Jonas dans le ventre de la baleine
يونس في بطن الحوت
Genres
عذبه التأمل والتفكير حتى ضاقت نفسه بمحنتها، وأحس بالحر يكاد يخنقه، وباللهب يمتد من دماغه وقلبه فيتغلغل في جسده حتى يكاد يحرقه. هنالك نهض من مجلسه، وهبط إلى حديقة الدير، فشعر بأنسام الربيع تنعش وجهه، وترفرف حول أذنيه. كان لا يزال سابحا في ذهوله فلم تبصر عيناه الذاهلتان شيئا مما يجري حوله؛ لا الرهبان العجائز المنتشرين بين أحواض الزرع والزهور، ولا الشبان السائرون في ممرات الحديقة تتحرك شفاههم وهم يتلون من الكتاب المفتوح بين أيديهم، ولا السور الأجرد المبني من أحجار الجبل التي حال لونها ونمت عليها الأعشاب والأشواك. ولكن صوتا رقيقا، مثل أجراس ناقوس يدق وراء الأفق بدا كأنه أعاده إلى نفسه. كان صوت غناء شجي، متقطع، خجول، كأنه صوت أجنحة طفل ملائكي يهبط من السحاب ويتجلى للآباء الصالحين والقديسين. وبحثت عيناه قليلا بين أوراق الشجر، وهدته أذناه إلى طائر صغير ينتفض على غصن شجرة السرو العتيقة المغروسة إلى جانب السور، ويقفز من ورقة إلى ورقة كأنه يتعذب مثله بالتفكير في الأصل والمصير. كان الصوت على الرغم من ارتعاشه وحزنه، رقيقا وساحرا كأنما ينبعث من ناي يلعب عليه أحد الرعاة. نسي الراهب الشاب عذابه، وغمرته فرحة سماوية أبعدت عنه همه وضيقه، فراح يتابع غناء الطائر العجيب، ويجري وراءه وهو يطير من شجرة إلى شجرة، ولا ينتهي من لحن إلا ليبدأ في لحن جديد. أخذ الراهب الشاب يتابعه بقلبه قبل عينيه، مسحورا بغنائه الذي يتدفق في صدره كأنه خرير نبع الحياة الأبدية، حتى حط الطائر أخيرا فوق شجرة صنوبر وراء السور. ولما كان باب الدير مفتوحا فقد سار الراهب الشاب في طريقه، وعبر الباب الخارجي بدون أن يشعر وراح يتابع الطائر الجميل وهو يقفز من شجرة إلى شجرة، ويسكب خيوطه الذهبية الصافية فيجذبه معه. ولم يحس الراهب الشاب بنفسه وهو يجوس في الغابة، مذهولا عن الجمال الإلهي الذي أسدله الربيع على طيورها وأشجارها ونباتها ودروبها. ولم يشعر بنفسه وقد توغل في الغابة حتى وصل إلى واد عميق مخضر كأنه هاوية، تتكاثف فيه أعواد العليق، ويتلألأ فيه نبع صاف تحت أشعة الشمس الذهبية.
وفجأة أحس أن الشمس قد غابت، والطائر سكت، والغابة بدأت تسحب عليها غطاءها الداكن الظلال، والبرودة تسري إليه من جوف الوادي ومن النسمات الباردة التي بدأت تلفح وجهه. كان كل شيء فيه يرتعش رعشة لم يحس بها في حياته من قبل، وإن كان في نشوة انبهاره قد عزاها إلى وحشة الغابة، ورطوبة المساء، وجلال الغروب. وازدادت الرعشة حتى أصبح كيانه كله ينتفض، فاستدار يريد العودة من حيث أتى. ولكن أعواد العليق والتنوب والأرز شبكت في بردته، فراح يخلص نفسه منها في عناء. ولما أنقذ نفسه أخيرا من الأذرع الخضراء التي امتدت لتعانقه على الرغم منه، وسلك الطريق الذي بدا له أنه يوصله إلى الدير، كانت الشمس قد دخلت كهفها الأبدي منذ لحظات، حتى إنه لم يكن يكاد يرى أصابع كفه حين يبسطها أمامه ولا مواضع قدميه عندما وصل إلى الدير. كان باب الحديقة مغلقا، والسكون يخيم على الدير الذي بدا كأطلال مدينة قديمة مهجورة. ووجد الراهب الشاب أن عليه أن يدور حول السور دورة مضنية قبل أن يصل إلى البوابة الرئيسية. وحين وقف أخيرا أمامها ولمست يداه قضبانها الحديدية العالية منعه الخجل لحظات من أن يجذب حبل الجرس. ولكنه حين تغلب أخيرا على خجله أخذ يبحث عن الحبل فلم يجده في موضعه؛ هنالك لم يجد بدا من الطرق على الباب كما يفعل الغريب.
