Jonas dans le ventre de la baleine
يونس في بطن الحوت
Genres
قال صابر معتذرا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئا. ألح الأستاذ حسني: أي شيء. قال صابر في إخلاص كاد أن ينفجر له حسني ضاحكا لولا أنه تحكم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطف وكأنه يتمنى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حده وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود. فتحامل على نفسه وشد عضلاته ووقف في وسط الصالة. أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشر ملامحه. عقد جبينه وزم شفتيه بكل قوته ومد ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي، وقال: «نهاية الفصل الثالث. بهو الأعمدة. الوقت ليل والمكان مضيء.» ثم انفجر في صوت فوجئ به حسني، وذعرت أم محمد، فأسرعت تجري من المطبخ ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم. الوداع! يا ... يا ... لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعظم ما نزل بي، لا مرنوش ولا يمليخا رزئا بمثل هذا، إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها. وإذا الليلة أجيال، أجيال. وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي، فيجول بيننا كائن هائل جبار، هو التاريخ.
ويبدو أن لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميص نوم وردي شفاف، ومدت ذراعها ضاحكة ضحكة رنت في أذنه كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة؟ تراخت عضلاته. تفكك جسده. انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش. لم يستطع أن يثور، لم يستطع أن يبكي، لم يفكر أيضا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة، وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففا وهو يؤنب سامية بصوت يحاول أن يكون مرتفعا. ودق جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان إلى حد أن صابرا لم يستطع أن يثبت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة. كان صوته أجش وبدا لصابر كأنه ثور غبي، وهو يقول: هل هده مواعيد يا عالم! من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم والبلاتوه جاهز، والمنتج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب السكريت يا ست سامية منتظر هناك على نار، إن لم تنزلوا حالا ضاعت علينا الفرصة، أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار، بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.
كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسده بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه. لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه. ورن جرس التليفون. وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفس واحد، ووجد صابر نفسه ينهض من على الكرسي وقد خيل إليه أنه استراح قليلا، ودون أن يحس به أحد مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء، حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.
1964
الست الطاهرة
نحن في عز المولد. صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصم الآذان. القزم عتريس يدخل من باب الجامع في طريقه إلى المقام. الشحاذون يبتسمون، الزوار يتلفتون إليه ويبتسمون، السقاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون. عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام، وسط الأجساد والأيدي المتشابكة تتلمس يداه الصغيرتان موضعا على الشباك يريح وجهه المكرمش العجوز عليه. تتمتم شفتاه، يعلو صوته، لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه. الزوار يلمحونه ويعجبون. كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضا تكلمه، تكلمه وحده دون غيره؟ - من ينادي علي؟ - يا ست! نظرة يا ست! عتريس يا ست، القزم عتريس. - أنت جئت يا عتريس؟ - جئت يا ست، أبوس الأيادي، أركع عند رجليك. أشم رائحتك الطاهرة. - الغيبة طالت يا عتريس. - دخت يا ست، تهت في بلاد الله وشرقت وغربت، لا شغلة ولا مشغلة. - والسيرك يا عتريس؟ - قفلوه في وجهي. قالوا لي: عجزت ولا بقى فيك حيل. من يوم ما وقعت يا ست. - وقعت؟ - من على ظهر الحصان. كنت أنادي على عادتي بعزم ما في وأقول نفسك معي يا ست. قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس. وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق. الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ. - وبعدها يا عتريس؟ - أخذوني إلى المستشفى، وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يوما وحياتك يا ست، سبعين يوما وحق مقامك الطاهر. - وبعد ما خرجت من المستشفى ؟ - سألت عليهم، قالوا لي: في مولد الست. يا ناس أرجع لشغلي. لأ يا عتريس. يهديكم يرضيكم. أنت عجزت يا عتريس. طيب جربوني. عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز. نفسي أضحك الناس. ستضحك الناس علينا يا عتريس. يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس. صرخت بعزم ما في: يا طاهرة! سقت عليك النبي يا حبيبة! - وسمعتك يا عتريس. - عارف يا ست. لكن العمل؟ - العمل عمل الله يا عتريس. - كلمة منك تفتح الأبواب، دعوة منك تحنن القلوب. لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة. - عند من يا عتريس. - عند أصحاب الأكشاك يا ست. ألعابهم كثيرة. صحيح انكسرت وما عاد في حيل، لكن أقدر أضحك الناس، أحكي لهم حكايتي، أحلف لهم أني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس. - رح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.
في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام. الشحاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا. الزوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل ولولا قداسة المكان لضحكوا. السقاءون الواقفون كتماثيل من خشب نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا. تزاحم عتريس وانحشر بين الناس. تحسس الشباك الطاهر وشم العطر وراح في الجلالة، وقال: يا ست! - قل يا عتريس! - رحت لهم يا ست، فت عليهم واحدا واحدا. - من يا عتريس؟ - كلهم يا ست، الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فت عليه. - ومن هو الأراجوز يا عتريس؟ - رجل صغير يعلقونه من شعره بسلك ويحركون رجليه ويديه بسلوك. طول النهار يشتم ويلعن ويسب. - ابعد عنه يا عتريس. - هو الذي أبعدني يا ست. - والباقون؟ - قلت لهم أشتغل معكم. قالوا لي: راحت عليك يا عتريس. يا ناس ولو نمرة واحدة. ما عاد فيك حيل يا عتريس. يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك. الناس غير أيام زمان يا عتريس. طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم، تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك. - معهم حق يا عتريس. - تقولين معهم حق يا ست ؟ - شعرك أبيض، قلبك تعب يا عتريس. - القلب لا يتعب من ذكرك يا ست. طيب تصدقي بالحبيب؟ - عليه أفضل الصلاة والسلام. - لو تسمحين لي يا ست؟ - ماذا تريد يا عتريس؟ - أقف على رأسي مرة واحدة قدامك؛ أثبت لك أن عتريس هو عتريس، بهلوان زمانه ووحيد عصره وأوانه. - هنا في المقام؟ يا للعيب يا عتريس! - من نفسي يا ست. مرة واحدة يا حبيبة. مرة واحدة لأجل الحبيب. - عيب يا عتريس.
دمدم الصوت المنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدت يد فرفعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسع وصل على النبي! انتبه عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب. صرخ: والعمل يا ست؟
جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة توشوشه: اسع وصل على النبي يا عتريس. - الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست. - إلا بابي يا عتريس، إلا بابي. - يرضيك عتريس يصبح شحاذا يا ست؟ - الأرزاق على الله يا عتريس.
Page inconnue