرابع، وعهدت بقيادتهما إلى طلبة باشا عصمت الذي صار منذ ذلك الحين قومندانا عاما لقوات الجيش في الثغر. (4) نزوح الأجانب عن البلاد
وكانت الأنباء التي يتناقلها الأجانب مجمعة على أن الحرب لا محالة ناشبة في مصر ... وكانوا يتوقعون من آن لآخر أن تطلق البوارج الإنجليزية والفرنسية قنابلها على المدينة، وأن قوات الدولتين لا تلبث أن تهاجم البلاد، وفي هذه الحالة لا يأمنون على أنفسهم إذا نشبت الحرب أن يستهدفوا لانتقام الأهلين ... ومن هنا جاءت فكرة نزوح الأجانب عن البلاد، فأخذ القاطنون منهم بالإسكندرية يهاجرون منها بحرا، والأجانب في القاهرة والأقاليم يفدون إلى الإسكندرية للإقلاع منها إلى الخارج، وبدأ رحيل الأوروبيين عن البلاد في اليوم التالي لمذبحة الإسكندرية، وكثرت جموعهم النازحة في الأيام التالية. ونزل المهاجرون منهم إلى السفن التي كانت راسية في الميناء ينتظرون أن تقلع بهم.
وبلغ عدد الراحلين منهم يوم 12 يونيو سنة 1882 أكثر من عشرة آلاف مهاجر، نزلوا إلى البحر متفرقين في البواخر والسفن الشراعية، ولم تعارض إدارة جوازات السفر ولا الجمارك أحدا منهم في النزول إلى البحر، فكثرت جموع المهاجرين يحملون أموالهم وأمتعتهم، وامتلأ الميناء بالسفن المقلة لهم، وظلت الهجرة مستمرة في الأيام التالية حتى بلغ عدد الراحلين لغاية يوم 18 يونيو 32000 مهاجر، وبلغ عددهم ستين ألفا قبيل ضرب الإسكندرية، فكان هذا السيل المتدفق نذيرا بما يتمخض عنه الجو من الأحداث الجسيمة.
ومما ساعد على تعاظم سيل الهجرة، أن قناصل الدول رغبوا إلى رعاياهم الرحيل عن البلاد، وأفضوا إليهم بأنهم يتوقعون حوادث أشد هولا من مذبحة 11 يونيو، وأن الحرب وشيكة الوقوع، فسارعوا إلى الهجرة، وأعدت كل دولة سفنا لنقل رعاياها، فهرع الفقراء والمعوزون إلى النزول إليها، وأخذ الموسرون منهم أماكنهم في البواخر المعتادة، وتسلل الأوروبيون من كل ناحية في القطر المصري قاصدين الميناء، حتى خيل لمن يرى جموعهم الراحلة أنه لم يبق منهم في البلاد إلا نفر قليل.
وزاد الناس شعورا بخطر الموقف، انتقال الخديو فجأة من العاصمة إلى الإسكندرية، فقد اعتزم السفر إليها عقب حادثة 11 يونيو سنة 1882، وحجته تهدئة الخواطر فيها، وسافر إليها يوم الثلاثاء 13 يونيو، وودعه على المحطة عرابي باشا وزير الحربية، وقبل أن يتحرك القطار عهد إلى عرابي مراقبة أحوال القاهرة، والسهر على الأمن العام فيها واتخاذ الاحتياطات الكفيلة بمنع وقوع أي حادث، وصحبه في سفره درويش باشا المندوب العثماني. (4-1) من المسئول عن المذبحة؟
لا شك أن حضور الأسطولين الإنجليزي والفرنسي هو السبب الأول لحوادث 11 يونيو سنة 1882، فقد هاج حضورهما الخواطر وأوغر صدور المصريين على الأوروبيين عامة، لما في مجيئهما من معنى التحدي والعدوان، كما أنه أغرى الأوروبيين بالوطنيين؛ لشعورهم بأن الأسطولين إنما جاءا لحمايتهم ولإذلال المصريين.
كتب الشيخ محمد عبده (الأستاذ الإمام) في هذا الصدد يقول:
إن الحكومة الإنجليزية على عادتها في اختلاق العلل وارتجال المساءات، قلبت وجوه المسائل، واستدبرت طالع الحق، واستقبلت وجه مطمعها، واتخذت مجرد التغيير في بعض نظامات الحكومة الخديوية سببا للمناوأة، واندفعت لتسيير مراكبها إلى مياه الإسكندرية تهديدا لحكومة الخديو وعدوانا عليه، ثم نفخ بعض رجالها في أنوف ضعفة العقول من الأجانب المقيمين بالثغر، حتى أوقدوا فتنة هلك فيها المساكين قضاء لشهوة إنجليزية، وأقامت منها حكومة إنجلترا حجة في العدوان على الأراضي الخديوية، ولو أن بصيرا نظر إلى أحوال القطر المصري بعين صحيحة من مرض الغرض، لعلم أن بداءة الخلل في ذلك القطر من يوم ورود المراكب الإنجليزية لثغر الإسكندرية، ولا نسبة بين ما كان من قبل ذلك؛ من عموم الأمن ورواج الأعمال وانتظام المصالح وبين ما كان بعده.
فالمسئولية العامة تقع على كاهل السياسة البريطانية والفرنسية. أما المسئولية الخاصة في وقوع المذبحة بالذات، فتستطيع أن تتبينها من أن أول من أشعل الفتنة مالطي من رعايا بريطانيا، وأخ لخادم القنصل البريطاني، ولا يمكن أن يكون هذا من قبيل المصادفات، والسياسة البريطانية هي التي استغلت الحادثة، وهولت فيها وجسمتها لتتذرع بها إلى التدخل المسلح في شئون البلاد، وقد وصفها المسيو فريسينيه رئيس وزارة فرنسا في ذلك الحين وصفا لا مبالغة فيه ولا تهويل، إذ قال بأنها من الحوادث العارضة التي تقع أحيانا في الثغور التي يسكنها عدة أجناس، وشبهها بالفتنة التي حصلت قبل عام في مرسيليا بين العمال الإيطاليين والفرنسيين. (5) وزارة إسماعيل راغب باشا
بقيت البلاد بلا وزارة منذ استقالة البارودي؛ أي من 27 مايو ... فلما وقعت حوادث 11 يونيو، اتجهت الأنظار إلى وجوب تأليف وزارة تضطلع بأعباء الحكم، وتضع حدا للفوضى التي استهدفت لها البلاد.
وكان الخديو قد بارح القاهرة ووصل إلى الإسكندرية عقب مذبحة 11 يونيو كما أسلفنا، فسعى قنصلا ألمانيا والنمسا لديه باتفاقهما مع مندوب تركيا، للتقريب بين الخديو وعرابي وترغيبه في تأليف وزارة جديدة، يبقى فيها عرابي وزيرا للحربية، فأخذ الخديو يستشير بعض رجال الدولة في أمر تأليف الوزارة الجديدة، فاستدعى شريف باشا ثم مصطفى فهمي باشا ثم عمر لطفي باشا وغيرهم، وكلف كلا منهم بتأليف الوزارة، فأبوا جميعا لما كان بينهم وبين عرابي من الجفاء، وتدخل قنصلا ألمانيا والنمسا ومندوب تركيا من جديد، واتصلوا بعرابي وتفاوضوا معه في هذا الشأن، واستقر رأيهم بعد استطلاع رأيه على النصح للخديو باختيار إسماعيل راغب باشا لتشكيل الوزارة، وعلى ذلك ألف راغب باشا الوزارة وفيها عرابي وزيرا للحربية كما كان.
ولو حسنت نيات إنجلترا لأمكن لوزارة راغب باشا أن تعيد الأمور إلى نصابها وتزيل الآثار السيئة التي نجمت عن حوادث 11 يونيو، فإن هذه الحوادث قد وقع مثلها في بعض ثغور البلاد الأوروبية، دون أن يترتب عليه سلب استقلالها وانتهاك حقوقها. ولكن إنجلترا دبرت مذبحة الإسكندرية أبت إلا أن تستغلها دون نزاهة ولا هوادة حتى تصل إلى احتلال مصر، وكان من تدابيرها ألا تمكن وزارة راغب باشا من تهدئة الخواطر وإقرار الأمن في نصابه ...
وأغلب الظن أنها لم تكن تبغي تأليف الوزارة لكي تبدو البلاد في حالة غير عادية، وتتخذ من ذلك ذريعة إلى التدخل في شئون البلاد ... فلما تألفت قابلتها السياسة الإنجليزية بالجفاء وعدم الثقة، والغض من قدرتها على إعادة الأمن إلى نصابه، وأخذت تخلق لها العقبات والعراقيل، وبارح السير إدوار ماليت قنصل بريطانيا العام الإسكندرية يوم 27 يونيو، وأناب عنه المستر كارترايت الذي شهد ضرب الإسكندرية، وغادر المدينة أيضا المستر كوكسن القنصل البريطاني. وأوعزت الحكومة البريطانية إلى السير أوكلن كولفن الرقيب المالي الإنجليزي بالامتناع عن حضور جلسات مجلس الوزراء، وهذه علائم ونذر تنبئ عما كانت تبيته السياسة الإنجليزية من إثارة الحرب والقتال.
ميثاق النزاهة
(1) مؤتمر الآستانة
دعا المسيو دي فريسينيه رئيس الوزارة الفرنسية الدول الأوروبية الكبرى إلى عقد مؤتمر للنظر في المسألة المصرية، فلبى هذه الدعوة كل من إنجلترا وألمانيا والروسيا وإيطاليا والنمسا ... أما تركيا فإنها رفضت الفكرة بحجة أن إيفاد مندوبها درويش باشا إلى مصر كاف لحل مشكلتها! وقد اعتزمت إيفاده إلى مصر في الوقت الذي علمت فيه باقتراح عقد المؤتمر؛ أي أنها عارضت المؤتمر بإرسال مندوب سام إلى مصر، واتخذت من إرساله وسيلة لرفض عقد المؤتمر، واحتجت أيضا بأن الأحوال في مصر لا تستدعي عقد مؤتمر بعد تأليف وزارة راغب باشا، واضطلاعها بأعباء الحكم وإعادتها الأمن إلى نصابه، فلم يبق شيء يمكن أن يتفاوض فيه المؤتمر.
وقد أبلغ وزير خارجية تركيا سفراء الدول الأوروبية بالآستانة هذا القرار، ولكن الدول لم تعبأ به واعتزمت عقد المؤتمر، وبقيت تركيا على امتناعها ورفضت الاشتراك فيه حتى ضرب الإسكندرية، فكان من المهازل السياسية أن يجتمع مؤتمر دولي في الآستانة للنظر في المسألة المصرية دون أن تشترك فيه حكومة الآستانة ذاتها، ودون أن تشترك فيه مصر، وكان واجبا على كلتيهما أن تشترك فيه.
وليس هذا المظهر وحده هو الذي يدل على اضطراب السياسة العثمانية في المسألة المصرية، بل إن مسلكها كله كان مجموعة متناقضات واضطرابات ... فبينما كانت تتظاهر بتأييد سلطة الخديو، إذا بالسلطان عبد الحميد يعلن عطفه على عرابي ويمنحه نيشانا رفيع الشأن، ثم إذا جد الجد ونشبت الحرب بينه وبين الإنجليز طعنه في الصميم بإعلانه عصيانه، فكان هذا الإعلان من أكبر أسباب هزيمته وخذلانه، فهذا التناقض والاضطراب، مضافا إليه قصر نظر تركيا وسوء نيتها نحو مصر ورغبتها في إنقاص استقلالها، ثم ما جلبت عليه من الدس والوقيعة، وتأثر وزرائها بالمال والرشا، جعل من السياسة التركية عامل فساد استخدمته بريطانيا لتحقيق أطماعها في مصر.
اجتمع المؤتمر بدار السفارة الإيطالية في «ترابيا» بضواحي الآستانة على شاطئ البوسفور يوم 23 يونيو سنة 1882، وكان أعضاؤه سفراء الدول العظمى الست: بريطانيا وفرنسا وألمانيا والنمسا والروسيا وإيطاليا، والسفير البريطاني هو اللورد دفرين. (1-1) ميثاق النزاهة
ثم اجتمع للمرة الثانية يوم 25 يونيو، وقبل البدء في مداولاته إبرام العهد المشهور بميثاق النزاهة
. وقد وضعه المسيو دي فريسينيه في 16 يونيو وعرضه على اللورد جرانفيل فقبله، وهذا نصه:
تتعهد الحكومات التي يوقع مندوبوها على هذا القرار، بأنها في كل اتفاق يحصل بشأن تسوية المسألة المصرية لا تبحث عن احتلال أي جزء من أراضي مصر، ولا الحصول على امتياز خاص بها، ولا على نيل امتياز تجاري لرعاياها لا يخول لرعايا الحكومات الأخرى.
وقد وقع عليه أعضاء المؤتمر جميعا ...
هذا هو العهد الذي ارتبطت به الدول، وفي مقدمتها إنجلترا في مؤتمر الآستانة ... ولكن إنجلترا حين أبرمته كانت تنوي نقضه، كما نقضت سائر عهودها في المسألة المصرية. والدليل القاطع على ذلك أنها في الوقت الذي أبرمته - 25 يونيو سنة 1882 - كانت تعد معدات الحرب والقتال وتجهز جيشها لاحتلال مصر، ولم يمض على هذا العهد ستة عشر يوما حتى ضرب أسطولها مدينة الإسكندرية بمدافعه يوم 11 يوليو.
واجتمع المؤتمر في جلسته الثالثة يوم 27 يونيو، وأخذ أعضاؤه يتداولون في المسألة المصرية، وأخذ اللورد دفرين يلقي بيانه عن الحالة في مصر، ذهب فيه إلى أن الفوضى قد تمكنت من مصر من جراء ثورة الجيش وانتقاضه على الخديو، وأن هذه الفوضى قد أدت إلى اختلال الإدارة وارتباك الأحوال، ووقوف حركة التجارة وفقدان الثقة وعجز الأهلين عن سداد الضرائب، وعجز الحكومة عن الوفاء بتعهداتها المالية حيال الدائنين الأجانب، ثم تعريض حياة الأوروبيين للخطر.
ويؤخذ من بيان اللورد دفرين أن إنجلترا كانت تقصد من الاشتراك في المؤتمر إعلان أن الحالة في مصر تستدعي التدخل في شئونها، وأن هذا التدخل يجب أن يكون حربيا لقمع الثورة وإعادة سلطة الخديو، وكانت ترمي إلى أن يكون هذا التدخل إنجليزيا ... ولكنها تظاهرت على لسان اللورد دفرين بأنها تبغي أن يكون تركيا، وهي عالمة بأن الحكومة التركية بلغت من الضعف والتردد بحيث لا تقدم على هذه المهمة، ولو أنها تدخلت بجيشها لكان من المحتمل أن يكون ذلك إنقاذا للموقف وتفاديا من الاحتلال؛ لأن الدول الأوروبية ما كانت لتقبل بقاء جيش عثماني في مصر إلى ما شاء الله، وفي الحق أن الحالة لم تكن تستدعي إرسال جيش عثماني أو غير عثماني، فإن وزارة راغب باشا كانت تستطيع إعادة الأمن والنظام إلى نصابه، لو لم تبادرها السياسة الإنجليزية بالعقبات والعراقيل.
كانت إنجلترا واثقة من جمود السياسة التركية وضعفها، مطمئنة إلى انقسام الدول الأوروبية في الرأي، وعدم اتخاذها قرارا معينا في المسألة المصرية ... فانتهزت هذه الفرصة وأخذت قبل انعقاد المؤتمر وخلال انعقاده تعد معدات الحرب والقتال؛ لتنتهك بأسطولها وجيشها حرمة العهود والمواثيق، وتحتل مصر تحت سمع المؤتمر وبصره.
وقد بدت منها نية الخداع جلية في مفاوضاتها بالمؤتمر، فقد اقترح السفير الإيطالي على الأعضاء بجلسة 27 يونيو، أن تقرر الدول الامتناع عن التدخل المنفرد في مصر ما دام المؤتمر منعقدا، ولو كانت إنجلترا حسنة النية لوافق مندوبها على هذا القرار، ولكن الواقع كما أسلفنا أنها كانت تجهز معدات لاحتلال مصر، فأخذ اللورد دفرين يلح في ضرورة وضع تحفظ لهذا القرار، حتى قرر المؤتمر إضافته وهو «فيما عدا الأحوال القهرية»، فنم بذلك على ما كانت تضمره إنجلترا من مخادعة المؤتمر، وما كانت تبيته من نية الشر والعدوان ونقض العهد والميثاق، وقد اطمأنت بعد وضع هذا التحفظ، وتركت المؤتمر يجتمع ويقرر ما يشاء، إذ كانت هذه الكلمة كافية لتجعل قراراته عديمة القيمة. •••
ومن الغريب أن المركيز دي نواي سفير فرنسا قد أيد اللورد دفرين في اقتراحه إضافة هذه الحاشية، فدل بذلك على مبلغ تخبط السياسة الفرنسية في ذلك الحين، وقد اغتبط اللورد دفرين لهذه الإضافة، وأرسل في اليوم التالي إلى اللورد جرانفيل رسالة يقول فيها: «إننا في الواقع منذ أن تم تعديل اقتراح السفير الإيطالي هذا التعديل الهام لم نعد نعتبر للاقتراح قيمة كبيرة.»
قرر المؤتمر في جلسته الثالثة وجوب التدخل في مصر لإخماد الثورة، وأن يعهد إلى تركيا بهذه المهمة، بأن ترسل إلى مصر قوة كافية من الجند لإعادة الأمن والنظام إليها، وأخذ يتداول في الجلسات التالية في شروط هذا التدخل وحدوده، واستفادت إنجلترا من هذا البطء لإتمام تدابيرها وإنفاذ خطتها في تدخلها المنفرد، ووضع المؤتمر في جلسته السابعة - يوم 6 يوليو سنة 1882 - قواعد هذا التدخل، وهي: أن يحترم الجيش الذي ترسله تركيا مركز مصر وامتيازاتها، التي نالتها بموجب الفرمانات والمعاهدات، وأن يخمد الثورة العسكرية ويعيد إلى الخديو سلطته، ثم يشرع في إصلاح النظم العسكرية في مصر، وأن تكون مدة إقامته في مصر ثلاثة أشهر، إلا إذا طلب الخديو مدها إلى المدة التي تتفق عليها الحكومة المصرية مع تركيا والدول الأوروبية العظمى، ويعين قواد هذا الجيش بالاتفاق مع الخديو، وتكون نفقاته على حساب مصر، ويعين مقدارها بالاتفاق مع مصر وتركيا والدول الست العظمى الأوروبية.
وقد صدر هذا القرار على أن يعرض على الحكومة التركية والحكومات الأوروبية الست التي لها ممثلون في المؤتمر، وأرسل نص القرار إلى هذه الدول فأقرته، ووافقت على تقديمه إلى الحكومة التركية، فأرسل إليها ولكنها لم تقره، ووقفت موقف الإحجام والتردد، شأن السياسة التركية في ذلك العهد. واعتمدت في رفضها التدخل على تقارير درويش باشا الذي يقول فيها إنه ليس في مصر ما يوجب تدخلها، وقد وافقت إنجلترا على دعوة تركيا إلى التدخل في هذا الوقت الذي كانت تعد فيه معدات القتال لتتدخل هي بمفردها؛ ذلك لأنها كانت مطمئنة إلى بطء السياسة التركية وترددها، وأنها تستطيع خلق «الحالة القهرية» التي نوه إليها اللورد دفرين، فتتذرع بها إلى التدخل الحربي من جانبها ضاربة صفحا عن قرار المؤتمر، وقد أنفذت خطتها، إذ ضرب الأسطول الإنجليزي مدينة الإسكندرية يوم 11 يوليو قبل أن تتقدم الدول إلى تركيا بقرار المؤتمر، وقبل أن يتبين موقف تركيا حيال هذا القرار.
أما التدخل في ذاته فلم يكن ثمة موجب له؛ لأن الحالة في مصر كانت طبيعية بعد تأليف وزارة راغب باشا ... ومن الوقائع الثابتة أن إنجلترا أخذت تجهز معدات القتال قبل انعقاد المؤتمر، فقد أصدرت وزارة البحرية الإنجليزية في 15 يونيو تعليماتها إلى بواخر النقل بالاستعداد للسفر إلى مصر، مقلة كتائب الجنود في ذلك الحين لإرسالها إلى الديار المصرية.
وقد كانت آخر جلسة عقدها المؤتمر قبل ضرب الإسكندرية - وهي الجلسة السابعة - يوم 6 يوليو، فلما وقع الضرب ظهر أن المؤتمر لم يكن إلا مهزلة اتخذتها إنجلترا وسيلة لشغل الناس عما تضمره من نياتها العدائية، واجتمع المؤتمر مع ذلك بعد الضرب يوم 15 يوليو، وأخذ يستأنف النظر في تدخل تركيا الحربي.
عرابي والمؤتمر
استمر المؤتمر كما أسلفنا يعقد جلساته على غير طائل، وإنجلترا تعد المعدات للقتال، وقد كان انعقاده مدعاة إلى اعتقاد عرابي وصحبه أن المسألة المصرية ستحل بطريق المفاوضات بين الدول، وأن انعقاد المؤتمر مانع من انفراد إنجلترا أو غيرها من الدول من التدخل الحربي في مصر، وكان هذا إغراقا منهم في حسن الظن أو الجهل بما تنويه إنجلترا ...
وفي الحق أن العرابيين كان ينقصهم الحصافة في الرأي وبعد النظر السياسي، وأغلب الظن أنهم كانوا لا يعرفون الموقف السياسي على حقيقته، وكانوا يعتمدون على ما يتلقونه من بعض الأفراد الأوروبيين من الأوهام والأخبار الملفقة، ولم يكن لديهم قلم أخبار في مصر ولا في الخارج يطلعهم على حقيقة الأحوال السياسية وتطوراتها.