وفتحت البوابة وأطل منها وجه لم يتبينه في أول الأمر وإن شعر أنه لا بد أن يكون وجه شيخ عجوز لن يرحمه من اللوم والتأنيب. وحاول الراهب الشاب ألا يعطيه فرصة للعتاب والتوبيخ فأسرع يعتذر إليه عن تأخره الشديد في صوت لا تخطئ الأذن نغمته المتضعة الكسيرة. وأراد أن يمضي في طريقه الذي يعرفه جيدا لولا أن اعترضه الشيخ العجوز وراح يتفرس في وجهه ويفحصه بعينيه الغائرتين كأنما يفحص وجه حيوان منقرض. ولاحظ الراهب الشاب أنه لم يكن هو نفس البواب الذي تركه وراءه، كما أن البواب الجديد لم يترك له فرصة يحاول فيها أن يتذكر وجهه، فقد دعاه في صوت حاسم وسريع للذهاب معه إلى رئيس الدير. وحين وصلا إلى حجرته لاحظ الراهب الشاب أنه لم ير هذا الرئيس العجوز أيضا من قبل. ساوره الشك فراح يقلب عينيه بين سقف الحجرة وجدرانها ولوحاتها التي يعرفها، كما يعرف منها أنه لا يمكن أن يكون قد دخل ديرا غريبا؛ إذ ليس في المنطقة كلها وعلى مسافة مئات الأميال دير سواه. وبينما هو يقلب رأسه في حيرة وقعت عينيه على صورته منعكسة تحت ضوء الشموع الخافتة على ألواح الزجاج الذي يغطي صورة العذراء على الجدار المواجه له. واقترب منها قليلا ليتحقق مما أنكرته عيناه؛ كان الوجه الذي يطالعه من المرآة العكرة وجه شيخ عجوز ابيض شعر رأسه، وطالت لحيته حتى كادت تلمس صدره، حتى إنه لم يستطع أن يصدق كيف أنه لم يحس بها. وأحس بألم في ظهره، فمد ذراعه ليتحسسه، وعادت يده لتخبره أن ظهره قد تقوس كما يتقوس ظهر شيخ محطم. ترنح الراهب ولم تقو ساقاه على حمله، وأسرع الراهبان إليه فأسنداه على مقعد مريح، وساعدهما على حمله أخوة آخرون أخذوا يفدون من قاعات الدير واحدا بعد الآخر، والراهب يدير عينيه بينهم فلا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد. وعندما سألوه عن اسمه فنطقت به الشفتان المرتعشتان، أرسلوا في طلب سجل الدير القديم وأخذوا يقلبون أوراقه. ولما وصلوا إلى آخر ورقة فيه دون أن يعثروا على اسمه أو اسم عائلته أرسل رئيس الدير يطلب سجلا بعد سجل قيدت فيها أسماء الرهبان على مدى ثلاثمائة عام. وعندما وجدوا اسمه بعد البحث المضني الذي اشترك فيه جميع الرهبان رأوا أمامه هذه الكلمات: «داخله الشك في شبابه فغادر الدير سرا ولم يعد إلى اليوم».
عندما سمع الراهب العجوز ذلك أحس بظل ثقيل يزحف على عينيه، ظل كلمات قرأها من قبل ولم يستطع أن يفهمها: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل». عندها سقط الراهب العجوز، كما يقولون، مثلما تسقط الريح على شمعة واهنة.
