سنة الترك ودلالتها على الأحكام الشرعية
سنة الترك ودلالتها على الأحكام الشرعية
Maison d'édition
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
Numéro d'édition
الأولى
Année de publication
١٤٣١ هـ
Lieu d'édition
المملكة العربية السعودية
Genres
سُنَّةُ التَّرْك وَدِلالتها عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
تأليف
مُحَمَّد بن حُسَيْن الجيزاني
دَار ابْن الْجَوْزِيّ
Page inconnue
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
[المقدمة]
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد؛ فهذه دراسة أصولية تطبيقية لقاعدة شرعية عظيمة، وهي سُنَّة الترك، وهذا الترك نوع من أنواع سُنَّتِه المطهرة _عليه الصلاة والسلام.
والملاحظ أن عناية الأصوليين ببحث هذه المسألة كانت جد يسيرة.
وذلك أن معظم الأصوليين لم يتعرض أصلا لذكر السُّنة التركية، ومن تعرض إليها منهم فعلى سبيل الإشارة، وذلك عند الكلام على أفعاله ﷺ.
وقد نبه إلى ذلك الإمام بدر الدين الزركشي إذ قال في معرض بيانه أقسام السنة النبوية: القسم السابع: التَّرْكُ لم يتعرضوا لتركه ﵇ (١).
ومن هنا فقد عَزَمْتُ على الكتابة في هذه المسألة وجمع ما يتعلق بها من كلام أهل العلم في كتب أصول الفقه وغيرها.
_________
(١) البحر المحيط (٤/ ٢١٤).
1 / 5
ومن الدراسات السابقة التي وقفت عليها في هذه المسألة:
كلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (١).
كلام ابن القيم في إعلام الموقعين (٢).
كلام الشاطبي في الموافقات (٣).
كلام الشاطبي في الاعتصام (٤).
أفعال الرسول ﷺ للدكتور محمد العروسي عبد القادر (٥).
أفعال الرسول ﷺ للدكتور محمد سليمان الأشقر (٦).
وقد اقتضى المقام أن تكون خطة البحث في تمهيد وثلاثة فصول بيانها كالآتي.
التمهيد في التعريف بالسُّنَّة وأقسامها وحجيتها.
الفصل الأول: حقيقة السُّنَّة التركية.
وفي هذا الفصل خمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريف الترك وأحكامه.
المطلب الثاني: تعريف السُّنَّة التركية.
المطلب الثالث: أقسام السُّنَّة التركية.
_________
(١) انظر (٢/ ٥١٩ - ٥٩٧).
(٢) انظر (٢/ ٣٨٩ - ٣٩١).
(٣) انظر (٢/ ٤٠٩ - ٤١٤).
(٤) انظر (١/ ٣٦٠ - ٣٦٥).
(٥) انظر (٢٠٧ - ٢٢٧).
(٦) انظر (٤٥ - ٦٩).
1 / 6
المطلب الرابع: علاقة سُنَّة الترك بالسنة التقريرية.
المطلب الخامس: علاقة سُنَّة الترك بالمصالح المرسلة.
الفصل الثاني: حجية السُّنَّة التركية.
وفي هذا الفصل ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: دلالة السُّنَّة التركية.
المطلب الثاني: شروط الاحتجاج بالسُّنَّة التركية.
المطلب الثالث: الأدلة على حجية السُّنَّة التركية.
الفصل الثالث: أثر الاحتجاج بالسُّنَّة التركية.
وفي هذا الفصل أربعة فروع:
الفرع الأول: أثر سُنَّة الترك في تخصيص العموم.
الفرع الثاني: أثر سُنَّة الترك في معرفة مقاصد الشريعة.
الفرع الثالث: أثر سُنَّة الترك في إبطال البدع والرَّد على المبتدعة.
الفرع الرابع: أثر سُنَّة الترك في المسائل المعاصرة.
وقد ذيلت هذا البحث بخاتمة، تضمنت خُلاصة البحث، ثم بقائمة للمصادر والمراجع.