هذا فضلا عما اشتهروا به من الغرور والخيلاء، إذ كانوا يتوهمون أنهم قادرون على دفع اعتداء الإنجليز أو أية دولة أخرى دون أي استعداد جدي للحرب، ولم يكونوا يقدرون قوة أعدائهم ولا قوتهم هم أنفسهم، فبينما كان الإنجليز يستعدون للحرب والقتال ويحشدون جنودهم في إنجلترا ومالطة والهند، ويستطلعون قوة العرابيين ويقفون على حقيقة معداتهم، كان العرابيون لا يعرفون شيئا عن معدات الإنجليز ... بل كانوا يتوهمون أنهم لا يجرءون على إعلان الحرب والقتال أو النزول إلى البر، وكذلك كان شأن وزارة راغب باشا عامة، فإنها كانت لا تزيد كثيرا عن مستوى العرابيين في العلم والمعرفة، وكان عرابي هو الآمر المتسلط عليها إذ كان وزير الحربية والبحرية فيها. •••
ومما ساعد العرابيين على التمادي في غرورهم، رؤيتهم الأسطول الإنجليزي راسيا في مياه الإسكندرية دون أن تنشب الحرب أو يتحفز للضرب، فخيل الوهم لهم أن مجيئه لم يكن إلا من قبيل التهديد والوعيد، وأنه لا يجرؤ على إنزال الجنود إلى البر، واتخذوا من موقف السكوت الذي لزمه يوم مذبحة الإسكندرية دليلا على أنه لا قبل له بالحرب والقتال ...
ولكن الواقع أن الإنجليز كانوا ينتظرون أن يهيئوا الجو في أوروبا لقبول تدخلهم الحربي ... فدبروا مذبحة الإسكندرية حتى يظهروا الحالة في مصر بأنها حالة فوضى واضطراب، ونهب وقتل لا يؤمن معها على حياة الأجانب، وأنها تستدعي تدخل الدول لوضع حد لهذه الفوضى، ثم اشتركوا والدول في عقد مؤتمر الآستانة للمفاوضة في إيجاد علاج لهذه الحالة الخطير ... وهيئوا الأفكار في أوروبا لضرورة التدخل لقمع الثورة في مصر ...
فلم يكن انتظارهم هذه المدة - ولم تكن في ذاتها طويلة - إلا لإحكام خطتهم وإتمام تجهيزاتهم الحربية، ثم لتمكين الجاليات الأوروبية من الهجرة قبل أن تضرب إنجلترا ضربتها في مصر، لكي يكون عدوانها مقرونا بعطف الأوروبيين المهاجرين ... وتكون في احتلالها كأنها نائبة عنهم وعن الدول الأوروبية جميعا، كل ذلك والعرابيون غارقون في أحلامهم معتقدون أن الحرب بعيدة الوقوع؛ ولذلك لم يبد منهم أي عمل يدل على الاستعداد لخوض غمار القتال.
وكانت أحاديث العرابيين دائرة حول ما يتسقطونه من أخبار المؤتمر، وما تلوكه ألسنتهم من أن الأزمة ستحل قريبا بطريق السلم، وأنها ستنتهي بخلع الخديو توفيق وتعيين الأمير حليم باشا مكانه ... وهذا كل ما كان يشغل بالهم ويستحوذ على أفكارهم في ذلك الوقت العصيب، أما الاستعداد للحرب والتهيؤ للقتال، فلم يفكروا فيه تفكيرا جديا إلا في اللحظة الأخيرة بعد أن ضاع الوقت وسبق السيف العذل.
ضرب الإسكندرية
(1) ضرب الإسكندرية
كانت إنجلترا تستعد للحرب قبل انعقاد مؤتمر الآستانة وخلال اجتماعه، وقبل أن يقر قراره بدعوة تركيا إلى إرسال جيش لها إلى مصر ... وأخذت تدبر الأسباب والذرائع للتعجيل بضرب الإسكندرية لكي تضع المؤتمر أمام الأمر الواقع.
فأوعزت إلى الأميرال سيمور قائد الأسطول البريطاني أن يخلق أية وسيلة للتحرش بمصر لإثارة الحرب عليها؛ أي أنها أخذت تخلق «الحالة القهرية» التي أشار إليها اللورد دفرين في مؤتمر الآستانة، واشترط إضافتها إلى قرار الامتناع عن التدخل المنفرد في مصر، فأخذ الأميرال يتأهب للعدوان، وكان يستعين برأي الجالية البريطانية في خلق أسبابه، ووجد على الأخص من السير أوكلن كولفن الرقيب المالي الإنجليزي عونا كبيرا له في ذلك ... إذ كان من أشد غلاة الاستعمار ومن الداعين إلى احتلال مصر، وكان بعد رحيل السير إدوار مالت الممثل الفعلي لبريطانيا في مصر، فلا غرو أن كان على اتصال دائم بالأسطول.
ولم يكن أسهل على القوة الغشوم من أن تخترع الوسيلة لإثارة القتال ... فقد أرسل الأميرال سيمور في أول يوليو سنة 1882 إلى مجلس الأميرالية الإمبراطورية ينبئها أنه اكتشف بعض ترميمات يقوم بها المصريون في حصون الإسكندرية، وأنهم يركبون بطاريات جديدة تجاه بوارجه، وأن الاستعدادات الحربية قائمة في البلاد، وأن عرابي معتزم سد بوغاز الإسكندرية لحصر البوارج الإنجليزية التي كانت راسية في الميناء.
وبديهي أن هذا الاكتشاف إنما كان وسيلة مختلقة لتسويغ الشر والاعتداء، فإن أية ترميمات تجري في الحصون لا يمكن أن تكون وسيلة مشروعة لإثارة الحرب والقتال، إذ كل دولة حرة في أن تقوي معدات الدفاع في بلادها، بل واجب عليها أن تفعل ذلك في كل وقت ... وخاصة في مثل تلك الظروف العصيبة التي كانت تجتازها مصر، فإن مجرد حضور الأسطول البريطاني فيه معنى التهديد بالتدخل المسلح، على أنه لم يكن ثمة ترميمات جديدة تخيف الأسطول الإنجليزي وتشغل باله.
وقد أجابت الأميرالية الإنجليزية في 3 يوليو على برقية الأميرال سيمور بأن يمنع كل محاولة لسد بوغاز الإسكندرية، ورخصت له بأن يطلب وقف الأعمال الجارية في الحصون، وفي حالة الرفض فليدمرها بمدافعه.
وتدل الدلائل والبينات على أن الحكومة البريطانية كانت مبيتة نيتها على ضرب الإسكندرية، واحتلال البلاد مهما كانت الأسباب والملابسات، وذلك قبل اختلاق حكايتهم ترميم الحصون، وإنا ذاكرون هذه الشواهد فيما يلي:
أولا:
في 22 يونيو سنة 1882 عرض سفير إنجلترا في باريس على الحكومة الفرنسية الاشتراك في اتخاذ وسائل عاجلة بقصد حماية قناة السويس، فأجابه المسيو دي فريسينيه رئيس وزارة فرنسا أن لا خطر مطلقا يتهدد القناة، وأن شركة القناة ذاتها لا تخشى من شيء سوى تلك الحماية التي يراد فرضها عليها؛ لأن احتلال القناة قد يؤدي إلى قطع ترعة الإسماعيلية واستهداف القناة البحرية ذاتها لأعمال عدائية، وختم دي فريسينيه جوابه بأن احتلالها عمل لا مسوغ له.
ثانيا:
يقول المستر بلنت: إن وزارتي الحربية والبحرية في إنجلترا عقدتا النية منذ أوائل سنة 1882 على مهاجمة مصر من ناحية قناة السويس، وشاهد بنفسه الاستعدادات الحربية في إنجلترا في شهر يونيو سنة 1882، وكان يعتقد أن الغرض منها تقوية مركز إنجلترا في مؤتمر الآستانة، ولكن تبين له فيما بعد أن الغرض منها مهاجمة مصر.
ثالثا:
موقف إنجلترا في مؤتمر الآستانة وإصرار اللورد دفرين على وجوب التدخل الحربي في شئون مصر لقمع الثورة، وإضافته كلمة «الحالة القهرية» إلى قرار الامتناع عن التدخل المنفرد كما تقدم بيانه، كل ذلك يدل على ما كانت تضمره من التدخل بمفردها.
رابعا:
منذ أن جاء الأسطول البريطاني في مايو تعاقد مع تجار الأطعمة على توريد المئونة اللازمة للأسطول لمدة ثلاثة أشهر ... وليس هذا عمل أسطول جاء لوقت محدود بقصد حماية أرواح الأجانب كما قال الإنجليز عند حضوره.
خامسا:
أرسل المسيو سنكفكس قنصل فرنسا العام إلى المسيو دي فريسينيه رئيس وزارة فرنسا برقية من الإسكندرية في 28 يونيو سنة 1882 يقول فيها: «إن هجرة الأوروبيين مستمرة، والشعور العام هنا أن التدخل الإنجليزي أصبح وشيك الوقوع، ولم يبق في القنصلية الإنجليزية إلا كاتبان يسجلان أسماء الإنجليز الذين يرغبون البقاء في مصر.»
سادسا:
أرسل المسيو دي فورج
De Forges
قنصل فرنسا العام إلى المسيو دي فريسينيه برقية من الإسكندرية يوم 4 يوليو، يقول فيها: «كل الدلائل تدل على أنه سيقع عمل حربي عاجل من الإنجليز؛ سواء باشتراكنا أو بدونه.»
سابعا:
اعترف الأميرال سيمور في يوم 6 يوليو سنة 1882 بأن أعمال الترميم التي زعم أنها كانت جارية بها لغاية يوم 5 يوليو، أوقفت ومع ذلك أصر على الضرب.
ثامنا:
تدبير مذبحة الإسكندرية من الأدلة على تبييت إنجلترا النية على الاحتلال.
تاسعا:
عهدت وزارة الحربية البريطانية إلى المستشرق الأستاذ بالمر
بالمجيء إلى مصر وارتياد صحراء سينا لرشوة القبائل البدوية بين قناة السويس وغزة قبل نشوب الحرب، وقد حضر، وقابله المسيو جون نينيه في الإسكندرية عرضا ، فقال له الأستاذ بالمر: «أنصحك بمغادرة القطر المصري؛ لأن الإسكندرية ستضرب بالقنابل عما قريب، وستكون عرضة لأن يقتلك الأهلون.»
وقد قام الأستاذ بالمر بمهمته، ولكن قتله البدو هو وصحبه، وحوكم قتلتهم عقب الاحتلال فحكم عليهم بالإعدام!
كل هذه الشواهد والنيات تدل على سبق إصرار إنجلترا على ضرب الإسكندرية، واحتلالها مهما كانت الأحوال أو اختلفت الأسباب. (1-1) التحفز للضرب
في 6 يوليو أرسل الأميرال سيمور إلى طلبة عصمت قومندان موقع الإسكندرية بلاغا أول بالكف عن أعمال التحصين الجارية في الحصون، فأجابه طلبة في اليوم ذاته بأنه لم يوضع أي مدفع جديد في الحصون ولم يجر فيها أي عمل جديد، وقد ذاع بلاغ الأميرال سيمور في المدينة وتناقله الناس، فأيقن العارفون بحقائق الأمور أنه نذير الشر، وأن الحرب واقعة لا محالة، وأوعز قنصلا إنجلترا وفرنسا إلى رعاياهما الباقين بالمدينة بالمبادرة إلى الرحيل عنها، فتسابقوا إلى الهجرة والنزول إلى السفن التي بالميناء، وبلغ عدد المهاجرين الأوروبيين منذ حوادث يونيو إلى ما قبل الضرب نحو 99 في المائة من عددهم الأصلي، وهاجر كثير من سراة المدينة إلى داخل البلاد، على أن معظم الأهلين بقوا بها.
لم يقتنع الأميرال سيمور بجواب طلبة باشا ... وهيهات أن يقتنع؛ لأنه إنما يبغي من جوابه أن يختلق سببا مكذوبا ليتذرع به إلى الضرب.
وإمعانا في التحرش بعث الأميرال إلى طلبة باشا عصمت بلاغا آخر يمهد به إلى الإنذار النهائي، هذه ترجمته:
البارجة إنفنسبل في 6 يوليو سنة 1882
صاحب السعادة ... أتشرف بإخباركم أني علمت من طريق رسمي، أنه قد صار البارحة تركيب مدفعين جديدين أو أكثر في خطوط الدفاع القائمة على البحر، وأن بعض استعدادات حربية قد عملت في واجهة الإسكندرية الشمالية تحديا للأسطول الذي تحت قيادتي، فيجب علي والحالة هذه أن أنبه عليكم بوقف هذه الأعمال، فإن لم تقف وتجددت يكون واجبا علي تدمير المعدات الجاري العمل فيها.
فرد عليه طلبة باشا عصمت بالجواب الآتي:
عزيزي الأميرال الإنجليزي ...
أتشرف بأن أنبئكم بوصول خطابكم المؤرخ 6 يوليو، الذي تخبرونني فيه أنه اتصل بكم تركيب مدفعين ، وأن أعمالا أخرى جارية على شاطئ البحر ... فردا على ذلك، أود أن أؤكد لكم أن الأخبار المذكورة لا حقيقة لها، وأن هذه الأخبار مثل خبر التهديد بسد مدخل البوغاز الذي اتصل بكم وتحققتم كذبه.
هذا وإني لمعتمد على عواطفكم المتشبعة بروح الإنسانية، وأرجو قبول احتراماتي.
ولم يكتف الأميرال سيمور بطلب منع التحصين، بل طلب أن تسلم له الحصون التي يزعم أنها تهدد الأسطول!
وفي صبيحة 10 يوليو أرسل إلى طلبة باشا عصمت إنذارا نهائيا، يطلب فيه تسليم البطاريات المنصوبة في الحصون القائمة بشبه جزيرة رأس التين، وعلى ساحل ميناء الإسكندرية الجنوبي، وإلا ضرب الحصون في صبيحة الغد - 11 يوليو - ومعنى ذلك تسليم الحصون ذاتها.
وهذا نص الإنذار النهائي:
أتشرف بإخبار سعادتكم أنه نظرا لأن الاستعدادات العدائية الموجهة ضد الأسطول الذي أتولى قيادته آخذة في الازدياد طول يوم أمس في طوابي صالح وقايتباي والسلسلة، فقد عقدت العزم على أن أنفذ غدا - 11 الجاري - عند شروق الشمس العمل الذي أعربت لكم عنه في خطابي المؤرخ يوم 6 الجاري، إن لم تسلموا إلي حالا قبل هذه الساعة البطاريات المنصوبة في شبه جزيرة رأس التين، وعلى شاطئ ميناء الإسكندرية الجنوبي لتجريدها من السلاح.
وعقد الخديو بسراي رأس التين مجلسا عاما دعا إليه الوزراء وكبار رجال الدولة؛ ليستشيرهم في الموقف وفيما يجب أن يكون عليه جواب الحكومة على الإنذار النهائي، فاستقر رأي المجلس على رفض مطالب الأميرال ...
وفي المساء حرر الوزراء الرد على الإنذار النهائي طبقا لقرار المجلس، وهذا نصه:
لم تعمل مصر شيئا يقضي بإرسال هذه الأساطيل المتجمعة، ولم تعمل السلطة المدنية ولا السلطة العسكرية أي عمل يسوغ مطالب الأميرال إلا بعض إصلاحات اضطرارية في أبنية قديمة، والطوابي الآن على الحالة التي كانت عليها عند وصول الأساطيل، ونحن هنا في وطننا وبيتنا، فمن حقنا بل من الواجب علينا أن نتخذ عدتنا ضد كل عدو مباغت يقدم على قطع أسباب الصلات السلمية التي تقول الحكومة الإنجليزية أنها باقية بيننا، ومصر الحريصة على حقوقها الساهرة على تلك الحقوق وعلى شرفها ، لا تستطيع أن تسلم أي مدفع ولا أي طابية دون أن تكره على ذلك بحكم السلاح ... فهي لذلك تحتج على بلاغكم الذي وجهتموه اليوم، وتوقع مسئوليات جميع النتائج المباشرة وغير المباشرة التي تنجم، إما عن هجوم الأساطيل أو عن إطلاق المدافع، على الأمة التي تقذف في وسط السلام القنبلة الأولى على الإسكندرية المدينة الهادئة، مخالفة بذلك لأحكام حقوق الإنسان ولقوانين الحرب.
يتضح من البيانات والمراسلات المتقدمة أن الإنجليز كانوا مصممين على احتلال الإسكندرية، سواء ضربوها أو لم يضربوها، وسواء قبلت طلباتهم في الإنذار النهائي أو لم تقبل، ولم تكن الوسائل السلمية كافية مجدية في منعهم عن تنفيذ ما عزموا عليه ... فالمجلس العام الذي اجتمع برياسة الخديو وقرر رفض الإنذار، كان على حق في قراره. ولو أنه قرر التسليم بمطالب الأميرال سيمور، لما كان تسليمه ليحول بين الإنجليز واحتلالهم المدينة، وكل ما كان يؤدي إليه التسليم أن يقع الاحتلال دون مقاومة من جانب مصر، ولم يكن هذا موقفا مشرفا. فليس الخطأ في رفض مطالب الأميرال، بل الخطأ في الانقسام الذي كان واقعا بين الخديو والعرابيين، وكان عليهم أن يتلافوا ذلك الانقسام الذي أضعف الجبهة المصرية في ساعة الخطر، ولكن كلا الفريقين لم يبذل سعيا جديا في تلافيه، وكلاهما مخطئ من هذه الناحية.
الحصون والأسطول
يجمل بنا قبل أن نتكلم عن وقائع الضرب أن نقابل بين القوتين المتحاربتين؛ لأن من هذا البيان يتضح من كان مقدرا له الفوز والنصر.
كان بالإسكندرية في ذلك الحين عدة حصون تسمى «طوابي» جمع طابية، وهذا الاسم متداول حتى اليوم بين سكان الثغر، ولا يزال بعض هذه الحصون «الطوابي» قائما حتى اليوم، تبدو عليه آثار الخراب وبعضها لم يبق له وجود.
وهذه الحصون كانت تمتد على شاطئ البحر من ناحية العجمي غربا إلى أبو قير شرقا ... فأولها من الغرب طابية «العجمي»، وهي قائمة في جزيرة العجمي التي يسميها الإفرنج جزيرة المرابط - أو مارابوت كما يكتبونها - ولذلك يسمونها قلعة المرابط، واسمها الصحيح قلعة أو طابية العجمي، وتسمى أيضا طابية العجمي البحرية؛ تمييزا لها عن طابية العجمي القبلية التي سيرد الكلام عنها.
وكانت طابية العجمي البحرية من أمنع حصون الإسكندرية، ويوجد تجاهها على اليابسة طابية أخرى تسمى طابية العجمي القبلية، وتعرف أيضا بطابية «العيانة»، وهذه التسمية معروفة بين أهل هذه الجهة، وواردة كذلك في خريطة مصلحة المساحة ... ولم تكن لها أهمية حربية، بل لم تشترك في الضرب إذ لم يكن إنشاؤها، ويلي هذه الطابية شرقا طابية «الدخيلة»، ثم قلعة «المكس» وكانت من أمنع القلاع، ومهمتها الدفاع عن مدخل الميناء «البوغاز».
ويلي قلعة «المكس» على طول الشاطئ الجنوبي للميناء عدة حصون واستحكامات، وهي البرج نمرة 15، فطابية «القمرية»، فطابية «أم قبيبة»، ثم برج مستدير فيه مدفعان، ثم طابية «صالح».
وعند «باب العرب» طابية تسمى طابية باب العرب تعادل طابية المكس في تسليحها، وتقفل لسان الأرض الواقع بين البحر وبحيرة مريوط، وهي واقعة إلى ما وراء المقطع القديم الذي خرقه الإنجليز عام 1810 قبل خروجهم من مصر، ليدخلوا به مياه البحر إلى بحيرة مريوط، فأغرقت يومئذ قرى كثيرة، وتحولت به صحراء واسعة يابسة إلى مستنقع رديء.
وفي شبه جزيرة رأس التين عدة حصون تحمي الميناء من الجهة الشمالية، وهي طابية «الفنار» التي تحيط بفنار الإسكندرية وتشرف على الميناء، فطابية «رأس التين» الواقعة شمالي سراي رأس التين، فطابية الإسبتالية.
وتلي هذه الحصون شرقا طابية «الأطة» وهي كلمة تركية تنطق أضه، وتعني الجزيرة، وتسمى في الإسكندرية طابية القضاء - الواقعة شرقي حمام الأنفوشي - ثم طابية «الهلالية»، ثم طابية «قايتباي» التي يسميها الأوروبيون حصن «فاروس» ومهمتها حماية المدينة من الجهة الشمالية الشرقية وحماية الميناء الشرقي، يقابلها من الطرف الشرقي لهذا الميناء طابية «السلسلة».
ويلي طابية «السلسلة» شرقا قلاع أبو قير، وهذه لم تشترك في القتال لبعدها عن ميدانه، وبداخل المدينة طابية «كوم الناضورة»، وطابية «كوم الدكة» وتعرف أيضا بكوم الدماس.
وكان يحيط بالمدينة من جهة اليابسة سور قديم يسمى السور العربي، الذي كان باقيا منه إلى عهد قريب بعض آثاره بجهة باب رشيد «باب شرقي»، وهو سور حصين به أبراج للمدافع.
وهذه الحصون منشأة من عهد محمد علي، ماعدا كوم الناضورة وكوم الدكة، فإنهما منشآن من عهد الحملة الفرنسية، وقلعة «قايتباي» المنشأة في القرن الخامس عشر، وكانت الحصون سنة 1882 بحالتها التي كانت عليها في عهد محمد علي وإبراهيم وعباس، وقد أجرى فيها إسماعيل بعض الترميم وجلب لبعضها المدافع الضخمة من طراز أرمسترنج، وهي التي كانت تضاهي مدافع الأسطول البريطاني، وكان عددها 49 مدفعا، أما المدافع الأخرى فلم يكن يعتمد عليها في الضرب لقدمها وضعفها وقرب مرماها، ولم تكن لها أية قيمة حربية في سنة 1882، وهي معظم مدافع الحصون إذ كان عددها 229 مدفعا والأهوان وعددها أربعون.