1
1965
بكاء
أوه! معذرة. طرقت على الباب طرقتين، فلم يرد أحد، قلت لا شك أنه خرج مبكرا، ليتسلق الجبل أو يمشي في الغابة أو يتزحلق على الثلج، ولكن ها أنت ما تزال في الفراش، هل نسيت أن اليوم هو الأحد؟ أم يا ترى لم يحضر قاموسك ذو ذيل الحصان؟ تقول إنك لا تفهم؟ آه! هذا شيء محزن. لا بد أنك ستفهم يوما، لغتنا الصعبة، أليس كذلك؟ كثيرا ما سألت نفسي كيف يستطيع أمثالكم أن يتكلموها؟ أرجوك أن تفهمني؛ لست أشعر بالطبع بأي تعصب ضدكم، نحن جميعا بشر، وأنتم كذلك أيضا. هل تسمح لي بأن أقدم لك مجاملة؟ إن نطقك رائع، صحيح مائة في المائة، لولا شعرك الأكرت وبشرتك السمراء وعيناك السوداوان لقلت إنك واحد منا. معجزة، هذه معجزة، هل تسمح بالنهوض لحظة واحدة؟ لا لحظة واحدة فحسب، بمجرد أن أرتب السرير يمكن أن تعود للنوم. ماذا تقرأ؟ قصيدة لجوته؟ عظيم! عظيم! سمعت بالطبع أنه أعظم شعرائنا، كل إنسان هنا يذكر اسمه، يحتفظ بمؤلفاته في مكتبته، لكن صدقني: ما أقل الذين يقرءونه! وما أقل من يفهمونه! هؤلاء المنافقون! لو أنهم عرفوه حقا ما حدث ما حدث. ما علينا، لا تؤاخذني، هل أثرثر كثيرا؟ لا؟ هل أنت متأكد؟ ولكن لونك متغير قليلا. تقول إنها الإنفلونزا؟ هل أحضر لك قرص أسبرين؟ تقول أخذت خمسة؟ لا، اسمح لي، هذا كثير، كثير جدا. لو كنت مثلي تمارس اليوجا لما بلعت قرصا واحدا في حياتك. نعم اليوجا. هل تضحك؟ لك حق. وماذا تفعل إذن لو رأيتني كل يوم واقفا على رأسي وساقاي في السماء أمام البيانو؟ لا تصدق؟ ولكنني لا أستطيع أن أجرب هذا أمامك، ثم إن ساقي ليستا مما يحسن رؤيته. أشكرك. بعد هذه السن. الغرض. يمكنك أن تعود إلى الفراش، ولكن دعك الآن من جوته. شعر؟ مع هذا البرد؟ يظهر أنك عاطفي جدا. لو كنت مكانك لقرأت شيئا آخر. مثل ماذا؟ عندك الرحلات، شاب في سنك لا بد أن يسافر ويرى الدنيا، مرة في الجنوب ومرة في الشمال، أم هل تظن أنك ستعرف الدنيا وأنت جالس في حجرتك؟ أرجوك، لا تظن أنني أطردك. يمكنك أن تفعل ما تشاء. ثم إن الناس طباعها مختلفة، ولكل بلد عاداته. أنا أيضا كان ينبغي أن أكون اليوم في الجبل أو أتزحلق على البحيرة. تقول كيف؟ ألم ترها في الشتاء؟! لا لا، أنت مقصر جدا. صحيح أنك هنا من شهر واحد، ولكن لو كنت مكانك لتفرجت على كل شيء. يظهر أنك تحب البيت؛ ستكون زوجا ناجحا. نعم نعم، أنا لا أضحك أبدا، ستكون زوجا ناجحا. على فكرة، لم أسألك عن جو الحجرة. هل يعجبك؟ صحيح؟ منذ أن حضرت في أول الشهر وأنا لا أجد فرصة للكلام معك، ربما تجدني لهذا السبب أثرثر كثيرا. أرجوك أن تعذرني، لست دائما هكذا. أنت تضحك؟ يظهر أنك لا تصدق أبدا. وبخاصة السيدات. ها ها! لا بد أنك لاحظت أنني مشغولة جدا؛ من السابعة صباحا حتى التاسعة في المساء، أرجو ألا يكون صوت البيانو قد أزعجك، ماذا أفعل؟ أكل العيش كما يقولون، حذار أن تظن أن العزف السيء مني! إنهم الأطفال الصغار. نعم، من الخامسة إلى الخامسة والعشرين. مدرسة حقيقية، أنا فيها المعلمة والناظرة والمفتشة والتلميذة والفراشة أيضا. تقول إن العزف يعجبك كثيرا؟ هذا شيء يسعدني. يظهر أنك تحب البيانو. ألم أقل لك إنك عاطفي أكثر من اللازم؟ وماذا لاحظت أيضا؟ إنني أصحو بميعاد وأعمل بميعاد وأنام بميعاد؟ وماذا كنت تنتظر غير هذا؟ ألم تسمع عن الفيلسوف كانت؟ يقولون إن الناس كانوا يضبطون ساعاتهم عليه. دائما في الساعة الرابعة يخرج من بيته ليتمشى في الغابة. رجل عظيم بالطبع، وإن كنت لم أفهم منه حرفا. أقول لك الحقيقة بل لم أحاول. نظام مزعج، ولكنه مفيد في بعض الأحيان، على الأقل ينسي الإنسان عذابه. تستطيع أيضا أن تقول إنه نوع من التعذيب ينسى به الإنسان عذابا أكبر. معذرة، أنا لا أتفلسف ولا عمري ذقت طعم الفلسفة، إنما العرق دساس كما يقولون. على فكرة، نسيت أن أقول لك: جاء لك خطاب أمس. نعم أنا التي تسلمته من الموزع. هل تصرفت في طابع البريد؟ أرجوك أن تحافظ عليه دائما. تقول في درج المكتب؟ شيء بديع. أبو الهول نفسه. لا بد أنه شيء ساحر، الصحراء والصمت واللانهاية، خصوصا في ضوء القمر. هل كنت تذهب إلى هناك أيضا؟ ليس وحدك بالطبع. لا! يا للخسارة! تقول ربما قدر لي أن أزوره أنا أيضا؟ آه! فات الأوان، أنت لا تعرف أنني تجاوزت الستين. لا يبدو علي؟ الحمد لله على كل حال، أنا لا أطمع في أكثر من هذا. على فكرة، هل رأيت جارتك في الحجرة المقابلة. لا، اطمئن، إنها ليست هنا. أردت فقط أن أحذرك منها. نعم، تلك التي تسمي نفسها مدام شميت. ستعرفها من الإنجيل الذي تحمله دائما في يدها. تقول إنها تقية؟ يظهر أنك حسن النية. وماذا يفعل القسيس الشاب الذي يحضر إليها كل أحد؟ ألم تره اليوم؟ أقول لك كل أحد؟ وربما كل يوم. من يدري؟ ثم إنني مشغولة بدروسي وتلاميذي. أنا شخصيا لا أطيق رجال الدين. لا تتصور أنني أنكر وجود الله. بالعكس، إنني أتذكره على الأقل مرة كل أول شهر، عندما يخصمون مني ضرائب الكنيسة. لكن استغلال الدين لأشياء أخرى! أنت تفهم قصدي بالطبع. ثم ماذا يفعلان طول الليل؟ يلعبان الورق أو يقرآن الإنجيل؟ أنا لا أمانع في الزيارة كما قلت لك. يمكنك أنت أيضا أن تأتي بصديقتك. بالطبع لغاية الساعة العاشرة فقط. تقول ليس لك صاحبة؟ هذا شيء محزن؛ لا يمكنك بالطبع أن تعيش وحدك طول العمر، لا يمكنك أبدا. ألا يقول الإنجيل ليس حسنا أن يكون آدم وحده؟ لا بد أن هذا أيضا موجود في إنجيلكم. تقول ليس عندكم إنجيل؟ تسمونه القرآن؟ لا بد أن شيئا كهذا موجود فيه. وليس حسنا أن تكون حواء وحدها. ليس حسنا بالمرة. أقول لك هذا بمنتهى الإخلاص، ربما لأنك تخطئ في بعض الأحيان وتناديني بالمدام. لست مداما، أنا ما زلت آنسة. نعم في الستين وما زلت آنسة. أف! ها أنا أعود مرة أخرى إلى حكايتي القديمة. إن كان هذا لا يضايقك فسوف أرويها لك. تقول لا تضايقك؟ بالرغم من البرد والصداع ورغبتك في قراءة جوته؟