أسأل الله ﷾ أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
1 / 7
التمهيد
في التعريف بالسُّنَّة وأقسامها وحجيتها
وفيه ثلاثة مسائل:
المسألة الأولى: تعريف السُّنَّة لغة واصطلاحًا.
المسألة الثانية: أقسام السُّنَّة.
المسألة الثالثة: حجية السُّنَّة.
1 / 9
المسألة الأولى
تعريف السُّنَّة لغة واصطلاحًا
١ - السُّنَّة في اللغة (١):
السُّنَّة لغة: الطريقة والسيرة، حميدة كانت أو ذميمة؛ فكل من ابتدأ أمرًا عمل به قوم من بعده قيل هو سُنَّة.
ومن الأمثلة على ورود لفظ السُّنَّة بمعناه اللغوي قول الرسول ﷺ: «من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سَنَّ في الإسلام سُنُّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» (٢).
٢ - السُّنَّة في الاصطلاح (٣):
للسُّنَّة في اصطلاح أهل الشرع إطلاقات عدة:
فتطلق تارة على ما يقابل القرآن.
_________
(١) انظر: لسان العرب (١٣/ ٢٢٥) والمصباح المنير ص (٢٩٢)، والمعجم الوسيط ص (٤٥٦).
(٢) أخرجه مسلم ص١٣٩٣برقم (١٠١٧).
(٣) انظر شرح مختصر الروضة (٢/ ٦٠ - ٦٤) والموافقات (٤/ ٣ - ٧) وشرح الكوكب المنير (٢/ ١٥٩ - ١٦٠).
1 / 11
وهو اصطلاح الأصوليين، وهو أن السُّنَّة هي: ما صدر عن النبي ﷺ غير القرآن (١).
والسُّنَّة بهذا المعنى تشمل أنواعًا ثلاثة، وهي: قوله ﷺ وفعله وتقريره؛ وهذا الإطلاق هو المراد في هذا المقام؛ وتطلق السُّنَّة تارة على ما يقابل الفرض وغيره من الأحكام الخمسة؛ كفروض الوضوء والصلاة والصوم وسننها؛ وتطلق السُّنَّة أيضًا على ما يقابل البدعة ومن ذلك قول النبي ﷺ: «ما أحدث قوم بدعة إلا رُفِعَ مثلها من السُّنَّة فتمسك بِسُنَّة خير من إحداث بدعة» (٢).
وقوله ﷺ: «فإن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنُةَّ وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سُنَّة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» (٣).
ومعنى السُّنَّة في هذا الإطلاق: الطريقة المسلوكة في الدين؛ وهي ما عليه الرسول ﷺ وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وإن كان الغالب تخصيص
_________
(١) انظر الإحكام للآمدي (١/ ١٦٩) وقواعد الأصول ص (٣٨) والبحر المحيط (٤/ ٧٣٩) وشرح الكوكب المنير (٢/ ١٦٠).
(٢) أخرجه أحمد في مسنده (٤/ ١٠٥).
(٣) أخرجه أحمد في مسنده (٢/ ١٥٨).
1 / 12
اسم السُّنَّة بما يتعلق بالاعتقادات؛ لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم (١).
_________
(١) انظر جامع العلوم والحكم (٢/ ١٢٠).
1 / 13
المسألة الثانية
أقسام السُّنَّة
أولا: تنقسم السُّنَّة باعتبار ذاتها إلى: قولية، وفعلية، وتقريرية (١).
وهذا يشمل قوله ﷺ وفعله وتقريره وكتابته وإشارته وهَمَّه وترْكه (٢).
وهذه الأنواع قد يدخل بعضها في بعض؛ فيدخل في الفعل كل من الكتابة والإشارة والهم والترك (٣).
وقد زاد بعض الأصوليين (٤): سُنَّة الخلفاء الراشدين؛ لقوله ﷺ: «فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوًا عليها بالنَّواجِذ» (٥).