وكانت حامية الحصون مؤلفة من آلاي طوبجية السواحل، ومجموع قوته الرسمية 1762 مقاتلا بين جنود وضباط وصف ضباط بقيادة الأميرالاي إسماعيل بك صبري، ولكن عددهم الحقيقي كان دون ذلك، ويقول عرابي في مذكراته: لم يزد عن سبعمائة يوم الضرب، ويقول المسيو جون نينيه - الذي شهد ضرب الإسكندرية: إن نصف رماة القنابل «الطوبجية» كانوا متغيبين في قراهم بحجة الاقتصاد والتوفير، وهذا يفسر نقصان عددهم يوم الضرب. وقال: إن الأميرال سيمور كان موقنا قبل الضرب أنه لن يلقى في ميدان القتال سوى هيكل محارب قديم، كان شاكي السلاح بالأمس ثم صار شبحا لا حراك فيه، وقال في موضع آخر يصف إهمال حالة الحصون: «إن معظم المدافع القصيرة المرمى لم تتحرك من موضعها منذ نحو ثمان وثلاثين سنة حين ركبها لأول مرة جاليس بك
Galice Bey
مفتش الاستحكامات في عهد محمد علي ... أما المائة مدفع وواحد من مدافع أرمسترنج من عيار تسع إلى عشر بوصات، فكان منها 64 فقط مركبة في مواضعها، والسبعة والثلاثون الأخرى كانت ملقاة خارج مواضعها، وأما ذخائرها فإنها لم تنقل من مخازنها بالترسانة.»
يخلص مما تقدم بيانه أن الدفاع عن المدينة كان ضعيفا متخاذلا، وأن القوة التي واجهت الضرب لم تتجاوز 700 مقاتل، أما حامية المدينة فلم تشترك في القتال، وكانت مؤلفة من أربعة آلايات: اثنان منها كانا مرابطين أصلا في المدينة، وهما الآلاي الخامس من المشاة بقيادة الأميرالاي مصطفى بك عبد الرحيم برأس التين، والآلاي السادس بقيادة الأميرالاي سليمان بك سامي داود، ويتألف من هذين الآلايين اللواء الثالث بقيادة خورشيد باشا طاهر، والجميع بقيادة الفريق إسماعيل باشا كامل، وقد زيد عليهما آلايان بعد مذبحة الإسكندرية، وهما الآلاي الثاني بقيادة خليل بك كامل، والرابع بقيادة عيد بك محمد، ويتألف من هذين الآلاليين اللواء الثاني بقيادة طلبة باشا عصمت، الذي جعله عرابي قائدا لموقع الإسكندرية وحاميتها.
ويقول عرابي: إن كل آلاي من المشاة كان مؤلفا من 3000 مقاتل، فيكون مجموع الجند يوم ضرب الإسكندرية 12000 من البيادة «المشاة» و700 من الطوبجية.
أما الأسطول البريطاني فكان مؤلفا من ثماني مدرعات كبيرة، وخمس سفن مدفعية وسفينة للطربيد وأخرى كشافة.
ومعظم مدافع هذا الأسطول من طراز أرمسترنج وعددها 77 مدفعا، والأسطول من هذه الناحية كان أقوى سلاحا من الحصون، وكان يفوقها في سرعة تحركه وابتعاده عن الهدف، على حين أن الحصون كانت مستقرة يسهل على الأسطول رميها بمدافعه فيصيبها. وكانت خطته في الضرب أن تجتمع عدة بوارج فتصوب نيرانها نحو حصن واحد فتدمره أو تسكته، ثم تتحول إلى الحصن الذي يليه ... وهكذا تستطيع أن تدمر الحصون حصنا بعد حصن، بينما الحصون لا تستطيع أن ينجد بعضها بعضا، فهذه المقابلة وحدها تنبئ مبدئيا بمصير الضرب، وتدل على أن كفة الأسطول البريطاني كانت أرجح بكثير من كفة الحصون المصرية.
أصدر الأميرال سيمور يوم 10 يوليو سنة 1882 تعليماته إلى بوارجه، لكي تأخذ مواقفها يوم الضرب على الترتيب الذي وضعه.
واتخذت البوارج موقفها على هذا النحو ليلة الضرب ... أما عن الاستعداد للضرب من ناحية الحصون، فقد استدعى عرابي في تلك الليلة الأميرالاي إسماعيل بك صبري قومندان حصون الإسكندرية، وكان عرابي وقتئذ «بالترسانة» يصحبه محمود باشا فهمي وطلبة باشا عصمت ومحمد باشا كامل وكيل نظارة البحرية، وأصدر إليه تعليماته، فانصرف إسماعيل بك صبري والتقى بضباط الحصون، ووزع كلا منهم في مركز عمله.
وأصدر أيضا تعليماته بتوزيع جنود الحامية على خطوط الاستحكامات من برج السلسلة شرقا إلى قلعة العجمي غربا.
وفي ليلة 11 يوليو كانت البوارج الإنجليزية على أهبة القتال، أما الأسطول الفرنسي فقد انسحب إلى بورسعيد تنفيذا لتعليمات حكومته، ولم يترك سوى سفينتين لم تعملا عملا ما ... وهكذا ترك الفرنسيون الإنجليز وحدهم ينفردون بالضرب والقتال، ولو اشتركوا معهم لتغير وجه المسألة المصرية، ولما استطاع الاحتلال الإنجليزي أن يثبت أقدامه في البلاد.
مأساة الضرب
في الساعة السابعة من صبيحة يوم الثلاثاء 11 يوليو سنة 1882 أعطى الأميرال سيمور إشارة الضرب ... فأطلقت البارجة «ألكسندرا» أول قنبلة على طابية الإسبتالية، وتلتها البوارج الأخرى، فأخذت تطلق قنابلها المدمرة على حصون المدينة وعلى المدينة ذاتها. أما القلاع فلم تجب على الضرب إلا بعد الطلقة الثالثة، بعد خمس دقائق، وكان الضرب من جانب الأسطول الإنجليزي شديدا مروعا، فكانت قنابله محكمة المرمى شديدة الفتك، أما القلاع فكانت ضعيفة متراخية وسقط كثير منها في البحر دون أن تصل إلى البوارج الإنجليزية.
وكانت البوارج أثناء الضرب تتحرك في سيرها، يحجبها عن الأعين دخان كثيف فلا يستطيع الرماة المصريون إحكام المرمى وإصابة الهدف منها، وكل بارجة بها شبكة من الفولاذ، إذا أصابتها قنبلة من قنابل الحصون صدت قوتها بحيث تضعف إذا نفذت إلى البارجة ذاتها، وقد ساعد على إحكام المرمى من جانب الأسطول أن الاستعداد الحربي من ناحية الإنجليز أقوى وأعظم منه من جانب القلاع المصرية، إذ كانوا مطلعين على دقائق الاستحكامات، ومبلغ ما بها من المدافع والميرة والذخيرة ومخازن القنابل فيها، بخلاف العرابيين فإن معلوماتهم عن قوات الإنجليز كانت مشوشة ضئيلة، وكانوا يظنون أن البوارج الإنجليزية لا تقوى على هدم القلاع ولا تقف أمام مرمى قنابلها، وقد اتضح عكس ما يظنون، فإن البوارج قد دكت الحصون وعطلت مدافعها، في حين أن الأسطول الإنجليزي لم يصب بضرر يذكر.
استمر الضرب من الساعة السابعة إلى الساعة الحادية عشرة على أقصى ما يكون من الهول والشدة، وقنابل الأسطول تقذف الخراب وتحصد الأرواح ... ثم سكتت قليلا واستؤنف الضرب بعد هنيهة حتى الساعة الثانية بعد الظهر، ثم وقف هنيهة أخرى، ثم استؤنف بعد ذلك إلى منتصف الساعة السادسة مساء قبل الغروب بساعة.
وقد تهدمت حصون الفنار ورأس التين والإسبتالية في منتصف الساعة الواحدة بعد الظهر، حيث اجتمعت عليها المدرعات ألكسندرا وسلطان وسوبرب، ولما أسكتتها صوبت قنابلها إلى قلعة «الأطة» وعاونتها في ضربها المدرعتان إنفلكسيبل وتمرير، فقذفت المدرعات الخمس نيرانها على تلك القلعة، فدمرتها بعد أن نسفت مستودع البارود فيها، ثم تحولت إلى قلعة «قايتباي» وظلت تقذفها بقنابلها إلى الساعة الخامسة مساء فخربتها.
وفي المنطقة الجنوبية من الساحل ضربت المدرعات إنفنسبل وبنلوب ومونارك وإنفلكسيبل وتمرير حصون المكس وأم قبيبة والدخيلة، فأسكتتها في منتصف الساعة الثانية عشرة، واتجهت السفينة كوندور إلى قلعة العجمي فضربتها بالقنابل حتى أسكتتها.
وفي نحو الساعة الأولى بعد الظهر شاهد الأميرال سيمور أن هذه الحصون قد أخلاها الجنود، فأرسل عشرين بحارا إلى البر دخلوا قلعة «المكس» وأتلفوا مدافعها، ثم عادوا إلى سفنهم آمنين.
وفي منتصف الساعة الرابعة شوهدت مدافع طابية «القمرية» تتأهب للضرب ... وعاد الجنود إلى قلعة «المكس»، فصوبت البارجتان «بنلوب» و«مونارك» مدافعهما إلى الحصن المذكور، وأخذتا في ضربه حتى منتصف الساعة السادسة مساء، حيث أمر الأميرال سيمور بالكف عن القتال، فوقف الضرب بعد أن استمر عشر ساعات متوالية.
وقد دافعت الحاميات عن الحصون دفاع المستميت، وقام رجالها بواجبهم قدر ما استطاعوا ... ولكن قوة الأسطول ومدافعه كانت لها الغلبة في هذا اليوم المشئوم، فتهدم معظم الحصون، وأصابت قنابل الأسطول كثيرا من مساكن الأهلين فدمرتها وأحرقتها، كما أحرقت جناح الحرم بسراي رأس التين.
وتفانى الأهلون في الدفاع عن المدينة، على رغم أن الحرب كانت حرب مدافع وحصون وبوارج، فبذلوا كل ما في استطاعتهم من تضحية وإقدام.
وقتل من المصريين خلال هذه الفظائع نحو ألفين، ولم تزد خسائر الإنجليز على خمسة من القتلى وتسعة عشر جريحا ...
وقد استيقن العرابيون يوم 12 يوليو أن الإنجليز لا بد محتلون الإسكندرية بعد أن دكوا حصونها، فاستقر عزمهم على الانسحاب من المدينة؛ ليستعدوا للمقاومة في الداخل، وكان الأحكم أن يقاوموا نزول الجنود الإنجليزية إلى البر بأن يوزعوا جزءا من قواتهم للمرابطة على الشواطئ ، ومنع رسو القوارب المقلة للجنود الإنجليزية ... فإنهم بذلك يعطلون نزولها مدة طويلة، وبخاصة لأن الأسطول الإنجليزي لم يكن قد تلقى المدد من جنود البر، وكانت قوته مقصورة إلى ذلك الحين على جنود البحارة، ولم يكن عددهم يزيد على 5700 مقاتل، وهؤلاء لم يكن في استطاعتهم أن يتغلبوا على حامية الإسكندرية.
حريق الإسكندرية
وكان في مقدور الحامية أن تصدهم عن النزول إلى البر وتدافعهم لو حاولوا النزول ... ولكن العرابيين لم يفعلوا شيئا من ذلك؛ لأنهم لم تكن لديهم قيادة صالحة تدبر الخطط المحكمة للقتال، فآثروا الانسحاب من الإسكندرية، ورأوا أن يتذرعوا بكل وسيلة لتعطيل احتلال الإنجليز للمدينة واستقرارهم فيها، فأمر سليمان سامي داود قائد الآلاي السادس جنوده بإضرام النار في المدينة، لكي يحول الحريق دون نزول الإنجليز بها واتخاذها قاعدة حربية لزحفهم، فشبت الحرائق الهائلة يوم الأربعاء 12 يوليو سنة 1882. وبدأ إضرام النار في نحو الساعة الثانية بعد الظهر، وأخذ يمتد حتى صارت الإسكندرية شعلة من النار مساء ذلك اليوم، واستمرت النار تضطرم فيها إلى اليوم التالي.
كان هذا الحريق من الوجهة العسكرية عملا عقيما؛ لأنه لم يعطل نزول الجنود الإنجليزية إلى البر فقد نزلوا في صبيحة اليوم التالي، واشترك في الحريق بعض الأوروبيين، وبخاصة من الأروام والمالطيين الذين بقوا في المدينة بعد هجرة معظمهم، وكانوا يقصدون من ذلك المطالبة بالتعويضات بعد انتهاء الحرب، كما اشتركوا أيضا في النهب.
ويقول جون نينيه عميد الجالية السويسرية - وكان شاهد عيان لهذه الحوادث: إن الحرائق الأولى شبت في الأحياء الأهلية من قنابل الأسطول الإنجليزي يوم الضرب، وكان الحريق الذي أمر به سليمان سامي داود على غير رأي عرابي والوزراء، فانفرد بإحداثه سليمان داود قائد الآلاي السادس، الذي كان مشهورا بالتهور والحمق، وكان يعتبر نفسه عرابي آخر بالإسكندرية، وقد صمم على ألا ينسحب الجيش من الإسكندرية إلا بعد أن يجعلها خرابا، وهذا يدلك على تشعب آراء العرابيين وعدم وجود وحدة في قيادتهم؛ لأن عملا خطيرا كحريق الإسكندرية ما كان يجب أن يحدث إلا إذا صدرت به الأوامر مجمعة من قيادة الجيش، ولكن الواقع أن عرابي لم يكن له دخل فيه، ولما وقع لم يستطع أن يمنعه.
واستقر رأي عرابي وصحبه على الانسحاب من الإسكندرية ثاني يوم الضرب، فأخذ الجيش يخليها يوم الأربعاء 12 يوليو. وفي مساء ذلك اليوم غادرها عرابي ووصل إلى «حجر النواتية» على ترعة المحمودية بعد الغروب وقضى الليلة هناك، وفي الصباح ركب رفاصا سار به في الترعة حتى وصل إلى «عزبة خورشيد» ومنها إلى «كنج عثمان» بالقرب من كفر الدوار، وهناك أمر بإنشاء الاستحكامات وهي التي اتخذها الجيش المصري معسكرا له، وعرفت بمعسكر كفر الدوار. واتخذ عرابي عزبة «كنج عثمان» مقرا لقيادة الجيش ... وفي صباح يوم 13 يوليو تحقق الأميرال سيمور من انسحاب العرابيين، وأنه لم يبق منهم أحد في المدينة، فأنزل كتيبة من جنوده البحارة واحتلوا سراي رأس التين وشبه جزيرة رأس التين.
أوروبا وضرب الإسكندرية
انسحبت فرنسا من الميدان، وأمرت أميرال أسطولها بمغادرة الإسكندرية قبل الضرب ... فبارحها مساء 10 يوليو سنة 1882. ومعنى ذلك أن الحكومة الفرنسية تركت إنجلترا تفعل ما تشاء، وتعتدي ذلك الاعتداء الغشوم على المدينة، فتدك حصونها وتهدم مبانيها وتحصد أرواح أهلها، دون أن تبدي حراكا ... قابلت فرنسا هذا الاعتداء الوحشي بالجمود، ولو أرادت منعه لكان لها من مركزها الممتاز في المسألة المصرية ما يحول دون وقوعه ... وكذلك فعلت دول أوروبا العظمى، فإنها ظلت جامدة لا تحرك ساكنا أمام هذه المأساة ... ولو وقع مثل هذا الاعتداء على أمة أوروبية كاليونان أو الجبل الأسود أو بلغاريا، لاهتزت الحكومات الأوروبية، وتوعدت وأنذرت المعتدي بالضرب على يده ...
ولعلك تذكر موقفها حيال مصر ذاتها حين لبت نداء تركيا في محاربة الثوار اليونانيين، وما فعلته أوروبا إذ ائتمرت بأسطولها فأحرقته غدرا وخيانة في «نافارين» سنة 1827 ... ولا تنس ما فعلته مع مصر فقد حرمتها ثمرة انتصاراتها على الترك في عهد محمد علي، وائتمرت بها وانقضت المزايا التي نالتها بحد السيف. أما في سنة 1882 فقد تركتها لبطش الإنجليز دون أن تحرك ساكنا!
وليس من العسير علينا أن نفهم سبب هذا التباين في المعاملة ... فأوروبا لا تنظر إلى مصر بالعين التي تنظر بها إلى الأمم الغربية، ولا تراها جديرة بالعطف الذي حبت به اليونان وبلغاريا، ومما يدلك على مشاركة أوروبا لإنجلترا في مسئولية حوادث سنة 1882 أنه لم يكد الجيش الإنجليزي ينتصر على العرابيين في واقعة التل الكبير، حتى بادر المسيو تيسو سفير فرنسا بلندن إلى مقابلة اللورد جرانفيل وزير خارجية إنجلترا، وهنأه باسم الحكومة الفرنسية على هذا الانتصار، وكان جواب جرانفيل على تهنئته: «إن واقعة التل الكبير هي انتصار أوروبي، ولو انهزم الجيش الإنجليزي لكان ذلك كارثة على كل الدول التي تحسب حسابا للتعصب الإسلامي.»
وقد هنأ المسيو دكلرك رئيس وزارة فرنسا السفير البريطاني في باريس بهذه الواقعة قائلا: «إن انتصار الإنجليز على العرب في مصر، ينتج ثمرة طيبة لفرنسا في تونس والجزائر.»
وقوبل نبأ الضرب في «مؤتمر الآستانة» بالفتور والجمود، ولم يكن المؤتمر قد انفض بعد ... ولو كانت الدول الأوروبية حريصة على الدفاع عن حقوق مصر بل عن الحقوق عامة، لكان لضرب الإسكندرية صدى عاجل في المؤتمر يحفزه إلى وضع حد لهذا الاعتداء، ولكنه على العكس قابله بالصمت والبرود، ولم يبد أي اعتراض على إنجلترا في نقضها عهودها، وخاصة عهودها في ذلك المؤتمر بالذات ... لم يكن لهذا الاعتداء أي أثر فعلي في نفوس المؤتمرين، وهم سفراء الدول الأوروبية الكبرى في الآستانة، وكل ما فعله مندوب روسيا أن نفض يده من المؤتمر، وامتنع مؤقتا عن حضور جلساته، وهو عمل سلبي لا يمنع الاعتداء ولا يحول دون استمراره.
وفي 15 يوليو سنة 1882 اجتمع المؤتمر لأول مرة عقب ضرب الإسكندرية، وتحرك إلى دعوة تركيا لإرسال جيش عثماني إلى مصر تنفيذا لقراره الذي أصدره في جلسته السابقة - 6 يوليو - ولم يكن قد أبلغه إليها من قبل، ورضي السلطان - أخيرا أيضا - بالاشتراك في المؤتمر للمباحثة في إقرار الوسائل الكفيلة بإعادة الأمور إلى نصابها ... بدأت إذن تركيا تشترك في المؤتمر بعد أن أصبح لا عمل له، وأرسلت وزارة الخارجية العثمانية في 19 يوليو، تبلغه أنها تقبل الاشتراك فيه، وعينت مندوبيها به، وهما سعيد باشا وزير الخارجية وعاصم باشا وزير الأوقاف، فحضرا جلسة 24 يوليو - الجلسة العاشرة - وتولى سعيد باشا رياسة المؤتمر بصفته وزير خارجية الدولة التي انعقد المؤتمر في عاصمتها، وصرح بأن الحكومة العثمانية قبلت مبدأ إرسال جنود إلى مصر، وبجلسة 7 أغسطس أعلن أن حكومته قبلت شروط التدخل التي قررها المؤتمر في 15 يوليو ...
وكانت هذه الأقوال مهزلة أخرى - إذ لم تكن تركيا قد أعدت جيشا ما ... وأبطأت في إنفاذ عزمها حتى انتهت الحرب بهزيمة العرابيين، ودخول الإنجليز القاهرة قبل أن يتحرك الجيش العثماني إلى مصر! (2) قناة السويس
وكل ما عني به المؤتمر أنه بحث بجلسته التاسعة يوم 19 يوليو سنة 1882 في حماية قناة السويس من أن تصيبها الحرب بسوء؛ وذلك بناء على ما تظاهرت به إنجلترا من الخوف على القناة أن يسدها العرابيون بعد ضرب الإسكندرية، وكان هذا الخوف مع الأسف لا محل له؛ لأن عرابي لم يفكر جديا في سد القناة إلا بعد احتلال الإنجليز الإسماعيلية؛ أي في 20 أغسطس. ولكن إنجلترا بادرت بمبادلة الدول تخوفها من هذه الناحية لكي تنتحل لنفسها حق حماية القناة، إذا لم تتفق الدول على حمايتها دوليا ...
وقد عرض سفيرا إنجلترا وفرنسا في المؤتمر بجلسة 19 يوليو رأي حكومتيهما في أن يكل المؤتمر إلى من يختار من الدول حماية القناة إذا أصابها اعتداء، ولم يلق هذا الاقتراح قبولا من المؤتمر، فاتفقت إنجلترا وفرنسا على أن يصرح سفيراهما في المؤتمر بأنهما مستعدتان عند الحاجة إلى حماية القناة، وقد صرح السفيران بذلك في جلسة المؤتمر الحادية عشرة التي انعقدت يوم 26 يوليو، فلم يعترض المؤتمر ولم يبد احتجاجا.
وأبلغ الباب العالي أعضاء المؤتمر في 24 يوليو ثم في 27 منه أن جنوده على أهبة السفر إلى مصر وأنه مستعد للتدخل فيها، ولكن بلاغه لم يقترن بأي عمل، وعرضت وزارة المسيو دي فريسينيه على البرلمان الفرنسي فتح اعتماد، لإعداد القوات الكفيلة بجعل القناة في مأمن من كل اعتداء وحماية السفن المارة فيها، ولكن البرلمان قرر في 29 يوليو رفض الاعتماد المطلوب ... مما أدى إلى استقالة وزارة فريسينيه واضطرار الوزارة التي خلفتها - وزارة دكلرك - إلى أن تنفض يدها من المسألة المصرية نزولا على قرار البرلمان ... فكان هذا القرار من فرنسا إعلانا بنفض يدها بل بإفلاس سياستها في المسألة المصرية، والسبب الذي حدا بالبرلمان الفرنسي إلى رفض الاعتماد هو الخوف من توزيع قوات فرنسا، في وقت كانت تخشى فيه على كيانها في القارة الأوروبية من تحفز ألمانيا، فهو نفس السبب الذي حدا بالوزارة الفرنسية إلى الإحجام عن مشاركة بريطانيا في تدخلها الحربي، حين عرضت عليها ذلك في يوليو 1882 قبل ضرب الإسكندرية.