إذن فذنبك على جنبك. هل أستطيع أن أجلس هنا لحظة؟ الحجرة أصبحت نظيفة على كل حال. هل قلت لك ليس حسنا أن يكون آدم وحده؟ نعم نعم. وليس حسنا أن تكون حواء وحدها. أنا بالطبع لم أكن وحدي دائما. كان لي، مثل كل الناس، أهل وأصدقاء وحبيب أيضا إن شئت. هل قلت كان لي حبيب؟ أنا أبالغ بالطبع بعض الشيء. الحقيقة أنه هو الذي كان يحبني. حب من طرف واحد كما يقولون. بالطبع أنا أيضا لم أكن أكرهه. بالعكس كنت أشعر بالرضا عندما أراه. لكنه العناد أو الطموح أو الأنانية - سمها كما تشاء - هو الذي كان يمنعني من أن أحبه. ذلك الحب الحقيقي، الصريح، المتفاني. آه يا ربي! لماذا تذكرني بهذا كله؟ كان في مثل سنك تقريبا. هل أخطئ كثيرا إذا قلت حوالي الخامسة والعشرين. صامت ومتعب ومصفر الوجه دائما. تعارفنا في المعهد. معهد الموسيقى بالطبع. كنا معا في قسم البيانو. لم نكن وحدنا بطبيعة الحال. كان هناك طلبة آخرون. لا يقلون عن عشرين. وربما أكثر أو أقل. آه يا ربي! ما الذي يجعل الشبان ينسون شبابهم؟ ما الذي يغمض عيونهم عن متعه الحلوة، عن لحظاته السعيدة الفانية؟ ما الذي يجعلهم يديرون له ظهورهم ويتذكرون كل شيء إلا شبابهم؟ هل يعرفون وهم يفعلون هذا أنهم سيشيخون في يوم من الأيام؟ إن شعرهم سيبيض، وظهورهم ستنحني، وعيونهم سيتخلى عنها النور، وقلوبهم ستصبح كساعات الحائط القديمة التي لا تفعل شيئا سوى أن تردد رنين الزمن الأجوف؟ لا داعي للندم. أقول إنني تجاهلته وأعترف لك. بالطبع كنت أقابله، وأتناقش معه، بل وأحتد في النقاش إلى الحد الذي أتمنى معه أن أصفعه أو أبصق في وجهه أو أشد شعره. وماذا أفعل إذا كان يصر دائما على تمجيد بتهوفن فوق كل شيء؟ هل تصدق أنه كان يرفع هذا المجنون المشوه فوق باخ نفسه؟! وأنا التي كنت لا أقدس أحدا مثل باخ. صدقني يا سيدي. إنه في الموسيقى هو الألف والياء، المنبع والمصب، الأول والآخر. تستطيع أن تتأكد من هذا إذا ألقيت نظرة على حجرة البيانو. هناك سترى لوحة تقول كل هذا الكلام، موضوعة تحت صورته التي يطالعك منها وجهه الهادئ المكتنز، وعيناه الثابتتان، وجبهته الشامخة، كأنه هو بوذا الموسيقى في كل زمان ومكان، لكن هانز لم يكن يريد أن يفهم هذا. وعندما كنا نتقابل لم نكن نفعل شيئا سوى أن نتناقش أو نعزف على البيانو أو نتكلم عن مستقبل الموسيقى والإنسانية.
لماذا لا يسعد الإنسان بإنسان قريب منه؟ ما الذي يشل يده فلا تمتد إلى الثمرة التي تدعوه لأن يقطفها؟ أي شيء في الوجود يجعل الأقوياء أقوياء والضعاف ضعافا؟ أليس هؤلاء يتركون الفرصة تفلت من أيديهم بينما يتشبث بها أولئك؟ تقول القدر؟ وهل القدر إلا أن تفعل الشيء المناسب في الوقت المناسب؟ أن تلتقط اللحظة المواتية من نهر الزمن فتمسك بها وتعانقها وتقبلها قبل أن تذوب في الماء؟
Page inconnue