وفي الوقت الذي أصدر البرلمان الفرنسي هذا القرار، قرر البرلمان البريطاني في 27 يوليو الاعتماد المطلوب من الحكومة الإنجليزية للحملة على مصر، وذلك بأغلبية 277 ضد 21 صوتا؛ أي بأغلبية تشبه الإجماع، وبلغ الاعتماد الذي قرره 2300000 جنيه.
يتضح مما تقدم أن المؤتمر لم يكن يعنيه رد الاعتداء عن مصر؛ بل كل ما همه وشغل باله أمر قناة السويس ... وقد انتهى من مباحثاته العقيمة إلى ترك الإنجليز يتصرفون كما تهوى أطماعهم الاستعمارية.
اجتمع المؤتمر للمرة الأخيرة يوم 14 أغسطس سنة 1882، وكانت الجنود البريطانية قد زحفت في داخل البلاد، وظهرت بوادر انتصارها على العرابيين ... فلم يجد المؤتمر عملا يشغله سوى تأجيل انعقاده إلى أجل غير مسمى، ولم يجتمع بعدها إذ كانت قوات الإنجليز قد تغلبت على العرابيين، وبذلك انطوت صفحة المؤتمر بدون أن يعمل عملا ما في صون حقوق مصر، ورد عادية الإنجليز عنها، وأخفق إخفاقا جعله مضرب الأمثال في المهازل السياسية، الخالية من روح النزاهة والصراحة والإخلاص.
الحرب بين عرابي والإنجليز
(1) بين الخديو وعرابي
تربص الإنجليز في الإسكندرية حتى يعدوا العدة للزحف، ويتلقوا الأمداد التي جاءتهم بعد ذلك من إنجلترا ... وأخذوا في الأيام الأولى ينظمون الاحتلال مستعينين بالخديو ونفوذه الشرعي، وأذاع الأميرال سيمور يوم 17 يوليو منشورا بالمحافظة على الأمن، علق في شوارع المدينة، وهو أول منشور أعلن الإنجليز فيه أنهم مكلفون من جانب الخديو بالمحافظة على النظام.
واستكتب الأميرال سيمور راغب باشا رئيس مجلس الوزراء خطابا بتاريخ 17 يوليو سنة 1882 يبلغ فيه الأميرال مخالفة عرابي لأوامر الخديو، فيما يقوم به من وسائل الدفاع، وعزم الخديو على عزله من منصبه ... وهذا الخطاب يبدو غريبا من راغب باشا، الذي كان حتى ضرب الإسكندرية يعضد العرابيين ويؤيدهم ويقاوم التدخل البريطاني، والخطاب يناقض أيضا قرار مجلس الوزراء، الذي اشترك راغب باشا في وضعه بوصفه رئيسا للنظار، والذي رد فيه على إنذار الأميرال سيمور قبيل ضرب الإسكندرية، وأرسل الخديو من سراي رأس التين يوم 17 يوليو تلغرافا إلى عرابي بكفر الدوار يأمره فيه بالكف عن الاستعدادات الحربية، ويحمله تبعة ضرب الإسكندرية، ويدافع فيه عن حسن مقاصد الإنجليز، ويأمره بالحضور إلى سراي رأس التين ليتلقى منه تعليماته.
فأجاب عرابي على هذه الرسالة ببرقية شرح فيها وجهة نظره، وأبان الأسباب التي توجب استمرار الدفاع، وهي طلبات الأميرال سيمور، وقرار مجلس الوزراء برياسة الخديو برفضها ولو أدى ذلك إلى القتال، واعتذر عن الحضور إلى الإسكندرية لأن الإنجليز يحتلونها، وطلب إلى الخديو أن يوفد إليه الوزراء أو رئيسهم في مركز الجيش بكفر الدوار، للمداولة في الموقف، ولما تحقق عرابي انحياز الخديو إلى جانب الإنجليز، خشي أن يصدر من الأوامر ما يشل حركة الاستعدادات الحربية، فأرسل عرابي إلى جميع المديريات والمحافظات تلغرافات شديدة اللهجة، اتهم فيها الخديو بممالأة الإنجليز وحذر الجميع من اتباع أوامره التي تخالف حالة الحرب.
وأرسل إلى يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الحربية بالقاهرة كتابا بتاريخ 17 يوليو سنة 1882، دعا إلى وجوب عقد جمعية عمومية من الذوات والأعيان والعلماء، يعرض عليها الموقف ويطلب منها إصدار قرار في شأن الخديو، وفيما يجب عمله لصالح الأمة «وصلاحية مثل هذا الوالي عليها»، وختم كتابه بالمثابرة على التجهيزات الحربية، وأنه تحرر منه بذلك إلى جميع حكام البلاد.
وأذاع منشورا أرسله إلى المديريات والدواوين كافة، بإعلان انضمام الخديو إلى جانب الإنجليز وخلع طاعته.
كان يعقوب سامي باشا من الموالين لعرابي، كما كان في خاصة نفسه يرى بحق وجوب الدفاع عن البلاد إزاء عدوان الإنجليز ... فلما جاء تلغراف عرابي اجتمع يوم وروده مع خاصته المناصرين له في وزارة الحربية «قصر النيل»، واستقر رأيهم على عقد مجلس بديوان الداخلية في مساء ذلك اليوم مؤلف من وكلاء الوزارات وبعض كبار الضباط والموظفين.
فاجتمع المجلس المذكور وقرر دعوة العلماء والأعيان والرؤساء الروحانيين والوجهاء، وكبار موظفي الحكومة بديوان الداخلية ليلا في هيئة جمعية عمومية؛ لاتخاذ ما يلزم من القرارات بالنيابة عن الأمة، وأخذ هذا المجلس يتولى سلطة الحكم ... وظل كذلك خلال الحرب، وقد سمي في الوقائع المصرية «المجلس العرفي»، وسنجري على هذه التسمية الأخيرة في سياق الحديث.
وفي مساء يوم الإثنين 17 يوليو سنة 1882 اجتمع المدعوون إلى حضور الجمعية العمومية بوزارة الداخلية، وبلغ عددهم أربعمائة عضو، منهم الأمراء الموجودون بالعاصمة وشيخ الإسلام، وقاضي قضاة مصر ومفتي الديار المصرية وكبار العلماء والرؤساء الروحانيون والنواب، ووكلاء الدواوين والمديرون والقضاة والتجار والأعيان.
وعرضت عليهم الرسائل التي تبودلت بين الخديو وعرابي، وبين هذا الأخير ووكيل الحربية، وتداولوا في الموقف ... فأجمعوا على وجوب مداومة الاستعدادات الحربية ما دامت بوارج الإنجليز في السواحل وجنودهم في الإسكندرية، وعلى استدعاء الوزراء من الإسكندرية للاستفهام منهم عن حقيقة الأمر، وأصدروا قرارا بهذا المعنى ...
وعلى إثر اطلاع الخديو على قرار الجمعية العمومية أصدر أمرا في 20 يوليو سنة 1882 بعزل عرابي من وزارة الحربية، وعين عمر باشا لطفي محافظ الإسكندرية بدلا عنه، وبنى أمر العزل على مخالفة عرابي لأوامره ومداومته على الاستعدادات الحربية، وقد صدر هذا الأمر بناء على قرار من مجلس الوزراء، وكان بعضهم مخالفا لفكرة العزل، ولكن الخديو أصر عليها، وأبلغه هذا الأمر في كتاب بعث به إليه.
وأذاع الخديو في الوقت نفسه منشورا علق في شوارع الإسكندرية، فصل فيه الأسباب التي دعت إلى عزل عرابي من منصبه، وأخذ فيه على عرابي إخلاء الإسكندرية دون مقاومة، ثم دافع عن نيات الإنجليز واحتلالهم الإسكندرية، وسوغه بأن الغرض منه المحافظة على الأمن!
وكان عرابي مرابطا في معسكره بكفر الدوار حين أصدر الخديو أمره بعزله من منصبه، فلم يكترث له واستمر يعد عدة الدفاع ليصد تقدم الإنجليز، وأرسل إلى يعقوب سامي باشا يدعوه إلى عقد الجمعية العمومية ثانية للنظر في أمر العزل ... فقرر المجلس العرفي دعوة الجمعية العمومية إلى الانعقاد، واجتمعت بوزارة الداخلية يوم السبت 23 يوليو سنة 1882، وهذه هي المرة الثانية لاجتماعها، ولم تجتمع بعد ذلك، وكان الحاضرون في المرة الثانية أكثر عددا من المرة الأولى، إذ حضرها نحو خمسمائة من الأعضاء، منهم ثلاثة من الأمراء، وشيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومفتيها ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط الأرثوذكس وحاخام اليهود، والنواب والقضاة والمفتشون ومديرو المديريات والأعيان، وكثير من العمد ومشايخ البلاد، فلما اجتمعت الجمعية تليت عليها الأوامر الصادرة من الخديو، والمنشورات التي أصدرها عرابي، وتولى هذه التلاوة الشيخ محمد عبده (الأستاذ الإمام) بناء على أمر حسين باشا الدرمللي وكيل الداخلية، وألقى علي باشا الروبي خطبة تناول فيها الخديو بالطعن والقدح، وتليت فتوى شرعية من الشيخ محمد عليش والشيخ حسن العدوي والشيخ محمد أبو العلا الخلفاوي، بمروق الخديو من الدين لانحيازه إلى الجيش المحارب للبلاد، وتداول الأعضاء في الموقف الحربي، وفيما يجب عمله، فاتفقت آراؤهم على عدم قبول عزل عرابي، وبعد أن صدر هذا القرار، قال يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الحربية: «حيث قرر هذا المجلس المحترم عدم عزل عرابي باشا من نظارة الجهادية والبحرية، ورأى لزوم بقائه في الوظيفة ... فأرجو من المجلس أن يرى رأيه في أوامر الخديو التي تصدر إلي من جنابه، وكذلك ما يصدر من حضرات نظاره المقيمين معه، هل يلزمني قبولها وتنفيذها أم لا؟» فتداولت الجمعية العمومية في هذه المسألة، وأصدرت قرارها بوقف أوامر الخديو ونظاره وعدم تنفيذها. (1-1) الحرب بين العرابيين والإنجليز
عسكر عرابي بجيشه في كفر الدوار وأقام بها الاستحكامات المنيعة، وأخذت طلائع العرابيين تناوش الإنجليز في ضواحي الإسكندرية ... ولم يكن الجيش الإنجليزي قد أمن بعد على مركزه في الثغر، بل كان يتوقع أن يهاجمه العرابيون بعد أن يلموا شعثهم عقب الهزيمة الأولى، فأخذ الإنجليز يحصنون استحكامات المدينة ووضعوا الحراس على مداخلها.
وكانت طلائع المصريين ترابط في الرمل وتستعد لمناوشة الأعداء ... واستمر الإنجليز يلزمون خطة الدفاع في الإسكندرية وينتظرون وصول الإمداد . وفي 17 يوليو جاءهم مدد من 2700 مقاتل، وجاء الإسكندرية الجنرال أليزون
Alison
فتولى قيادة الجيش البريطاني في المدينة حتى يحضر القائد العام الجنرال ولسلي، وكان عدد الجيش البريطاني في الإسكندرية 3686 مقاتلا - عدا جنود الأسطول - ثم جاءهم مدد آخر عدده 1108 من مالطة وجبل طارق ... فاحتل الإنجليز الرمل في 23 يوليو، ثم أخذ المدد الأكبر يتحرك من ميناء ولوتش
Wolluich
بإنجلترا في أواخر يوليو قاصدا مصر، وأصدرت الملكة فيكتوريا أمرا في 21 يوليو بتعيين الجنرال السير جارنت ولسلي
Sir Garent Wolsley
قائدا عاما لجيش الحملة على مصر، ولم يصل إلى الإسكندرية إلا في منتصف أغسطس.
وكان المظنون لدى عرابي وصحبه أن لا يتخذ الإنجليز قناة السويس ميدانا للزحف أو للحركات الحربية احتراما لحيدة القناة ... ولكن العارفين بالحقائق كانوا على يقين من أنهم لا يرعون للقناة حرمة، كما لم يرعوا حرمة المعاهدات في ضربهم الإسكندرية، فكانت خطتهم أن يهاجموا مصر من ناحية الإسماعيلية، متجهين من طريق الزقازيق إلى القاهرة.
خطة العرابيين في القتال
عين عرابي محمود باشا فهمي رئيسا لأركان حرب الجيش المصري عقب ضرب الإسكندرية، فوضع خطة سديدة للدفاع عن البلاد لو اتبعت بإحكام، لصدت تقدم الإنجليز وأنقذت مصر من غارتهم ... وكان محمود فهمي من أكفأ المهندسين الحربيين، وخلاصة خطته أنه عين خمسة مواقع رئيسة للدفاع: الأول في كفر الدوار، والثاني في رشيد، والثالث بين رشيد وبحيرة البرلس، والرابع في دمياط، والخامس في الصالحية والتل الكبير لصد الهجوم من ناحية قناة السويس، وقد أشار في بداية الحرب بسد ترعة الإسماعيلية لمنع وصول المياه العذبة إلى بورسعيد والإسماعيلية والسويس، وسد قناة السويس ذاتها لمنع الإنجليز من اتخاذها قاعدة عسكرية.
ولو سدت قناة السويس في بداية القتال لامتنع الاتصال بين القوات الإنجليزية الآتية من البحر الأبيض المتوسط والقوات الآتية من الهند، واستحال عليها الوصول إلى الإسماعيلية من طريق القناة، وفي هذه الحالة يضطر الجنرال ولسلي إلى المغامرة بجيشه في الصحراء الشرقية حيث لا ماء ولا كلأ، أو يهاجم مصر عن طريق الدلتا، فتعوق الترع والجسور زحفه وخاصة في أيام الفيضان (أغسطس-سبتمبر ). ولكن عرابي لم يستمع لنصيحة محمود فهمي وخشي عواقبها، وظن أن الإنجليز يحترمون حياد القناة فلا يتخذونها قاعدة للزحف، فكان هذا الخطأ أكبر عامل في إخفاق خطة الدفاع التي وضعها محمود فهمي، واكتفى عرابي بإقامة معسكر في التل الكبير على بعد نحو خمسين كيلومترا من الإسماعيلية، و110 كيلومترات من القاهرة حشد فيها جانبا من الجيش، ولكنه وزع معظم قواته في كفر الدوار وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ... فكان الجنود السودانيون وهم من خيرة الجنود مرابطين في دمياط بقيادة عبد العال حلمي، ورابط في رشيد فيلق كبير، واستقر معظم الجيش بقيادة طلبة عصمت في كفر الدوار، ومع أن الإنجليز استعجلوا الحركات العدائية في قناة السويس وكانت هذه الحركات نذيرا كافيا لعرابي بما اعتزموه من خرق حياد القناة، فإن عرابي جبن عن العمل بنصيحة محمود فهمي في سدها. •••
ولقد بكر الإنجليز في خرق حرمة قناة السويس واتخاذها ميدانا للحركات العدائية ... وتدل الظروف والملابسات على أنهم كانوا مصرين على اختلاق الذرائع لاحتلالها، كما اختلقوها لضرب الإسكندرية، فقد تعللوا بأن ثمة ترميمات تجرى في طابية «الجميل» على مدخل بحيرة المنزلة غربي بورسعيد، وأصدرت الحكومة البريطانية في 22 يوليو سنة 1882 تعليماتها إلى الأميرال سيمور باحتلال بورسعيد والإسماعيلية، وفي 26 يوليو سنة 1882 اقتحمت السفينة الحربية الإنجليزية «أوريون» بقيادة الكابتن «فتزوري» القناة عند بورسعيد، وألقت مراسيها يوم 27 منه في بحيرة التمساح على بعد ثمانمائة متر من الإسماعيلية، ولم يكد يمضي على دخولها القناة يومان حتى وصل الأميرال «هويت» إلى السويس، والأميرال «هوبكنس» إلى بورسعيد، واستقر كل منهما في موقفه ينتظر التعليمات الخاصة باحتلال القناة. •••
وهذه الحركات الحربية المبكرة في ناحية القناة، كانت تنم عما اعتزمه الإنجليز في بداية القتال من الزحف من طريق قناة السويس ... ولكن عرابي مع ذلك ظل غافلا عن هذه النية!
واحتل الإنجليز مدينة السويس في 2 أغسطس، وظل عرابي برغم احتلالها يعتقد حرمة قناة السويس، بحجة أن القناة إنما تبتدئ من «بور توفيق» ضاحية السويس - والتي لا تبعد عنها إلا بثلاثة كيلومترات - وكان احتلال السويس نذيرا آخر باتخاذ الإنجليز لها قاعدة للزحف على العاصمة، وقد تحرك المدد من الهند بعد سبعة أيام من احتلالها. (2) وقائع الميدان الغربي
نقصد بالميدان الغربي ما بين الإسكندرية وكفر الدوار ... تمييزا له عن الميدان الشرقي من الإسماعيلية إلى التل الكبير.
لقد وجه عرابي كل عنايته إلى تحصين مواقعه في الميدان الغربي، وأهمل الميدان الشرقي إهمالا تاما، مما كان السبب الأكبر في الهزيمة ... فأنشأ الاستحكامات المنيعة في مواقع الدفاع، مما يلي الرمل جنوبا إلى كفر الدوار بين بحيرة أبو قير وملاحة مريوط، ووضع محمود فهمي تصميم هذه المواقع بمعاونة الأميرالاي محمد بك شكري، وهو من أكفأ ضباط أركان حرب الجيش المصري ... فكانت مؤلفة من ثلاثة خطوط للدفاع، يبعد كل واحد عما يليه بأربعة أو خمسة كيلومترات، وأمام كل خط خندق عمقه خمس عشرة قدما، وأقيمت المعاقل على جميع المرتفعات والآكام، وركبت فيها المدافع وعددها خمسون مدفعا. (3) واقعة الرمل
تحرك الإنجليز يوم السبت 5 أغسطس سنة 1882 يريدون التقدم من جهة «الرمل» بأورطتين من المشاة وأورطتين من الفرسان ... فلما صاروا على بعد ألف وخمسمائة متر من موقع المصريين، التقى بهم البكباشي أحمد أفندي البيار والبكباشي مصطفى أفندي حسان، ومعهما أورطتان من المشاة وأورطتان من الفرسان، وصدوهم عن التقدم ... ثم جاء خورشيد باشا طاهر قومندان خط الدفاع في أبو قير ومعه ثلاثة بلوكات من الفرسان، فهجم المصريون على الإنجليز هجوما شديدا واضطروهم إلى التقهقر، إذ ولوا الأدبار منهزمين بعد أن دام القتال ثلاث ساعات ونصفا ...
ويقول الكولونيل «سبتان» عن هذه المعركة: إن الجنرال «أليزون» كان يقود الإنجليز فيها وأن عددهم كان ألفي مقاتل، وأن الجنرال «أليزون» كان لا يفتأ يناوش العرابيين حول الإسكندرية كل يوم، لكي يوهمهم أن الجيش البريطاني قد اتخذ الإسكندرية قاعدة للزحف، في حين أن خطته الحقيقية هي الزحف من ناحية الإسماعيلية، وبذلك يشغلهم عن تحصين التل الكبير ومواقع الدفاع في الشرق. (4) واقعة عزبة خورشيد
وهاجم الإنجليز مقدمة الجيش المصري في كفر الدوار يوم 7 أغسطس، إذ تقدم جناحهم الأيسر من الرمل على جسر ترعة المحمودية، وتقدم الجناح الأيمن بطريق السكة الحديد من القباري ... وجاء القلب من طريق كوبري المحمودية، فلما التقوا بالمصريين صمد هؤلاء لقتالهم ودافعوهم دفاعا مجيدا، إذ انبرى للميسرة البكباشي محروس أفندي يقود أورطته، وأبلى في قتالهم بلاء حسنا وجرح أثناء المعركة، وصمد للقلب والميسرة البكباشي محمد أفندي فودة ومعه أورطة أخرى من الجنود، واشتد القتال في هذه الناحية واستمرت المعركة نحو أربع ساعات، انتهت بتقهقر الإنجليز منهزمين، وسار المصريون على أثرهم حتى حجبهم الظلام عنهم ... وقتل من المصريين في هذه الواقعة تسعة من الجنود وصف الضباط وضابط واحد، وجرح منهم اثنا عشر جنديا وضابطان ... أما خسائر الإنجليز، فكانت أكثر عددا من خسائر المصريين. (5) الاستعداد للمعارك الكبرى
وبعد وقوع معركتي 5 و7 أغسطس سنة 1882 المتقدم ذكرهما، استمر ورود الأمداد إلى الإنجليز في الإسكندرية، آتية من مالطة وقبرص وجبل طارق وإنجلترا ... فاجتمع حوالي 9 أغسطس سنة 1882 في المدينة وضواحيها نحو أربعة عشر ألفا من المشاة، وثلاث فصائل من الفرسان و940 جنديا من المدفعية، و540 من المهندسين، وكثير من القائمين على خدمة الجسور والتلغراف والسكك الحديدية، وظل المدد يرد على الإسكندرية والسويس حتى بلغ عدد الجيش البريطاني قبيل معركة التل الكبير 50600 مقاتل.
أما الجيش المصري النظامي فلم يكن يزيد على 19000 مقاتل موزعين بين مختلف المواقع، منهم 8000 في كفر الدوار، و3500 بأبو قير، و2500 في رشيد، و5000 في دمياط، وقد انضم إلى هذا الجيش عدد من المتطوعين والعربان، ولكن الوقت لم يكن يسمح بتدريبهم على الحركات النظامية، فلم تكن منهم فائدة. ويقول جون نينيه الذي شهد هذه الحوادث: «إن وجود العربان من مشاة وركبان في كفر الدوار لم تكن له فائدة ما للجيش، بل كان ضررهم أكثر من نفعهم لعدم اعتيادهم حركات الجيوش النظامية.» وقال المستر بلنت: «إن الجيش المصري بأكمله لم يكن يزيد على 13000 جندي نظامي، منهم 8000 في كفر الدوار، أما المجندون الجدد فلم يكونوا بعد أكفاء للقتال.»
ويقول جون نينيه أيضا: «إن الصحف الإنجليزية كانت تبالغ في عدد الجيش المصري بكفر الدوار ، وتبلغه إلى 47000 مقاتل على حين أنه دون هذا العدد بكثير.»
فالإحصاء الصحيح هو ما ذكره جون نينيه. وفي الحق أن الوقت لم يكن يتسع لزيادة عدد الجيش إلى أكثر من هذا العدد، فقد كان سنة 1881 لا يزيد على 11300 جندي (عدا الجنود المرابطة في السودان) ثم زيد نظريا في سنة 1882 إلى 17700 لكن عدده الحقيقي كان أقل من ذلك كثيرا.
ويقول عرابي في مذكراته: «إن الجيش المصري عند ابتداء القتال كان مؤلفا من ثمانية آلايات من المشاة، وثلاثة آلايات من الفرسان، وآلايين من الطوبجية البرية، وثلاث آلايات من طوبجية السواحل - المنوط بهم حماية الثغور - وفرقة من رجال الهندسة، وإن مجموع ذلك في حالة استكمال الفرق والآلايات 36000.» وهو إحصاء نظري لا يمكن التعويل عليه؛ لأن المعروف أن الفرق والآلايات لم تستكمل قط عددها، بل كان بعضها لا يبلغ نصف عدده الرسمي.
والظاهر أن عرابي كان يميل بعد هزيمة التل الكبير، وفي خلال محاكمته إلى المبالغة في عدد الجيش المصري؛ لكي يتخذ الدفاع عنه من ذلك دليلا على رغبته في حقن الدماء، مع وجود العدد الوافر لديه من الجند لاستمرار القتال، وسجل عرابي في مذكراته أنه كان بالقاهرة قبل ابتداء القتال مصنع للأسلحة، ومعمل للبارود، وآخر في بولاق لصب المدافع، ودار صناعة عظيمة لعمل البنادق والمدافع أنشئت في طرة ... ولكنها لم تكمل قبل نشوب الحرب.
يتضح لك من هذا البيان أن عدد الجيش الإنجليزي كان يزيد على ضعف عدد الجيش المصري ... وهذا وحده كان نذيرا بسوء العاقبة. وقد جعل الفريق راشد باشا حسني قائدا لخطوط الدفاع في الشرق، وخورشيد باشا طاهر على رشيد وأبو قير، وعلي باشا الروبي على مريوط، وعبد العال باشا حلمي على دمياط، ومحمود سامي باشا البارودي قائدا لمواقع الصالحية، وطلبة باشا عصمت قائدا لفرقة كفر الدوار تحت إمرة عرابي.
واعتزم عرابي زيادة عدد الجيش، فرأى أن أقرب الوسائل إلى هذه الزيادة تجنيد الخفراء في سائر المديريات، لمرانهم على الحركات العسكرية من قبل، فأصدر منشورا في 12 أغسطس سنة 1882 بتجنيد 25 ألفا يؤخذون من الخفراء، ويحل محلهم غيرهم في المحافظة على الأمن ، ووزع هذا العدد على المديريات كافة، وأرسل إلى المديرين يستحثهم على سرعة تجنيد هذا العدد، وبين حاجة الدفاع إلى ذلك.
ولا شك في أنه لو كان لدى مصر الوقت الكافي لجندت هذا العدد وأكثر منه ... ولكن الوقت لم يكن يتسع لتجنيد الخمسة والعشرين ألفا ولا غيرهم، ويقول نينيه: «إنه كان يمكن لعرابي بعد ثمانية أشهر أو عشرة حشد خمسين ألف مقاتل أو ستين ألفا، فقد كان يشرف على حركة التجنيد يعقوب سامي باشا وكيل وزارة الحربية، وكان كفؤا في الإدارة، ولكن الوقت لم يتسع لهذا العمل.»
ولما شبت الحرب لم يكن في خزانة الحكومة مال؛ لأن السير كلفن المراقب المالي الإنجليزي أخذ الأموال الموجودة في خزانة المالية، وأنزلها بالأسطول الإنجليزي قبل إعلان الحرب بأيام، وكذلك الأموال الموجودة بصندوق الدين حملها أعضاء القومسيون إلى السفن الحربية بالإسكندرية، فأرسل عرابي إلى المديرين يدعوهم إلى جمع الأموال والإعانات من مديرياتهم للجيش، وحرر من المجلس العرفي للمديريات بتحصيل الأموال من الأهالي بنسبة عشرة قروش عن كل فدان، على أن تحسب الأموال لمن يدفعونها من ضرائب الأطيان التي تستحق عليهم في المستقبل.
وتطوع الكثيرون في الجيش جنودا مقاتلين يجودون بأرواحهم في سبيل الدفاع عن الوطن، وبدأت حركة التطوع في القاهرة والأقاليم عقب ضرب الإسكندرية.
والحق أن الأهلين قد تطوعوا لإمداد الجيش بكل ما يستطيعون، من نفس ومال وغلال وعتاد ومئونة وميرة وخيول وماشية، وجادوا بكل ما في مقدورهم معتقدين بحق أن هذا واجب تفرضه عليهم الوطنية والدين.
قلنا إن الحكومة البريطانية عهدت بقيادة جيش الحملة على مصر إلى الجنرال السير «جارنت ولسلي» أحد القواد الأرلنديين في الجيش البريطاني، فوصل إلى الإسكندرية يوم 15 أغسطس سنة 1882.
لم يكن الجنرال ولسلي من القواد الذين اشتهروا بالكفاية العالية في القيادة، ولا ممن امتازوا في معارك سابقة بالنبوغ في الفنون الحربية ... بل كان ما عرف عنه أنه اشترك من قبل في حرب القرم، وفي بعض الحملات الاستعمارية الإنجليزية، وكان لم يزل برتبة قائم مقام جنرال، حين تولى قيادة الحملة على مصر سنة 1882، فلما انتهت بهزيمة العرابيين في التل الكبير واحتلال العاصمة، انهالت عليه ألقاب الشرف والتكريم، فنال لقب لورد «فيكونت» ولسلي أوف كيرو «القاهرة» ورتبة جنرال وغير ذلك من دلائل التقدير، على أنه تولى فيما بعد - سنة 1884 - قيادة الحملة على قوات المهدي في دنقلة، فانتهت بإخفاقها ومقتل غردون باشا، وتولى سنة 1903 قيادة الجيش الإنجليزي في حرب البوير بالترنسفال، فباء بالهزيمة والخسران ... وعدته حكومته مسئولا عن النكبة التي حلت بالجيش الإنجليزي، فنحته عن قيادته، وعينت بدله الجنرال اللورد روبرتس.
من هذا البيان يتضح لك أن قيادة الجيش الإنجليزي، وذات الجيش الإنجليزي الذي هاجم مصر سنة 1882 لم يكونا كافيين للظفر بها واحتلالها، لولا الانقسام الذي أضعف قوة الدفاع عنها ... فانسل الإنجليز في أرض معبدة، ولم يلقوا المقاومة التي لقيها الجنرال «فريزر» حين نزل الإسكندرية سنة 1807 على رأس جيش بريطاني، أراد احتلال مصر فباء بالخيبة والخسران ...
ولم يكد يستقر بالجنرال ولسلي المقام في الإسكندرية، حتى أذاع الإعلان الآتي في المدينة:
بأمر الحضرة الخديوية - إعلان للمصريين - يعلن الجنرال قائد الجيوش الإنجليزية بأن مقاصد الدولة البريطانية في إرسالها تجريدة عسكرية إلى القطر المصري ليست إلا لتأييد سلطة الحضرة الخديوية، وعساكرنا يحاربون فقط حاملي السلاح ضد سموه ... فعموم الأهالي الذين في سلم وسكينة تصير معاملتهم بكل تودد وإنسانية، ولا يحصل لهم أدنى ضرر بل يحترم دينهم وجوامعهم وعائلاتهم، والأشياء التي تلزم الجيش يصير دفع ثمنها، وعليه ندعو الأهالي لتقديم ذلك، وإن الجنرال قائد الجيش يسر جدا من زيارة مشايخ البلاد وخلافهم، الذين يودون المساعدة لردع العصيان، الذي هو ضد الحضرة الخديوية الحاكم والوالي الشرعي على القطر المصري المعين من لدن الذات الشاهانية. (5-1) تجدد القتال
بدأت الحركات الحربية بين الإسكندرية وكفر الدوار عقب احتلال الإسكندرية كما تقدم بيانه، ثم تجددت عقب حضور الجنرال ولسلي ... ففي يوم السبت 19 أغسطس سنة 1882 تحركت قوة كبيرة من الإنجليز، جاء جانب منهم بالقطارات المسلحة من جهة القباري، وجانب آخر من جهة الرمل ومحطة السيوف وحجر النواتية، فلما وصلت القطارات إلى مقدمة الجيش المصري، أطلق اليوزباشي أحمد أفندي فضلي مدفعا، فكان ذلك إيذانا ببدء القتال.
ودارت معركة شديدة بينهم وبين المصريين، فصدهم المصريون عن التقدم بعد أن كبدوهم خسائر جمة، ودام القتال ثلاث ساعات حتى غروب الشمس، وكان يتولى قيادة الجيش في هذه المعركة طلبة باشا عصمت قومندان فرقة كفر الدوار، ومعه رضا باشا ومصطفى بك عبد الرحيم وعيد بك محمد وأحمد بك عبد الغفار، والقائمقام أحمد بك عفت والقائمقام سليمان سامي داود وبدوي بك حكمدار المدفعية، وانتهت المعركة بارتداد الإنجليز إلى الإسكندرية.
وفي أيام 20 و21 و22 أغسطس هاجم الإنجليز مواقع الجيش المصري في كفر الدوار، فدافع عنها المصريون خير دفاع، وانجلت هذه المعارك عن ارتداد الجيش الإنجليزي.
وتعتبر معارك الميدان الغربي في جملتها فوزا للعرابيين؛ لأن الإنجليز ارتدوا عن خطوط الدفاع في كفر الدوار. (6) في الميدان الشرقي
تقدم القول بأن عرابي أهمل الدفاع عن البلاد من ناحية الشرق، فلما جاء الجنرال ولسلي الإسكندرية، كان أول عمل حربي له هو تدبير الزحف على العاصمة من ناحية قناة السويس ... ولو أن عرابي بادر عندما نشبت الحرب إلى سد القناة، لعجز الجنرال ولسلي عن الوصول بجيشه إلى الإسماعيلية واتخاذها قاعدة للزحف، ولكنه لم يفعل ... فكان إحجامه وبالا على مصر، وقد لعب فرديناند دلسبس في هذه المسألة دور الخداع والتغرير، لكي يفوت على العرابيين سد القناة.
فقد عقد عرابي مجلسا عسكريا في أواخر يوليو للنظر في أمر القناة، فأجمع رأي المجلس على وجوب تعطيلها بحيث لا يستطيع الجيش الإنجليزي اجتيازها، والوصول إلى الشاطئ الغربي منها وخاصة الإسماعيلية، فلما علم بذلك دلسبس أرسل إلى عرابي أن يمتنع عن قطع القناة ... وأكد له كذبا في تلغرافه «أن الإنجليز يستحيل أن يدخلوا القناة ... يستحيل». فانخدع عرابي بهذا التلغراف رغم تحذير إخوانه إياه، ونصحهم له بأن لا يصغي إلى نصيحة دلسبس، إذ ليس في إمكانه أن يمنع دخول الإنجليز القناة أو يبر بوعده، ولا هو صادق في نصحه، وإنما كان غرضه صيانة القناة من التعطيل، ولو ضحيت في سبيل ذلك مصالح مصر وسلامتها.
وقد استمر على خداعه حتى وصلت البوارج الإنجليزية إلى بورسعيد لاحتلال القناة، فأرسل إلى عرابي تلغرافا آخر يقول فيه: «لا تعمل عملا ما لسد قناتي ... فإني هنا ولا تخش شيئا من هذه الناحية، إذ لا ينزل جندي إنجليزي واحد إلا بصحبة جندي فرنسي، وأنا المسئول عن كل ذلك.» وهنالك فقط شرع عرابي في سد القناة، ومع ذلك كان أمره في هذا الصدد منطويا على التردد والإبهام، فقد قال فيه: «وما فعله الإنجليز يبيح لنا سد الترعة الحلوة عن السويس، وإذا تهدد القنال زيادة على ذلك بأعمال حربية داخلية، أبيح لنا ردمه وسده لتعدي الإنجليز على حيادته، فباتحاد سعادتكم مع سعادة رئيس عموم أركان حرب يجري ما فيه صالحنا.»
ولم يكد يصل هذا الأمر المبهم إلى راشد باشا حسني قومندان خط الشرق، حتى كان الإنجليز قد اقتحموا القناة ... وكان الحزم والحكمة يقتضيان بأن يبادر عرابي إلى سد القناة، قبل أن تبدأ حركات الإنجليز العدائية من ناحية الشرق؛ لأن الإنجليز الذين خرقوا حرمة المعاهدات الدولية، ونقضوا عهودهم في مؤتمر الآستانة منذ ابتداء القتال بضربهم الإسكندرية، ثم احتلالهم إياها لم يكن من المنتظر أن يحترموا حياد القناة في قتالهم، أما اعتماد عرابي على وعد دلسبس في حماية القناة فأمر يدل على قصر النظر، وقد كان من عيوب عرابي في ساعة الخطر التردد والإحجام، فكان خطؤه في مسألة القناة العامل الأكبر، إن لم يكن العامل الوحيد لانتصار الإنجليز في معارك الميدان الشرقي واحتلالهم العاصمة.
ومن عجب أن يصر عرابي على رأيه الخاطئ، مع أنه كما يقول جون نينيه كان مقتنعا كل الاقتناع قبل نشوب الحرب بضرورة منع المرور من القناة، وأنه قطع برأيه في هذا الصدد إذ صرح للمستر كامرون مراسل جريدة الستاندارد، بحضور المسيو نينيه قبل ضرب الإسكندرية بقوله: «إننا سنحترم القناة ما دام العدو يحترم استقلال بلادنا ... ولكن إذا نشبت الحرب، فإننا عند أول طلقة مدفع سنهدم القناة مؤقتا، وسأفعل ذلك آسفا لأني عالم بأن القناة طريق تجاري محايد.»
وقد كان هذا هو الوقت المناسب لسد القناة ... فليت شعري ما الذي جعله يعدل عن هذا الرأي الصواب، ويمتنع عن سدها حتى احتلها الإنجليز؟ (7) احتلال بورسعيد والإسماعيلية
كان أول عمل حربي للجنرال ولسلي عند وصوله إلى الإسكندرية، هو تدبير الزحف على العاصمة من طريق قناة السويس ... ففي ظهر يوم 19 أغسطس أقلع الأسطول البريطاني من الإسكندرية بقيادة الأميرال سيمور، وكان مؤلفا من ثماني مدرعات وثماني عشرة باخرة من بواخر النقل، تقل معظم الجيش الإنجليزي بقيادة الجنرال ولسلي قاصدا بورسعيد، فبلغها صباح 20 أغسطس، وأخذت السفن الحربية تقتحم القناة، ونزلت كتيبة من جنود الأسطول إلى بورسعيد، واحتلوا المدينة دون مقاومة من الحامية، وكذلك احتل الإنجليز القنطرة والإسماعيلية في هذا اليوم، ومنعت البوارج الإنجليزية مرور البواخر التجارية في القناة، ومنع الأميرال هوايت من ناحية السويس دخول أية سفينة إلى القناة ابتداء من 19 أغسطس، ووضع في مدخل القناة بارجة حربية تنفيذا لهذا المنع، وقد احتجت شركة القناة على خرق حرمة القناة، فذهب احتجاجها سدى. وفي 20 أغسطس احتل الأميرال هوايت «شلوفة» شمال السويس على القناة.
وكانت طلائع العرابيين وعددهم نحو ألفين ترابط في «نفيشة» غربي الإسماعيلية، وعلى بعد نحو ثلاثة كيلومترات منها، فأطلقت البوارج البريطانية قنابلها عليهم، وكان هذا الضرب نذيرا بزحف الإنجليز من هذه الناحية ...
ووصل الجنرال ولسلي إلى الإسماعيلية يوم 21 أغسطس لتدبير حركات القتال في الميدان الشرقي، وكان يصحبه الأميرال سيمور والأميرال هوبكنس، ووصلت على إثره بقية البواخر المقلة للجيش البريطاني، فنزلوا الإسماعيلية، كما وصل المدد من الهند إلى السويس، وبذلك انكشفت الجبهة المصرية من ناحية القناة، في حين أنه لو سدت القناة في بداية القتال، لما استطاع الجنرال ولسلي أن يصل بجنوده إلى الإسماعيلية ويتخذها قاعدة للزحف، ولقضى عدة أشهر قبل أن يهاجم خطوط الدفاع في الدلتا.
وفي يوم 22 أغسطس وضع الإنجليز أيديهم على سكة الحديد بين الإسماعيلية والسويس، وعلى ترعة المياه العذبة بين المدينتين.
ولما تم للإنجليز احتلال القناة، رخصوا لشركة القناة بإدارة أعمالها السابقة، وعادت السفن التجارية تجتاز القناة، ويتبين من ذلك أن اعتراض الشركة على خرق الإنجليز حيدة القناة، لم يكن سوى اعتراض شكلي كان الغرض منه منع العرابيين من سد القناة، حتى لا يتعطل انتفاع الشركة منها.
وهكذا جعل الإنجليز من القناة قاعدة حربية سهلت لهم مهمة الزحف على مصر، ولولاها لما استطاعوا أن يصلوا إلى الإسماعيلية بحرا، وأن يزحفوا منها على العاصمة من طريق التل الكبير والزقازيق، فوصول البوارج الإنجليزية إلى الإسماعيلية واتخاذهم إياها قاعدة زحفهم، ما كان ليحدث لو لم تكن قناة السويس موجودة، وكذلك كانت القناة شؤما على مصر في جميع أدوارها الغابرة ... (8) احتلال نفيشة
واحتل الإنجليز نفيشة بعد احتلالهم الإسماعيلية ... ولهذا الاحتلال أهميته؛ لأن نفيشة هي أول محطة غربي الإسماعيلية، ومنها تتفرع ترعة الإسماعيلية إلى فرعين: أحدهما الذاهب إلى بورسعيد، والثاني إلى السويس.
وقد سد العرابيون ترعة الإسماعيلية في نقطة «المجفر» غربي الإسماعيلية؛ ليمنعوا ورود المياه العذبة إلى الجيش البريطاني، فهاجم الجنرال ولسلي «المجفر» يوم 24 أغسطس، واحتلها بجنوده.
وتابع الإنجليز زحفهم فاستولوا على «المسخوطة» يوم 25 أغسطس بعد معركة عنيفة دارت بينهم وبين العرابيين، وكان يقود الجيش المصري فيها الفريق راشد باشا حسني.
ووقع محمود باشا فهمي رئيس أركان حرب الجيش المصري أسيرا في يد الإنجليز، فكان أسره أكبر ضربة أصابت الدفاع الوطني.
واستولى الإنجليز على «المحسمة» يوم 25 أغسطس، وهي محطة تبعد عن نفيشة غربا باثنين وعشرين كيلومترا، وصارت المسافة بينهم وبين التل الكبير لا تتجاوز أربعة وعشرين كيلومترا، وقد استولوا في «المحسمة» على سبعة مدافع كروب، وكمية كبيرة من البنادق وعلى قطار من الذخيرة.
وكان الاستيلاء على «المحسمة» عملا حربيا على جانب كبير من الخطر؛ لأنه الخطوة الأولى التي اتخذها الإنجليز للوصول إلى معسكر العرابيين في التل الكبير ... ثم احتل الإنجليز القصاصين يوم 26 أغسطس دون مقاومة تذكر، فصاروا على مسافة خمسة عشر كيلومترا من التل الكبير. (9) عرابي في الميدان الشرقي
الميدان الشرقي في الحرب العرابية.
كان لأسر محمود باشا فهمي واحتلال «المحسمة»، وانكشاف نية الإنجليز في الزحف على العاصمة من ناحية الشرق وقع شديد في صفوف العرابيين ... فبادر عرابي إلى الانتقال إلى معسكر التل الكبير، وسار بالقطار من كفر الدوار ومعه جماعة من الضباط وطائفة من الحرس، وكان يصحبه عبد الله نديم خطيب الثورة العرابية، فلما وصل القطار إلى الزقازيق خف للقائه جمع حاشد من العمد والأعيان وأرباب الطرق والموظفين، ونزل هنيهة بالمحطة، وجلس بكشك هناك، فاحتشد الناس للهتاف له وصاروا ينادون: «الله ينصرك يا عرابي! يا مولانا يا عزيز، أهلك عسكر الإنجليز. يا سيمور يا وش القملة، من قال لك تعمل دي العملة؟» وبعد أن جلس هنيهة غادر الكشك وركب القطار، وصار ينادي ويقول: «أنا لها، أنا لها!»
وسار القطار إلى التل الكبير بين هتاف المجتمعين وصياحهم ... ولما وصل إلى التل الكبير، أعد عرابي لنفسه بالمعسكر خيمة سعيد باشا والي مصر السابق، وكانت من أفخم الخيام، وأقام بها يحوطه الحرس والخدم، وتشاور وأصحابه فيما يجب عمله. وجاء علي فهمي من القاهرة يقود الآلاي الأول من المشاة مددا للجيش، ووضعوا خطة القتال التي استدعاها تبدل الموقف. فاتفقوا على مهاجمة مواقع الإنجليز في القصاصين، وأرسلوا إلى طلبة باشا عصمت في كفر الدوار، لكي يرسل لهم المدد من الرجال والعتاد، فجاءهم عيد بك محمد بآلايه، وأحمد بك عبد الغفار وعبد الرحمن بك حسن بآلايات الفرسان، وجاءهم من دمياط خضر بك ومعه أورطتان من العساكر السودانية، فاستعد الجيش المصري لاتخاذ خطة الهجوم، وكانت قوات الإنجليز موزعة كالآتي: الجنرال جراهام في القصاصين، والجنرال دروري لو قائد الفرسان في المحسمة، والجنرال ويليس في المسخوطة. (10) واقعة القصاصين الأولى
هاجم المصريون مواقع الإنجليز في القصاصين يوم 28 أغسطس سنة 1882 بقيادة الفريق راشد باشا حسني، وكان هجوما شديدا ... فاستولوا على المواقع الأمامية للإنجليز، ولكن الفرسان البريطانيين بقيادة الجنرال «دروري لو» ما لبثوا أن كروا على المصريين، فأجلوهم عن هذه المواقع، وخسر الإنجليز في هذه الموقعة 8 قتلى منهم ضابط، و61 جريحا منهم عشرة من الضباط، وامتد فيها القتال إلى الليل. (11) موقف تركيا
قدمنا أن موقف تركيا منذ شبت الثورة العرابية كان منطويا على سوء النية والخطل في الرأي ، فقد أرادت أن تتخذ من هذه الثورة فرصة لاسترداد امتيازات الاستقلال الذي نالته مصر ... فأخذت تغري الفريقين المتخاصمين أحدهما بالآخر، فتتظاهر تارة بتأييد الخديو، وطورا بتأييد العرابيين، لتكسب من وراء هذا الإغراء نفوذا وسلطانا، ولكنها في الواقع لم تكسب شيئا، وإنما استفادت إنجلترا من هذه السياسة الخرقاء.
وبينما كان الإنجليز يتقدمون في داخل البلاد، كانت المفاوضات مازالت مستمرة بين اللورد دفرين سفير إنجلترا في الآستانة والباب العالي، للاتفاق على خطة إرسال الجيش العثماني إلى مصر، وكانت إنجلترا تقصد من هذه المفاوضات إطالة الوقت وتعطيل إرسال جيش من تركيا، حتى تقمع الثورة بجيشها فلا يبقى محل لمجيء ذلك الجيش، وقد تذرعت إلى إطالة المفاوضات باشتراطها عدة شروط، وهي: (1)
تحديد عدد الجيش العثماني المزمع إرساله إلى مصر، بحيث لا يتجاوز خمسة أو ستة آلاف جندي. (2)
منعه من دخول مصر بطريق البر أو النزول إلى الإسكندرية. (3)
عرض خططه الحربية على القيادة الإنجليزية. (4)
التعهد بسحب هذا الجيش حين جلاء الجيش الإنجليزي عن مصر.
وقد رفضت الحكومة التركية هذه الشروط، فكان ذلك سببا في تعطيل إرسال جيشها، ولو رضيت بأي شروط تضعها إنجلترا، وبادرت بإرسال جيشها لكان ذلك خيرا وأخف ضررا من إحجامها عن إنفاذه؛ لأن مجرد وجود جيش تركي أو أي جيش آخر بجوار الجيش الإنجليزي يحول دون استقرار الأخير في البلاد، ويؤدي لا محالة إلى إجلاء الجيشين معا، كما حدث حين أرسلت كل من إنجلترا وتركيا جيشا لإجلاء الفرنسيين عن مصر سنة 1801، فإن وجودهما معا أدى إلى جلائهما عن البلاد في ذلك الحين.
وقد أعلنت إنجلترا على لسان اللورد دفرين أنها لا تقبل اشتراك الجيش العثماني المتضمنة شروط هذا الاشتراك.
وفي غضون مهزلة المفاوضات التي جرت في هذا الصدد، طلب اللورد دفرين من سعيد باشا الصدر الأعظم أن يعلن السلطان عصيان عرابي، وأن يقترن هذا الإعلان بالاتفاق على اشتراك الجيشين في مصر، وأخيرا وقع الطرفان على هذا الاتفاق في 5 سبتمبر سنة 1882، وهو يقضي بإرسال ثلاثة آلاف جندي عثماني إلى بورسعيد، وفي الوقت نفسه أعلن السلطان عصيان عرابي في منشور طويل نشرته صحف الآستانة يوم 6 سبتمبر.
لم تكن إنجلترا تقصد بهذا الاتفاق احترامه وتنفيذه، فإنها عجلت بإخماد الثورة قبل أن تتحرك تركيا إلى إرسال جيشها ... بل كان غرضها إذاعة إعلان السلطان عصيان عرابي أثناء زحفها، لتتخذ منه وسيلة لإضعاف قوة الجيش المصري وإيقاع الفرقة والانحلال في صفوفه، وصرف القلوب عن تأييد عرابي في القتال، ولو ترك السلطان وشأنه لما فكر في هذا الإعلان؛ لأنه في خاصة نفسه لم يكن يعطف على الخديو توفيق، ولا كان يميل إلى تثبيت سلطته، ولكن السياسة الإنجليزية ألحت وتهددت واستخدمت كل الوسائط، ومنها الرشوة لدى رجال المابين حتى أصدر السلطان إعلانه المشئوم ...
ولما هزم عرابي في واقعة التل الكبير بادر اللورد «دفرين» إلى إبلاغ الباب العالي أنه بهزيمة العرابيين لم يعد ثمة موجب لإرسال جيش عثماني؛ لأن الجيش الإنجليزي قد انتهى من مهمة إخماد الثورة!
فإعلان عصيان عرابي والحرب قائمة، هو تدبير منطو على المكر والخبث، وضعته إنجلترا لإضعاف قوة المقاومة في مصر، وتمكين جيشها من احتلال البلاد، وهي التي طلبت من السلطان ذلك الإعلان كما تقدم بيانه.
وقد ابتهج به الخديو، وعهد إلى سلطان باشا توزيع نسخ من جريدة «الجوائب» التي نشرته، والاتصال بضباط الجيش المصري لاطلاعهم عليه، ووزع عليهم منشورات بهذا المعنى، وتنقل سلطان باشا في البلاد لدعوة العمد والأعيان إلى مساعدة الإنجليز، ولا جرم أحدثت المنشورات تأثيرا كبيرا في حالة الضباط المعنوية. (12) واقعة القصاصين الثانية
في صبيحة يوم السبت 9 سبتمبر سنة 1882 وقعت معركة كبيرة بين المصريين والإنجليز تعد أكبر وقائع الحرب العرابية ... هجم فيها المصريون بقيادة الفريق راشد باشا حسني - المعروف بأبي شنب فضة - على مواقع الإنجليز في القصاصين يريدون استردادها للمرة الثانية، واحتدم القتال نحو ثلاث ساعات، ولكن المعركة انتهت بتراجع المصريين بعد أن كادوا يوقعون بالجيش الإنجليزي.
وكان القائد العام لجيش المصريين هو الفريق راشد حسني، وتقرر أن يتحرك محمود سامي البارودي من الصالحية ليلا، فيصل إلى خط القتال عند مطلع الفجر للإحداق بميمنة العدو، وقد عمل بترتيب الهجوم رسم سلمت منه نسخة لكل أمير من القواد، وفي الثلث الأخير من ليلة 9 سبتمبر قام الجيش على هذا الترتيب، فلما وصل قريبا من العدو أخذ كل مكانه على خط النار، ولكن العدو كان عالما بما استقر عليه الرأي إذ أطلعهم عليه الأميرالاي علي يوسف خنفس (الخائن). فبادر الجيش المصري بإطلاق المدافع واحتدم القتال بين الجيشين، أما جيش الصالحية بقيادة البارودي فإنه تأخر عن الميعاد المحدد له، ولما قرب من مكان الواقعة كان العدو متأهبا لقتاله، فأطلق عليه مدافعه قبل أن يصل إلى مكانه، فتشتت وولى الأدبار، فمنهم من عاد إلى الصالحية، ومنهم من ذهب إلى معسكر رأس الوادي، وأما راشد باشا حسني وعلي باشا فهمي ومن معهما من الجيش، فقد ثبتوا ثبات الأبطال حتى آخر النهار، وجرح راشد باشا حسني برصاصة في قدمه ... وجرح علي باشا فهمي في ساقه، وخسر كل من الجيشين خسارة كبرى من ضرب المدافع والبنادق، التي كانت مقذوفاتها كالمطر في الميدان، وكانت هذه الواقعة أشد حرب نشبت بين العرابيين والإنجليز، إذ كانت قوة الجيشين عظيمة وثباتهما نادر المثيل ...
ويقول جون نينيه عن هذه الوقعة: «إن إصابة القائدين الباسلين راشد باشا حسني وعلي باشا فهمي، فيها كانت خسارة كبرى مني بها الجيش المصري لا تقل في فداحتها عن أسر محمود باشا فهمي.»
ويذكر المستر بلنت نقلا عن رواية المصريين له عن المعركة أن الإنجليزي فوجئوا بهجوم الجيش المصري، وكاد الدوق أوف كنوت يقع أسيرا، ولكن حدث نقص في تنفيذ خطة الهجوم، وذلك أنه كان على محمود باشا سامي البارودي أن يتحرك من الصالحين في ألفي مقاتل ليلا ويهاجم في الصباح ميمنة الإنجليز، ولكنه ضل الطريق فلم يصل في الميعاد ولم يشترك في المعركة، وثمة نقص آخر ذكره المستر بلنت، وهو أن عرابي كان واجبا عليه أن يشترك في هذه المعركة، ولو في مؤخرة الجيش إن لم يكن في المقدمة، ولكنه جمد في التل الكبير، ولم تظهر في الميدان جميع قوة الجيش التي كان يجب استخدامها، وكان من عوامل الهزيمة خيانة الضابط علي يوسف خنفس.
كانت هزيمة الجيش المصري في واقعة القصاصين الثانية ضربة شديدة، كشفت الموقف الحربي ودلت على ضعف الجبهة المصرية أمام الهجوم الإنجليزي ... وقد ظهر الاضطراب على زعماء العرابيين وبخاصة عرابي ومحمود سامي البارودي، وبدأ اليأس يتسرب إلى قلوبهم، وأدرك عرابي بعد فوات الفرصة أنه لو سد قناة السويس عند ابتداء الحركات العدائية، لما بلغ الإنجليز الإسماعيلية بهذه السرعة، وما تقدموا في داخل البلاد بهذه السهولة ... فأخذ يعالج الموقف في كثير من التردد واليأس، وبدأ بعد وقعة القصاصين في إرسال الجرحى إلى العاصمة، إذ أقلتهم القطر الخاصة إلى العباسية، ومنهم القائدان الباسلان؛ راشد باشا حسني وعلي باشا فهمي، واستدعى علي باشا الروبي قومندان موقع مريوط ليتولى قيادة جيش رأس الوادي، فحضر عصر يوم الثلاثاء 12 سبتمبر سنة 1882، وأخذ يتفقد مواقع الجيش في التل الكبير، الذي أصبح بعد وقعة القصاصين هدف الإنجليز في هجومهم. (13) معركة التل الكبير
تقع شرقي محطة التل الكبير على الضفة اليسرى لترعة الإسماعيلية هضبة تعلو السكة الحديدية بثلاثين مترا، وتمتد بانحدار خفيف نحو الصالحية ونحو «القصاصين». وكانت خطوط الدفاع المصرية في «التل الكبير» تبتدئ من السكة الحديدية، وتمتد بطول ستة كيلومترات متجهة من الجنوب إلى الشمال، ويحمي معاقل الجند خنادق جافة عرضها من مترين إلى ثلاثة وعمقها متر أو متران، ووراء الخطوط الأمامية خطوط أخرى تمتد إلى معسكر التل الكبير الواقع على السكة الحديدية، ولم يكن عرابي قد أتم خطوط الدفاع قبل نشوب المعركة، ولم تكن هي ذاتها محكمة الوضع؛ لأنها أقيمت على عجل، وليس بها العدد الكافي من الجند لصد هجمات الأعداء.
وكان الجيش المصري في التل الكبير - كما قدره الجنرال ولسلي - مؤلفا من 24 طابورا وثلاثة آلايات من الفرسان وستة آلاف من البدو، وكان عرابي يشرف على حركات القتال ... ولكنه لم يتول القيادة الفعلية التي عهد بها إليه علي باشا الروبي، وبلغت مدافع هذا الجيش من 60 إلى 70 مدفعا. ويقول المستر بلنت: «إن جيش عرابي بالتل الكبير لم يكن يزيد على عشرة آلاف أو اثني عشر ألف جندي، والباقون كانوا من المجندين الأحداث، الذين لم يسبق لهم إطلاق بندقية واحدة. أضف إلى ذلك أن خيرة الجنود لم يكونوا بالتل الكبير، بل كانوا في كفر الدوار بقيادة طلبة باشا عصمت، أو في دمياط بقيادة عبد العال باشا حلمي، وهؤلاء لم يشتركوا قط في المعركة.»
وكان من حسن التدبير أن يستدعي عرابي على الأقل الآلاي المرابط في دمياط؛ لأنه كان يحتوي على خيرة الجند المدربين، ولكنه لم يفعل ... ولم يأت من هذا الآلاي سوى أورطتين مع مسيس الحاجة إليه، وعهد عرابي بالقيادة في معركة التل الكبير إلى علي باشا الروبي، ولم يكن على حظ ما من الكفاية الحربية ... أضف إلى ذلك أنه كان إلى ما قبل المعركة قائدا لفرقة مريوط، واستدعاه عرابي إلى التل الكبير بعد إصابة راشد باشا حسني في القصاصين، فحضر قبل الواقعة بيوم واحد، وهو وقت لا يكفي لتعرف مواقع القتال في تلك الناحية، ووضع الخطط الصالحة للدفاع.
وزحف الجنرال ولسلي على التل الكبير في أحد عشر ألفا من المشاة و2000 من الفرسان ومعه ستون مدفعا، وكان الهجوم من الناحية الشمالية للتل الكبير، إذ كانت أصلح للزحف من الجهة الجنوبية المكونة من أراض زراعية تخترقها الترع والأقنية وتعوق سير الجنود، واعتزم الزحف ليلا لكي يوفر على جنوده عناء المسير في شمس النهار المحرقة، وسط رمال الصحراء وفي أرض مكشوفة، وقد رجح عنده الزحف في الظلام ما لاحظه حين كان يستطلع مواقع المصريين في التل الكبير من أنهم لا يضعون الطلائع أمام الاستحكامات إلا من الساعة الخامسة صباحا، وهذا نقص كبير في الدفاع، فأراح ولسلي جيشه يوم 21 سبتمبر ...
وفي مساء هذا اليوم تأهب للزحف، ولما جن الليل بدأ الجيش الإنجليزي يتحرك من القصاصين في منتصف الساعة الثانية صباحا، وكان الظلام حالكا، وأصدر الجنرال ولسلي تعليماته بأن تطفأ كل الأنوار أثناء السير، حتى لا يشعر العرابيون بزحفه ، وكان يتقدم الجيش بعض ضباط الأسطول، الذين لهم دراية بالاسترشاد بالنجوم لمعرفة خط السير في الصحراء، ولكن هؤلاء لم يكن في استطاعتهم الاهتداء إلى مسالك الصحراء، بل كان المرشدون الحقيقيون بعض عربان الهنادي، ممن اشترى الإنجليز ذممهم واتخذوهم عيونا لهم وجواسيس.
ومن العجيب أن يقطع الجيش الإنجليزي المسافة بين القصاصين والتل الكبير - وهي تبلغ خمسة عشر كيلومترا - دون أن تصادفهم طلائع المصريين، ولو كان الدفاع محكما لما فات عرابي أن يجعل لجيشه طلائع على مسافات بعيدة ينبئونه بحركات الجيش الإنجليزي، واستمر الإنجليز في زحفهم حتى مطلع الفجر، وعندئذ صارت كتائبهم على مسافة 150 ياردة من التل الكبير، وقد فوجئ المصريون بالهجوم إذ كانوا نائمين بعد أن سهروا في سماع ذكر أرباب الطرق، فاستيقظوا على صوت البنادق، ولم يكد يضربون نفير الحذر حتى أمر الجنرال ولسلي جنوده بالهجوم ... فابتدأ في الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين صباحا، وكان على شكل نصف دائرة أحاطت بمعسكر العرابيين، فاقتحمت الجنود الإنجليزية الاستحكامات الأمامية، وأطلق رماتها القنابل والبنادق عليهم، وقتل منهم في هذه الهجمة نحو مائتين قبل أن يصلوا إلى الخنادق.
ولكن الهجوم كان فجائيا شديدا، فاستولى الإنجليز على الاستحكامات الأمامية ... وبعد هنيهة هجموا على خط الاستحكامات الثاني، واتجهت فرقة منهم تجوس خلال الاستحكامات ففتكت بنادقهم بالمصريين فتكا ذريعا، وهجم فرسان الجيش البريطاني بقيادة الجنرال دروري لو على ميسرة العرابيين متجهين صوب محطة التل الكبير، فأحدقوا بها. وأخذ المصريون على غرة في الميمنة والميسرة، وصمد للدفاع آلايان من السودانيين بقيادة الأميرالاي محمد عبيد، وظلوا يدافعون الإنجليز حتى استشهد معظمهم، وقتل قائدهم البطل محمد عبيد، واستبسل أيضا في القتال آلاي من البيادة بقيادة أحمد بك فرج وآلاي عبد القادر عبد الصمد، وكذلك أبلى اليوزباشي حسن أفندي رضوان (الفريق حسن باشا رضوان فيما بعد) بلاء حسنا في الوقعة إذ كان قومندانا للطوبجي، فلما فوجئ المصريون بهجوم الجيش الإنجليزي اختل نظامهم ... لكن اليوزباشي حسن رضوان صمد للمهاجمين، وأخذت مدافعه تصلي الإنجليز نارا حامية وكبدتهم خسائر جسيمة، وجرح هو في تلك الوقعة. وقد أعجب الجنرال ولسلي ببسالته وترك سيفه احتراما له، ولم يزد عدد الجنود الذين اشتركوا في المعركة على ثلاثة آلاف، أما الباقون فقد تولاهم الذعر، فألقوا أسلحتهم ولاذوا بالفرار، ولم تدم المعركة أكثر من عشرين دقيقة لم تزد خسائر الإنجليز فيها على 57 قتيلا منهم 9 ضباط و48 صف ضابط وجنديا و402 جرحى منهم 27 من الضباط، أما خسائر المصريين فقد تراوحت بين 1500 قتيل أو 2000، وغنم الإنجليز مدافع المصريين، واستولوا على جميع مهمات الجيش وذخائره ومئونته ...
وكانت معركة التل الكبير سلسلة فضائح انتهت بهزيمة الجيش المصري، لم يحصل فيها قتال بالمعنى الصحيح إلا من ثلاثة آلاف من الجند، وكانت فيما عدا ذلك أشبه بمهزلة أو مأساة، فهي صفحة محزنة من تاريخ مصر الحربي والقومي، وقد خلت من البطولة التي كان يمكن أن تغير من مصير المعركة أو تخفف من غضاضة الهزيمة، وتقوي روح المقاومة في البلاد.
كارثة الاحتلال
(1) الهزيمة
بلغ عرابي العاصمة ظهر يوم الهزيمة - الأربعاء 13 سبتمبر سنة 1882 - وكان أعضاء المجلس العرفي مجتمعين منذ ساعات طويلة في «قصر النيل» ينتظرون أنباء المعركة، وبقي يعقوب باشا سامي ملازما مكتب التلغراف، دون أن يكاشف أحدا بما يتلقاه من الأخبار، إلى أن أنبأ الحاضرين أن ناظر الجهادية «عرابي» قادم على عجل إلى العاصمة، فأيقنوا أنها الهزيمة لا محالة.
وبعد قليل جاء عرابي يصحبه علي الروبي، وكان وجهه مكفهرا وعلائم الاضطراب بادية عليه ... فجلس على مقعده وظل صامتا لا يتكلم مدة عشرين دقيقة، ثم عقد مجلس حافل في قصر النيل من أعضاء المجلس العرفي وبعض الأمراء والكبراء، وأخذ عرابي يشرح لهم أسباب الهزيمة وكيف فوجئ بهجوم الإنجليز، ونسب إلى الجند عدم إطاعة أوامره في القتال، ثم استشار الحاضرين فيما يجب عمله، وهل يجب الاستمرار في المقاومة أم أن الصواب في التسليم ... فاختلفت الآراء، وكثر اللغط، وتشعبت أفكار القوم، ثم قام الأمير إبراهيم أحمد ابن عم الخديو، وحث على الاستمرار في المقاومة قائلا: «القاهرة غاصة بالجند ومخازن الحربية ملأى بالسلاح والذخيرة والميرة، ووسائل الدفاع متوافرة، والواجب هو الدفاع ما دام فينا بقية.» فاستحسن الحاضرون قوله ظاهرا، ولكن نفوسهم كانت قد دب إليها اليأس وجنحت إلى التسليم. واستقر الرأي في هذا الاجتماع على إنشاء خط دفاعي في ضواحي العاصمة.
وإنفاذا لهذا الرأي ذهب عرابي إلى العباسية يصحبه محمد مرعشلي باشا باشمهندس الاستحكامات، ومحمد رضا باشا قائد لواء الفرسان واللواء حسن باشا مظهر، لاختيار الموقع الملائم لخط الدفاع، وطلب من محمد مرعشلي باشا وضع تصميم لإنشاء خط دفاعي أمام المطرية شرقي عين شمس، ليمتد يمينا إلى الجبل ويمتد شمالا إلى ترعة الإسماعيلية، ثم ينعطف إلى النيل عند فم رياح ترعة الإسماعيلية بالقرب من شبرا، ثم ذهبوا إلى مركز الطوبجية.
قال عرابي في هذا الصدد: «وأردنا استعراض العساكر الموجودة هناك، فلم نجد إلا ألف رجل من خفراء البلاد بغير ضباط، ونحو أربعين نفر سواري في مركز عساكر الخيالة مع أحمد بك نير، فقال الأميرالاي المذكور أنه يقف في وجه العدو ويقاتله برجاله الأربعين حتى يموت معهم، ولكن ما الفائدة وليس لدينا جيش يقوى على الدفاع، فلما شاهدنا ذلك علمنا أن الأولى حقن الدماء وحفظ القاهرة من غوائل الحرب والدمار.»
ثم رجع عرابي ومن معه إلى المجلس العرفي بقصر النيل وأخبر الحاضرين بما شاهده ... فاستقر رأي الحاضرين على التسليم، وكتابة عريضة إلى الخديو يلتمسون فيها العفو عنهم ويقدمون له الخضوع ويعتذرون عن أفعالهم الماضية، فحرروا العريضة وأمضاها عرابي ومن معه، وأرسلوها مع وفد مؤلف من محمد رءوف باشا حكمدار السودان السابق، وبطرس غالي باشا وكيل الحقانية، وعلي باشا الروبي، ويعقوب سامي باشا ... ورءوف باشا هو الذي تولى فيما بعد رياسة المحكمة العسكرية، التي حكمت على عرابي وصحبه بالإعدام. (1-1) احتلال العاصمة
لم تكد تنتهي معركة التل الكبير بما انتهت إليه، حتى أمر الجنرال ولسلي فرقة الفرسان بقيادة الجنرال «دروري لو» أن تبادر بالزحف على القاهرة لاحتلالها، وأمر الجيش الهندي بقيادة الجنرال مكفرسن باحتلال الزقازيق، لمنع الجيش المصري من استخدامها قاعدة لمواصلات السكك الحديدية، فسار الفرسان نحو مدينة بلبيس واحتلوها ظهر يوم 13 سبتمبر ، وحجز بها الجنرال دروري لو التلغرافات التي أعدها عرابي إلى مديريات الوجه البحري بحشد الجنود لمقاومة زحف الجيش البريطاني، واحتل الجنرال مكفرسن الزقازيق في ذلك اليوم دون مقاومة، واستولى فيها على خمسة قاطرات مشحونة بالذخيرة والمؤن.
واستأنف الجنرال دروري لو الزحف قاصدا العاصمة يوم الخميس 14 سبتمبر سنة 1882، فتحرك من بلبيس في منتصف الساعة الخامسة صباحا في قوة لا يمكن أن تكفي في الأوقات العادية لاحتلال العاصمة، ولكن هزيمة التل الكبير قد قضت على روح المقاومة.
بلغ الجنود الإنجليز العباسية في نحو الساعة الرابعة مساء، وعسكروا في ثكنات الفرسان بها ... وأرسل الجنرال دروري لو إلى محمد رضا باشا قائد الجند بالعباسية يطلب إليه تجريد الجنود من أسلحتهم، وكان عرابي وصحبه مجتمعين في دار علي فهمي باشا الذي لم يزل جريحا ملازما بيته بعد إصابته في معركة القصاصين، فتلقى في نحو الساعة السادسة مساء تلغرافا من قائد العباسية بوصول طلائع الإنجليز، فأرسل عرابي يأمره بالتسليم للقائد البريطاني.
ولما انفض الاجتماع خرج عرابي يصحبه طلبة باشا عصمت ومحمود سامي باشا البارودي والمسيو جون نينيه ... فأشار عليهم المسيو نينيه بأن يسلموا أنفسهم كأسرى حرب للقائد البريطاني، فعمل عرابي وطلبة بنصيحته، وتهيأ الاثنان للذهاب إلى العباسية لكي يسلما نفسيهما للجنرال دروري لو. أما محمود سامي البارودي فلم يقبل هذه النصيحة، وقال: «إني ذاهب إلى منزلي، فإذا أرادوني فإنهم يعرفون أين يجدونني.» وذهب عرابي إلى منزله يصحبه طلبة باشا والمسيو نينيه، وأخذ يتأهب لتسليم نفسه، فلبس رداءه العسكري وأخذ سيفه. وفي نحو الساعة التاسعة مساء ركب عربة يصحبه طلبة باشا، وأمر سائقها بالتوجه إلى ثكنات الجيش بالعباسية، فلما بلغاها جيء بهما إلى الجنرال دروري لو، فسلما سيفهما إليه، فأمر باعتقالهما في غرفة من غرف الثكنة، وسارت كتيبة من الفرسان البريطانيين ليلا إلى القلعة من طريق الجبل، واحتلتها وسلمت الحامية المصرية.
وتولى تسليم القلعة الأميرالاي علي يوسف خنفس؛ ذلك الخائن الذي فتح لهم الطريق في وقعة التل الكبير.
واحتل الإنجليز أيضا قصر النيل وقشلاق عابدين، وسلم الجنود الذين كانوا بهما أسلحتهم ... فكان ذلك إيذانا باحتلال العاصمة.
وقد خرج بعض الأهلين من سكان باب الشعرية والحسينية يحملون الهراوات بقصد محاربة الإنجليز، ولكن محافظ العاصمة إبراهيم بك فوزي رأى في هذه الحركة عملا لا يجدي ولا يؤدي إلا إلى سفك الدماء، فردهم وأخذ يرقب حركاتهم منعا لوقوع الاحتكاك بين الإنجليز والأهلين.
واحتل الإنجليز بعد ذلك مواقع الدفاع الأخرى دون مقاومة، ففي كفر الدوار حين علم ضباط الجيش في مواقع الدفاع الأخرى بسقوط التل الكبير واستسلام عرابي، استسلموا مثله. وقد علم طلبة باشا عصمت في كفر الدوار بالهزيمة يوم وقوعها، فسافر على عجل إلى العاصمة، فبلغها مساء 13 سبتمبر، والتقى بعرابي وسلم نفسه معه إلى القائد دروري لو.
ولما علم الجند بسفره تركوا أسلحتهم لضباطهم وتشتتوا ذاهبين إلى بلادهم، وكذلك فعل العربان، وحضر السير أفلن وود أحد قواد الجيش البريطاني - الذي عين فيما بعد سردارا للجيش المصري - في 16 سبتمبر على رأس كتيبة من الجند، موقع الحصن المنيع الذي أنشأه عرابي وكان أول خطوط الدفاع، ويعرف بعزبة «أصلان» فاحتله ... وكان يصحبه إلى ذلك المكان ضباط من أركان حربه وآخرون من قبل الخديو، وأمر بنسف الحصن ... فنسف وسلم الضباط المصريون أسلحتهم وأعلنوا طاعتهم للخديو، واستولى الإنجليز في كفر الدوار على ما بها من المدافع والبنادق والذخائر.
وحين علم محمود سامي البارودي قائد موقع الصالحية بالهزيمة، تركها ومن معه من الضباط وركبوا قطرات السكة الحديدية إلى المنصورة، ومنها إلى طنطا ثم إلى إيتاي البارود، فكوم حمادة فبولاق الدكرور، وانحل نظام الجند، وتوجه كل منهم إلى بلده. وارتأى البارودي وجوب استمرار الدفاع مع إخلاء القاهرة والانسحاب بالجيش إلى الصعيد، ثم إلى السودان إذا أعجزهم الدفاع، وأرسل إلى عرابي تلغرافا من المنصورة يطلب منه إغراق مديريتي القليوبية والشرقية لتعطيل زحف الجيش الإنجليزي، ثم الاستيلاء على جميع المراكب في النيل وشحنها بالذخيرة وتوجيهها إلى الصعيد مع الجيش، ولكن عرابي رفض العمل بهذا الرأي وأصر على التسليم، وسجن البارودي بالقاهرة ضمن من سجن من العرابيين.
وتسلم الإنجليز حصون رشيد، وتوقفت حامية أبو قير عن التسليم، فأرسل إليها الخديو يوسف شهدي باشا فسلمت، وسلمت كذلك حامية مريوط ثم حامية دمياط. (2) تأليف وزارة شريف باشا «الرابعة»
تبين في غضون الحوادث السابقة، أن وزارة إسماعيل راغب لا قبل لها بمواجهة المشاكل التي استهدفت لها البلاد، وأنها أضعف من أن تقوم بأعباء الحكم وسط هذه العواصف المختلفة، فاستقالت لذلك، واستدعى الخديو رياض باشا من أوروبا فقدم إليها في أواسط شهر أغسطس سنة 1882، وبعد قدومه عهد إلى شريف باشا تأليف الوزارة، فلبى دعوته وألف الوزارة على النحو الآتي: شريف باشا للرياسة والخارجية، رياض باشا للداخلية، عمر باشا لطفي للحربية والبحرية، علي حيدر باشا للمالية، علي باشا مبارك للأشغال، أحمد خيري باشا للمعارف، حسين فخري باشا للحقانية، محمد زكي باشا للأوقاف.
والوزارة كما ترى مؤلفة من أعضاء تجمعهم فكرة تأييد سلطة الخديو ومخالفة العرابيين، فشريف باشا قد انفصل عنهم من عهد استقالته من الرياسة في فبراير سنة 1882، ورياض باشا معروف بكراهيته لهم، وكذلك عمر باشا لطفي، وعلي باشا مبارك كان وزيرا في وزارة رياض باشا الأولى التي أسقطتها الثورة في سبتمبر سنة 1881، وبقية الوزراء من الموالين للخديو.
محاكمة العرابيين
(1) المحاكمة
اعتقل زعماء الثورة العرابية، واعتقل أيضا كثيرون من الضباط، وألقوا في السجون رهن التحقيق والمحاكمة، وكثرت السعايات والوشايات، فأخذ المغرضون يشون بخصومهم بتهمة أنهم كانوا من الخارجين على الخديو، حتى امتلأت السجون بالمتهمين، وبلغ عدد المقبوض عليهم أكثر من 39000 نفس.
ووضعت الحكومة يدها على جميع زعماء الثورة، ماعدا السيد عبد الله نديم، فإنه اختفى عن الأنظار ولم تستطع عيون الحكومة أن تعرف مقره، وقبض على كبار الضباط المعروف عنهم التشيع لعرابي أو الذين اشتركوا في حوادث الثورة، وغصت السجون بكبار المعتقلين ... نذكر منهم: عرابي باشا، ومحمود باشا سامي البارودي، ومحمود فهمي باشا، ويعقوب سامي باشا، وعبد العال حلمي باشا، وعلي فهمي باشا، وطلبة باشا عصمت (السبعة الزعماء)، وحسن باشا الشريعي وزير الأوقاف في وزارتي راغب والبارودي، وعبد الله باشا فكري وزير المعارف في وزارة البارودي، إلخ ...
وقد حوكم عرابي وصحبه أمام محكمة عسكرية مصرية بتهمة عصيان الخديو، واهتم بأمره منذ القبض عليه المستر ولفرد بلنت المستشرق الإنجليزي، الذي ناصره منذ ابتداء الحركة والمشهور بمناصرته لمصر والمصريين، وسعى جهده في إنقاذ عرابي من الإعدام، ولم يكن هذا المسعى من صالح عرابي في شيء؛ لأن حياته في الواقع لم تكن لها قيمة بعد الهزيمة، وقد اختار له المستر بلنت باتفاقه مع السلطات الإنجليزية اثنين من المحامين الإنجليز، وهما المستر برودلي والمستر نابيه، للدفاع عنه أمام المحكمة العسكرية.
واستقر رأي الإنجليز على أن يقدم عرابي وصحبه أمام المحكمة العسكرية بتهمة عصيان الخديو، واستبعاد تهمة مذبحة الإسكندرية وتهمة إحراقها، وأن يعترفوا بجرمهم، وأن يستبدل الخديو بحكم الإعدام النفي المؤبد، وأن يصدر بعد ذلك مرسوم بمصادرة أملاكهم مع عدم المساس بأملاك زوجاتهم، وأن تقرر الحكومة لكل منهم معاشا يفي بحاجتهم مع حرمانهم رتبهم وألقابهم، فارتضى العرابيون هذا المصير، وعلى ذلك جرت المحاكمة، وكانت بعد الاتفاق المتقدم ذكره محاكمة صورية، عرفت نتائجها قبل انعقاد المحكمة، ولم تدم سوى يوم واحد ... إذ انعقدت المحكمة العسكرية برياسة محمد رءوف باشا يوم 3 ديسمبر سنة 1882 بوزارة الأشغال بقاعة مجلس الشيوخ السابق، الساعة التاسعة ونصف صباحا لمحاكمة عرابي أولا. ولم يكن الجمهور يعلم بالموعد المحدد لانعقادها، فلم يحضر الجلسة سوى نحو أربعين من النظارة، منهم عشرون من مراسلي الصحف، وكان مقررا أن يتولى الاتهام أمام المحكمة العسكرية المسيو بوريللي رئيس قلم قضايا الحكومة، ولكنه تنحى عن الجلوس في مركز المدعي العمومي، إذ رأى أن المحاكمة مهزلة متفق عليها من قبل، فجلس بدله قومندان الحامية الإنجليزية في التحقيق، وأخذ مجلسه قريبا من المكان الذي أعد لعرابي، وبعد أن أخذ أعضاء المحكمة مجالسهم مرتدين ملابسهم الرسمية، جيء بعرابي من السجن.
وكان قبل مجيئه قد وقع على وثيقتين ... الأولى يعترف فيها بارتكابه جريمة العصيان، ويتعهد في الثانية بأن لا يبرح الجهة التي تعينها الحكومة الإنجليزية لمنفاه.
دخل عرابي قاعة الجلسة مرتديا بدلة عادية، وجلس في المقعد الذي خصص له، وجلس محامياه إلى جواره ... فتلا عليه رءوف باشا رئيس المحكمة ورقة الاتهام مخاطبا إياه بما يأتي: أحمد عرابي باشا ... أنت متهم أمام هذه المحكمة بناء على طلب لجنة التحقيق بجريمة العصيان ضد الجناب الخديوي، مخالفا المادتين 96 من القانون العسكري العثماني و59 من قانون الجنايات العثماني، فهل تقر بالتهمة أم لا؟
فأجاب عرابي: «إن محاميي سيجيبان بالنيابة عني.»
فتلا المستر برودلي بالفرنسية ورقة أمضاها عرابي وفيها يعترف بجريمة العصيان، وتلا كاتب الجلسة صيغتها العربية.
وعندئذ قرر رءوف باشا بأن المحكمة ستختلي للمداولة، وأن الجلسة أوقفت على أن تنعقد في الساعة الثالثة بعد الظهر.
وانعقدت المحكمة في الموعد المذكور، وكان عدد الحاضرين في هذه المرة كبيرا ... فلما فتحت الجلسة أمر رءوف باشا كاتب الجلسة بتلاوة الحكم، فتلاه ... وهو يقضي على عرابي بالإعدام، وتلا عقب صدور الحكم الأمر الخديوي بإبدال الإعدام بالنفي المؤبد، واستغرقت تلاوة الحكم وأمر الخديو بتعديله عشر دقائق، ثم انفضت الجلسة.
وحوكم زملاء عرابي الستة، وهم: محمود باشا سامي البارودي، ومحمود باشا فهمي، ويعقوب سامي باشا، وعبد العال حلمي باشا، وعلي باشا فهمي الديب، وطلبة باشا عصمت، بالطريقة التي حوكم هو بها؛ أي أنهم اعترفوا بجريمة العصيان، وقد رفض علي باشا الروبي أن يدافع عن نفسه بواسطة المستر برودلي، ورفض الإقرار الذي كتبه عرابي فلم يحاكم معهم ... وصدر الأمر بنفيه عشرين سنة في مصوع.
وفي 7 ديسمبر اجتمعت المحكمة لمحاكمة كل من: طلبة باشا عصمت، وعبد العال باشا حلمي، ومحمود سامي باشا البارودي، وعلي فهمي باشا الديب، فحكمت عليهم بالإعدام، وتلا رئيس المحكمة أمر الخديو بتعديله إلى النفي المؤبد أيضا.
وفي يوم 10 ديسمبر حوكم محمود باشا فهمي ويعقوب سامي باشا، فحكم عليهما أيضا بالإعدام مع تعديل الحكم إلى النفي المؤبد.
وأصدر الخديو أمرا في 14 ديسمبر بمصادرة أملاك الزعماء السبعة المحكوم عليهم وأموالهم، وحرمانهم حق امتلاك أي ملك في الديار المصرية بطريق الإرث أو الهبة أو البيع، أو بأي طريقة ما مع ترتيب معاش سنوي لهم بالقدر الضروري لمعيشتهم، وقضى هذا المرسوم ببيع أملاكهم، وما ينتج من هذا البيع من صافي الثمن يخصص لسداد التعويضات التي ستعطى لمن أصيبوا في حوادث الثورة.
وفي 21 ديسمبر سنة 1882 صدر أمر خديوي آخر بتجريد السبعة الزعماء من جميع الرتب والألقاب، وعلامات الشرف التي كانوا حائزين لها. (1-1) تنفيذ الحكم في عرابي وزملائه
اختارت الحكومة الإنجليزية جزيرة «سيلان» بالهند منفى للزعماء السبعة ... فاجتمعوا في سجن الدائرة السنية يوم 13 ديسمبر، ليتداولوا في تجهيز معدات الرحيل. و25 ديسمبر نفذ في الزعماء حكم التجريد من رتبهم وألقابهم، بأن جمعوا في الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم في ساحة «قصر النيل» وتلا عليهم علي غالب باشا وكيل وزارة الحربية أوامر التجريد، وأعدت الحكومة لرحيل الزعماء الباخرة مريوتس «مريوط» وهي باخرة إنجليزية حمولتها 1400 طن، استأجرتها خصيصا لنقل الزعماء وذويهم وحاشيتهم إلى جزيرة سيلان، وأنزلتهم فيها بالدرجة الأولى، وعهدت إلى الكولونل موريس بك - وهو ضابط إنجليزي كان في خدمة الحكومة - أن يرافقهم حتى يصلوا إلى منفاهم.
ففي مساء 27 ديسمبر سنة 1882 أعدت لهم قطارا خاصا في ثكنة قصر النيل، لنقلهم إلى السويس، فركبوه هم ومن اختاروهم من الأهل والخدم، وودعهم المستر برودلي محاميهم على رصيف القطار، وحضر سفرهم السير شارلس ويلسن مندوب السلطة الإنجليزية، وتحرك بهم القطار في الساعة العاشرة مساء، ورافقهم إلى السويس المستر نابييه، وكان يحرسهم رهط من الجنود المصريين وآخرون من الجنود الإنجليز، فبلغوا ميناء السويس الساعة الثامنة من صبيحة يوم 28 ديسمبر، وهناك ركبوا الباخرة «مريوتس» وأقلعت بهم في الساعة الواحدة بعد الظهر إلى ثغر كولومبو ميناء سيلان، فوصلوا إليه مساء 9 يناير سنة 1883، ونزلوا إلى البر في صبيحة اليوم التالي.
الزعيم في المنفى
(1) في جزيرة سيلان
أقام عرابي وزملاؤه الستة في جزيرة «سيلان»، وكانت حياتهم في المنفى حياة ألم وحزن وبؤس وشقاء ... إذ انقطعت صلتهم بالناس، وطال اغترابهم عن الوطن، وبعدت الشقة بينهم وبين أهلهم وذويهم، ولم يكترث لهم أحد، ولم يعطف عليهم أحد، والناس مع الغالب.
وجادت قريحة البارودي بشعر مؤثر في الحنين إلى الوطن والحزن لفراقه، مما يعد آية في البلاغة، ويدلنا على مبلغ ما عاناه المنفيون من الآلام، وهو وإن كان يصور آلام نفسه وما يجيش به صدره، لكنه في شعره يصور لنا حالة الزعماء المنفيين من العرابيين عامة.
قال يصف الرحيل عن أرض الوطن:
محا البين ما أبقت عيون المها مني
فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة
ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبن
فإن أك فارقت الديار فلي بها
فؤاد أضلته عيون المها عني
بعثت به يوم النوى إثر لحظة
فأوقعه المقدور في شرك الحسن
إلى أن قال:
ولما وقفنا للوداع وأسبلت
مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فبزني
وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
وما هي إلا خطرة ثم أقلعت
بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
أفكم مهجة من زفرة الشوق في لظى
وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جربت النوى قبل هذه
فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
ولكنني راجعت حلمي وردني
إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل
لما قرعت نفسي على فائت سني
وتعاقبت السنون على عرابي وزملائه في منفاهم بتلك الجزيرة النائية ... فضاقت صدورهم لطول الغربة، وعدم العمل إطلاقا، ورداءة المناخ، وافتقارهم لمن يعطف عليهم أو يسأل عنهم، فساءت لذلك حالتهم المعنوية، ووقع الخصام بينهم ... وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون ... وبدأ الخصام أول ما وقع بين عرابي وطلبة وعبد العال.
وفي سنة 1890 انتقل محمود باشا سامي البارودي بعائلته، بعد أن تزوج من كريمة يعقوب سامي باشا إلى مدينة «كندي» التي تبعد 74 ميلا عن كولومبو، وترك عرابي وبقية زملائه بكولومبو متنافرين متخاصمين، وتبعه يعقوب سامي باشا وقطن كندي ... وكذلك فعل طلبة باشا عصمت، وفي سنة 1892 انتقل إليها عرابي ثم علي باشا فهمي. (2) مصير عرابي وزملائه
توفي عبد العال باشا حلمي يوم 19 مارس سنة 1891 بكولومبو ودفن بها. وذهب محمود باشا فهمي إلى كندي - عاصمة الجزيرة - لتبديل الهواء ... وهناك أدركته الوفاة ليلة 17 يوليو سنة 1894 ودفن بها.
وفي فبراير سنة 1900 رخصت الحكومة المصرية لطلبة باشا عصمت بالعودة إلى مصر، إذ ساءت صحته، وقررت جمعية من الأطباء أنه إذا لم يعد إلى بلاده فإنه لا يعيش أكثر من خمسة أشهر، وصادق على هذا القرار حاكم الجزيرة ... فعاد إلى مصر، ولكنه لم يعش أكثر من المدة التي توقعها الأطباء، وتوفي في ذلك العام، ودفن في قرافة الإمام الشافعي.
وفي شهر أكتوبر سنة 1900 توفي يعقوب باشا سامي، ودفن بجوار قبر محمود باشا فهمي بكندي، وكان قد صدر العفو عنه ورخص له بالعودة إلى مصر، ولكن وافاه القدر قبل أن يبلغه الحاكم أمر العودة.
وأصيب محمود باشا سامي البارودي بارتشاح في القرنيتين أفقده نور عينيه، وقررت جمعية الأطباء لزوم عودته إلى مصر لمعالجته في المناخ الذي ولد فيه وألفه، وصادق على ذلك حاكم الجزيرة، فأصدر الخديو عباس حلمي الثاني أمرا بعودته إلى مصر، فرجع في شهر سبتمبر سنة 1900، وعفا عنه الخديو ومنحه حقوقه المدنية ورد إليه أملاكه الموقوفة، وحصل على متجمد ريعها من ديوان الأوقاف، ولكن لم يعد إليه بصره، وتوفي في 12 ديسمبر سنة 1904.
وفي 11 يونيو سنة 1901 صدر عفو الخديو عباس أيضا عن عرابي وعلي فهمي ... فبارح علي باشا فهمي الجزيرة في شهر أغسطس سنة 1901، وجاء القاهرة في أول سبتمبر، وجاءها عرابي في أول أكتوبر سنة 1901، وكانت البلاد تغلي سخطا على الاحتلال وسياسته لما بدا من الحكومة البريطانية من نقض عهودها في الجلاء، ووضع يدها على حكومة البلاد ومرافقها.
وكانت عودة عرابي بوساطة الإنجليز، وإدلاؤه بعد رجوعه بتصريحات فيها تأييد للاحتلال وسياسته، سببا في استقبال الأمة له بالفتور والسخط، وهذا الفرق بينه وبين البارودي من هذه الناحية ... فقد لزم البارودي العزلة بعد عودته وامتنع عن الخوض في الأحاديث السياسية، وكان ذلك منه عين الحكمة والصواب، أما عرابي فقد جلب على نفسه بأحاديثه سخط الصحافة والرأي العام، وكانت وفاته رحمه الله يوم 21 سبتمبر سنة 1911. (3) شخصية عرابي
في شخصية عرابي تجتمع المحاسن والأضداد ... ولقد كان لكل منهما أثره في الدور الذي قام به في تاريخ مصر السياسي ، ولا بد لكي تكون لدينا صورة صحيحة لهذه الشخصية الكبيرة أن نعرف مزاياها ونقائصها، أو ما لها وما عليها ...
إذا حللنا شخصية عرابي نجد أنه كان بلا نزاع ذا شخصية قوية جذابة، تؤثر في الأفراد والجماعات ... فله من هذه الناحية أخص صفات الزعماء، ولولا هذه الموهبة لما استطاع أن يجتذب إليه محبة ضباط الجيش وجمهرة الأمة، وينال ثقتهم ويملي إرادته عليهم، وكانت له أيضا موهبة الكلام والخطابة والصوت الجهوري، وهذه أيضا من مزايا الزعماء التي تحببهم إلى نفوس الجماهير ... وقد كان لخطبه تأثير السحر في نفوس سامعيه، وكان بلا مراء يريد الخير لبلاده، ويريد لها الحرية والاستقلال، وعلى هذا الأساس قامت دعوته.
على أنه إلى جانب ذلك لم يكن على حظ كبير من الكفاية السياسية وبعد النظر ... ومن هنا جاء شططه في كثير من المواطن، وعدم تقديره للأمور وملابساتها. وعرابي معذور في ذلك لأنه لم ينل حظا كبيرا من الثقافة والإلمام بشئون السياسة وأطوارها ... فهو لا يعدو أن يكون ضابطا من تحت السلاح، لم يتخرج في المدارس الحربية ولا المدنية، ولم يعلم نفسه بنفسه تعليما ناضجا، ولم يكن له من العبقرية ما يغنيه عن الدرس والاطلاع والتحصيل.
وكان علمه محدودا ... فقد تلقى في الأزهر بعض قشور من العلوم الفقهية واللغوية، ولم يظن مكثه به أكثر من أربع سنوات. ولم يزد محصوله العلمي عن بعض الآيات الشريفة والأحاديث النبوية استظهرها وتفهم معناها، وبعض المطالعات الأدبية من آثار السلف الصالح، وكتابات الصحف الوطنية في ذلك الحين ... وهذا المحصول لا يكفي لتكوين الرأس المدبر للثورات، القدير على تذليل المعضلات، وحسن التصرف فيما يعرض على البلاد من أحداث وأزمات.
حقا أن كثيرا من الزعماء لم يكونوا في محصولهم العلمي يزيدون على عرابي، ومع ذلك نجحوا في زعامتهم ودعوتهم ... فالظروف السياسية لها دخل كبير في نجاح الزعيم أو إخفاقه ... وسنعرض فيما يلي الأسباب لإخفاق عرابي والثورة العرابية ...
إن الفرق كبير بين عرابي وبين كافور مثلا في إيطاليا، أو وشنطون في أمريكا، أو كوشيسكو في بولونيا ، أو كوشوت في المجر ... ولو وفقت الثورة العرابية إلى زعيم مثل كافور لسارت في سبيل الفوز، ولعرف كيف يدير دفة السفينة بمهارة وكفاية.
قد يكون لعرابي بعض الشبه بغاريبلدي في قلة المحصول العلمي والسياسي ... ولكن غاريبلدي كان يترك لرجال السياسة تصريف المعضلات السياسية، أما عرابي فكان على جانب كبير من الاعتداد بالنفس، إذ كان يعتقد في نفسه القدرة على تصريف الشئون السياسية كافة ... ولو أنه استعان برجل من معاصريه قدير في شئون السياسة، كشريف، لكان ممكنا أن تسير الثورة في سبيل النجاح إلى النهاية، ولكنه على العكس قد عمل على التخلص منه حتى أقصاه عن الوزارة كما بينا في موضعه. •••
ومما يؤسف له أن عرابي كان على جانب كبير من الغرور ... وقد كان ذلك من العوامل الفعالة في اتجاهه السياسي، فمن ذلك أنه حين تحفزت إنجلترا لضرب الإسكندرية أبان له بعض مواطنيه ضرر الحرب وسوء مستقبلها، فكان يقول: «أنا أقوى من دولة الإنجليز ودولة فرنسا.» وقال: «إن الطوابي والعساكر المصرية لا تقاوم الإنجليز فقط، بل جميع الدول مدة ثلاث سنين ... بحيث لا يمكن لأحد الدخول إلى مصر.»
وكان ظنه أن الإنجليز لا طاقة لهم على قتال البر، وأن قوتهم محصورة في البحر، وفي ذلك كان يردد هو وأنصاره كلمتهم المأثورة: «الإنجليز كالسمك ... إذا خرج من البحر هلك.» وهذا من الغرور الناشئ عن الجهل لا محالة.
وكان يصرح بأنه لن يخضع لأوروبا أو لتركيا، ويقول في هذا الصدد: «فليرسلوا لنا جيوشا أوروبية أو هندية أو تركية ... فإني ما دمت وبي رمق، فإني سأدافع عن بلادي، وعندما نموت جميعا يمكنهم أن يمتلكوا البلاد وهي خراب.»
ولم يكن هذا من الواقع في شيء ...
ثم إنه لم يكن أيضا على حظ كبير من الكفاية الحربية؛ لأنه لم يتلق تعليما عسكريا نظاميا، ولم يتمرن على ضروب القتال، ولا خاص غمار الحروب في ماضيه قبل الثورة، ولا في حروب الثورة نفسها، فإنه لم يتول خلالها أية قيادة فعلية ... بل كان يندب غيره من القواد ليحمل عبأها في ميادين القتال ...
ففي ضرب الإسكندرية لم يباشر الدفاع عن الحصون كما رأيت مما أوضحنا، ولما انسحب إلى كفر الدوار عهد بقيادة الجيش المرابط بها إلى طلبة باشا عصمت، ولما تحرجت الحال في الشرق، وانتقل إلى رأس الوادي لم يتسلم زمام القيادة في معركة القصاصين، التي كانت أشد معركة نشبت بين المصريين والإنجليز، بل عهد بها إلى الفريق راشد باشا حسني واللواء علي باشا فهمي، وترك القيادة في معركة التل الكبير إلى علي باشا الروبي.
ومع أنه كان مثال الشجاعة والجرأة في الدور الأول من الثورة، فإن هذه الشجاعة لم تلازمه مع الأسف في واقعة التل الكبير، ولا في التسليم والمحاكمة.
عرابي باشا بعد عودته من المنفى.
فشخصية عرابي كانت تجمع بين المحاسن والأضداد، حقا أن الرأي في شخصيته قد تغير لو كتب له الفوز والنجاح ... فلو أن الثورة قد انتصرت لتضاءلت عيوبه إلى جانب مزاياه ومحاسنه، وهكذا شأن الحوادث والأحداث لها دخل كبير في تقدير الرجال والأشخاص:
والناس من يلق خيرا قائلون له
ما يشتهي، ولأم المخطئ الهبل
1 (4) أسباب إخفاق الثورة
فلنتكلم الآن عن أسباب إخفاق الثورة العرابية، فلعلها تلقي بعض الضوء على شخصية عرابي، والظروف التي اكتنفت الثورة والأسباب التي أدت إلى إخفاقها، ولعل هذه الأسباب تخليه من مسئولية هذا الإخفاق.
إن لإخفاق الثورة العرابية عوامل عدة، بعضها داخلي، وبعضها خارجي ... وأول العوامل الداخلية هو الانقسام الذي وقع في الصفوف بين العرابيين والخديو توفيق، فإن هذا الانقسام جعل من البلد معسكرين متحاربين؛ معسكر الثورة ومعسكر الخديو، فوقع الاصطدام بينهما وتفاقم أمره، وانتهز الإنجليز فرصة وجوده وما أدى إليه من ضعف وتخاذل، فحققوا أغراضهم الاستعمارية بالتدخل في شئون البلاد ثم احتلالها، ولو عولجت أسباب الفرقة والانقسام بالحكمة، وحسن السياسة لسارت الثورة على صراطها المستقيم ونجت البلاد من الاحتلال.
صحيح أن الثورة في ذاتها بدأت بالتصادم مع الخديو، فما واقعة قصر النيل ثم واقعة عابدين، إلا مظاهر لهذا التصادم وذلك الانقسام ... فكيف يمكن إذن تعليل إخفاق الثورة بالانقسام، وهو هو منشأ الثورة؟
نقول نعم ... إن الثورة ظهرت أول ما ظهرت بالتصادم مع الخديو، وهي وليدة هذا التصادم أو هذا الانقسام، ولكن الحكمة كانت تقتضي بعد إجابة مطالب عرابي وصحبه في وقعة عابدين، ونزول الخديو على إرادتهم أن يعالجوا الشئون العامة بالأناة والتريث، ويعملوا على رأب الصدع وتوحيد الكلمة وإزالة الفرقة والخلاف بينهم وبين الخديو، ولكنهم على العكس لم يأبهوا لهذه الناحية ... وداخلهم الشيء الكثير من الغرور وعدم النظر في العواقب، فأخذ الخلاف يتسع ويتفاقم، حتى كان من أمره أن اعتزم العرابيون خلع الخديو وتحدثوا في ذلك علنا، وهذا أقصى مظاهر التنازع والشقاق بين أبناء البلد الواحد. •••
كان لهذا الانقسام من العواقب الوخيمة ما لا يغيب عن البال، فقد أدى إلى التخاذل في ساعة الخطر، وتضعضع قوة المقاومة ... بل هو السبب المباشر للاحتلال البريطاني، إذ إن الإنجليز تذرعوا إلى هذا الاحتلال بدعوى تأييد سلطة الخديو وحماية العرش، فجاسوا خلال الديار وحاربوا العرابيين، وكان في وصف الإنجليز معسكر الخديو والحكومة، وكان يجدر بعرابي وزملائه زعماء الثورة أن يتداركوا هذه الحالة، ويتلافوا أسباب الانقسام تفاديا من التدخل الأجنبي. ولم يكن لهم عذر في أن يجهلوا المطامع الاستعمارية التي تكتنف مصر ... فإن حوادث ذلك العصر، والعصر الذي سبقه كانت تكشف عن نيات إنجلترا في تطلعها إلى احتلال وادي النيل، ولقد تجلت هذه النيات منذ حاربت نابليون في مصر سنة 1798، وحين أسس محمد علي الدولة المصرية الحديثة، فجردت سنة 1807 تلك الحملة التي باءت بالخيبة والخذلان، وما فتئت تعمل على تحقيق أغراضها الاستعمارية في عهد محمد علي وخلفائه، وكان شراؤها أسهم مصر في قناة السويس سنة 1875 الخطوة الأولى نحو الاحتلال ... فهذه الحوادث وغيرها، كان من شأنها أن تبصر العرابيين بالخطر الذي يتهدد البلاد، وتدعوهم إلى تلافي أسباب الانقسام الذي لا شك في أنه يوهن قواها في ساعة الخطر، وكان لهم من احتلال فرنسا وتونس سنة 1881 نذير بما تستهدف له مصر من مطامع الاستعمار الأوروبي عامة ... ولكنهم لم يتبصروا في العواقب، فمهدوا السبيل إلى إخفاق الثورة ووقوع الاحتلال. •••
فالانقسام هو أول العوامل في إخفاق الثورة ...
يليه تأثير الزعماء في تطور الحوادث ... فلقد كانت تنقصهم الخبرة السياسية، وهذا النقص وحده يكفي لإخفاق أية ثورة في مختلف البلدان.
وقد حرمت الثورة أيضا الكفاية الحربية، مما بدا أثره في المعارك التي نشبت بين الإنجليز والمصريين، ولو كان على رأس الثورة قائد كفء لتغير مصير الوقائع الحربية فيها، ولكنها مع الأسف لم توفق إلى قواد أكفاء، وقد تجلى عدم الكفاية الحربية في إحجام عرابي وصحبه عن سد قناة السويس عند ابتداء القتال، وهذا المثل وحده يدلك على جهل تام بفنون الحرب؛ لأن سد القناة كان أول ما يجب عمله بلا تردد لكي يضمن الدفاع عن مصر كما تقدم بيانه، ولو سدت القناة في الوقت المناسب لطال أجل الحرب، ووجدت مصر الوقت الكافي لتنظيم وسائل الدفاع؛ لأن الأمة كانت مستعدة لبذل كل تضحية للدفاع عن كيانها ... ولكن الخطأ يرجع إلى زعمائها السياسيين والحربيين.
وثمة عامل آخر له أثره الكبير في إخفاق الثورة، وهو قلة البطولة والتضحية ... فقد رأيت كيف كان موقف عرابي في واقعة التل الكبير، وكيف ترك الميدان دون جهاد أو نضال، وكيف سلم نفسه للإنجليز، وكيف كان موقفه أثناء المحاكمة وبعدها.
كان هذا التسليم والخضوع من أكبر العوامل في إخفاق الثورة وانحلالها؛ لأن الأمم تتأثر حتما بنفسية زعمائها ومواقفهم ... فمواقف التضحية والبطولة تبعث في الأمة روح التضحية والبطولة، ومواقف التسليم والخضوع تقضي على هذه الروح، حتى في النفوس التي كانت مشربة بها أو مستعدة لها. •••
فالزعامة تطبع الأمة بطابعها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر ... ولذلك لا تعجب من ضعف المقاومة التي لقيها الإنجليز حين احتلالهم مصر، فإن زعماء الثورة كانوا أول من استسلم في ساعة الخطر، وقد ظهر ضعفهم النفسي في المحاكمة، إذ أخذ كل منهم يتنصل من تبعة الثورة، وتبين من موقفهم أنه كان ينقصهم الإيمان والعقيدة ... وهما أساس النجاح لكل دعوة وكل عمل ... ولو أنهم ضربوا للأمة المثل العليا في التضحية والشجاعة والإقدام، لكانت الثورة العرابية في دورها الثاني صفحة مشرفة من تاريخ مصر القومي، كما كانت في دورها الأول، ولكن أية مقاومة تنتظر بعد أن ترى الأمة زعماءها يتركون ميدان القتال، ويلقون أسلحتهم خاضعين مستسلمين؟!
لا شك أن هذا الموقف وحده من أهم الأسباب في إخفاق الثورة العرابية ... ولو أن عرابي وصحبه قاوموا وقاتلوا في التل الكبير، لكان لهذه الوقعة ولو انتهت بالهزيمة صبغة أخرى غير الصبغة التي طبعت بها، ولو أنهم أدوا واجبهم لاستمرت المقاومة عهدا طويلا، ولبعثوا في البلاد من أقصاها إلى أقصاها روح البذل والتضحية.
قد تقوم في بعض البلاد ثورات تنتهي بالهزيمة ... برغم ما يبذل فيها من جهود وتضحيات، ذلك حين تتغلب عليها القوة وتقمعها، فأمثال هذه الهزيمة لا تعد إخفاقا، بل هي صفحة مشرفة من كفاح الأمة في سبيل حريتها واستقلالها، وهي بما يتخللها ويزينها من البطولة والشجاعة والتضحية، تبعث في الأمة دما جديدا، يجدد من حيويتها ويزيدها قوة ومرانا على الكفاح والمقاومة، وتظل صفحة جهادها مثلا عاليا، تحتذيه الأجيال المتعاقبة في افتداء الوطن بالنفس والمال ...
ومن العوامل الداخلية في إخفاق الثورة سياسة الخديو توفيق، فهو لم يكن مؤمنا بالشورى ولا موقنا بحق الأمة في الدستور، وعلى ما كان عليه من الضعف والتردد، فإنه كان يميل إلى الحكومة المطلقة، يستأثر فيها بالسلطة هو وحاشيته والمقربون إليه، ولم يكن يعترف لغير هؤلاء بالنفوذ والسلطان، اللهم إلا لممثلي الدول الأجنبية، فإنه كان يحرص على كسب ودهم وثقتهم ...
ومن هنا جاء خضوعه لرغبات معتمدي إنجلترا وفرنسا، ولو كان صادق الرغبة في احترام حقوق الأمة، لما اتخذت منه الدولتان تكأة لمحاربة الثورة، فقد استغلتا ميوله الخاصة وكراهيته للثورة، ففاجأتا البلاد بمذكرة 7 يناير سنة 1882 التي تقدم الكلام عنها، ولما اشتد الخلاف بينه وبين وزارة البارودي في حادثة مؤامرة الضباط الشراكسة، بدأ انحيازه إلى التدخل الإنجليزي الفرنسي بشكل واضح، ولما انسحبت فرنسا من الميدان استمر انحيازه إلى جانب التدخل الإنجليزي. •••
وكان للعوامل الخارجية أثر كبير في إخفاق الثورة العرابية، وأهمها المطامع الاستعمارية الأوروبية، وبخاصة الإنجليزية، ففرنسا وإنجلترا كانتا تطمعان في توسيع نفوذهما في مصر، ومن هنا جاء سخطهما على الثورة، وكراهيتهما قيام حكومة دستورية في البلاد، ولقد رأيت كيف ائتمرتا بالحركة الوطنية ووضعتا العقبات والعراقيل في سبيلها، وكيف بدأت نياتهما السيئة نحوها بمذكرة 7 يناير سنة 1882، تلك المذكرة التي تنطوي على إثارة العداوة والبغضاء بين الخديو والأمة، وكيف أعقبتا تقديمها بالمعارضة في تخويل مجلس النواب حق تقرير الميزانية، مما أدى إلى سقوط وزارة شريف باشا ... ثم انتهازهما فرصة الانقسام الذي وقع بين الخديو والعرابيين، وإرسالهما أساطيلهما إلى مياه الإسكندرية، ثم تدخلهما بالفعل وتقديمهما بلاغهما النهائي بإقالة وزارة البارودي، وإبعاد زعماء الثورة، ورفض العرابيين هذه المطالب، وقبول الخديو إياها ... مما أدى إلى استقالة وزارة البارودي، وانفجار بركان السخط على الخديو.
فالسياسة الاستعمارية الإنجليزية والفرنسية، كانت من أكبر العوامل في إثارة الانقسام بين الأمة والخديو ... وأعقب هذا الانقسام انسحاب فرنسا من الميدان، وانفراد إنجلترا بالتدخل لتحقيق مطامعها الاستعمارية في مصر، وقد رأيت كيف نفذت برنامجها الاستعماري بضرب الإسكندرية وإنزال جنودها إلى البر ... فكان ذلك بدء الحملة التي قضت على الثورة وعلى الاستقلال.
أضف إلى ذلك جمود أوروبا حيال الاعتداء البريطاني، وسوء نية تركيا نحو مصر منذ قيام الثورة، وسعيها الأخرق في استرداد الاستقلال الذي نالته مصر، وما ظهر منها من التذبذب والنفاق، والتظاهر تارة بمناصرة العرابيين وطورا بتأييد الخديو، وانضمامها أخيرا إلى جانب الإنجليز بإعلانها عصيان عرابي والحرب قائمة ... فكان هذا الإعلان ضربة شديدة للثورة، وعضدا كبيرا للحملة البريطانية. •••
كل هذه العوامل التي اجتمعت على مصر، كان لها الأثر البالغ في إخفاق الثورة ... وكان لضعف السياسة الفرنسية وترددها حيال المسألة المصرية، وترك الإنجليز يتدخلون وحدهم في شئون البلاد؛ أثر كبير في تطور الحوادث، إذ انتهزت إنجلترا هذه الفرصة وانفردت باحتلال مصر، وإخماد الثورة وتثبيت قدمها في البلاد.
وليس من السهل على أمة تثور للحرية أن تتغلب على كل هذه العوامل مجتمعة، ما لم تؤت قوة الجبابرة أو عقول العباقرة ... وإنك لترى أن أكثر الأمم التي ثارت من أجل حريتها واستقلالها كان لها، على العكس، من العوامل الخارجية ما ساعدها على تحقيق آمالها. فالثورة الأمريكية لم تدرك ما نالته من النجاح، ولم تحقق استقلال الولايات المتحدة إلا بعد أن عاونتها فرنسا بجيشها وأسطولها، وإيطاليا لم تحقق وحدتها وتتحرر من النير النمسوي إلا بمعاونة فرنسا العسكرية، واليونان لم تتحرر من النير التركي إلا بمعاونة روسيا وفرنسا وإنجلترا، وكذلك الأمم البلقانية عامة لم تنفصل عن تركيا وتحقق استقلالها إلا بمساعدة أوروبا.
أما مصر فإنها لم تحرم المعاونة من الخارج فحسب ... بل تألبت عليها العوامل الخارجية، وعاونت إنجلترا على تحقيق أطماعها الاستعمارية.
ويقيننا أن العوامل الخارجية كانت أقوى من العوامل الداخلية في إخفاق الثورة العرابية.
Page inconnue