قال ابن رجب: "وفي أمره ﷺ باتباع سُنَّته وسُنَّة خلفائه الراشدين بعد أمره بالسمع والطاعة لولاة الأمر عمومًا دليل
_________
(١) انظر: شرح مختصر الروضة (٢/ ٦٢) ومختصر ابن اللحام ص (٧٤).
(٢) انظر مجموع الفتاوى (١/ ٢٨٢) وجامع العلوم والحكم (٢/ ١٢١).
(٣) انظر: شرح الكوكب المنير (٢/ ١٦٠ - ١٦٦).
(٤) انظر الموافقات (٤/ ٤ - ٧).
(٥) أخرجه أبو داود في سننه (٤/ ٢٠٠، ٢٠١) برقم (٤٦٠٧) والترمذي في سننه (٥/ ٤٤) برقم (٢٦٧٦) وقال حديث حسن صحيح.
1 / 14
على أن سُنَّة الخلفاء الراشدين مُتَّبَعَة، كاتباع سُنَّته" (١).
ثانيًا: تنقسم السُّنَّة باعتبار وصولها إلينا وعدد نقلتها ورواتها إلى متواتر وآحاد (٢).
_________
(١) جامع العلوم والحكم (٢/ ١٢١).
(٢) انظر: المستصفى، ص (١٥٥) والإحكام للآمدي (٢/ ١٣) وشرح مختصر الروضة (٢/ ٧١).
1 / 15
المسألة الثالثة
حُجِّيَّة السُّنَّة
أجمع المسلمون على وجوب طاعة النبي ﷺ ولزوم سُنَّته (١).
قال الإمام الشافعي: "لم أسمع أحدًا نسبه الناس أو نسب نفسه إلى علم - يخالف في أن فرض الله ﷿ اتباع أمر رسول الله ﷺ والتسليم لحكمه؛ بأن الله ﷿ لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سُنَّة رسوله ﷺ، وأن ما سواهما تبع لهما، وأن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول الله ﷺ واحد، لا يختلف في أن الفرض والواجب قبول الخبر عن رسول الله ﷺ، إلا فرقة سأصف قولها إن شاء الله تعالى" (٢).
وقال أيضًا: "ولا أعلم من الصحابة ولا من التابعين أحدًا أخبر عن رسول الله ﷺ إلا قبل خبره وانتهى إليه وأثبت
_________
(١) انظر: مجموع الفتاوى (١٩/ ٨٢ - ٩٢) وإعلام الموقعين (٢/ ٢٩٠ - ٢٩٣).
(٢) جماع العلم ص (١١، ١٢).
1 / 16
ذلك سُنَّة" (١).
وقال ﵀: "إذا وجدتم لرسول الله ﷺ سُنَّة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد" (٢).
وقال ابن تيمية: "وهذه السُّنَّة إذا ثبتت فإن المسلمين كلهم متفقون على وجوب اتباعها" (٣).
والأدلة على وجوب اتباع السُّنَّة كثيرة جدًا (٤):
فمن القرآن الكريم (٥):
١ - الأمر بطاعة الرسول ﷺ قال - تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: ٣٢].
٢ - ترتيب الوعيد على من يخالف أمر النبي ﷺ، قال - تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣].
٣ - نفي الخيار عن المؤمنين إذا صدر حكم عن رسول الله ﷺ، قال - تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى
_________
(١) مفتاح الجنة، ص (٣٤)
(٢) مفتاح الجنة ص (٧٧).
(٣) مجموع الفتاوى (١٩/ ٨٥، ٨٦).
(٤) انظر مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (٣/ ١٣٥٥ - ١٣٦١) ومعارج القبول (٢/ ٤١٦ - ٤٢٠) وللاستزادة يراجع كتاب حجية السنة للدكتور عبد الغني عبد الخالق ص (١٧٨) وما بعدها، وكتاب السنة حجيتها ومكانتها للدكتور محمد لقام السلفي ص (٢٩، ٣٠).
(٥) انظر الرسالة ص (٧٩، ٨٤) ومجموع الفتاوى (١٩/ ٨٣) وإعلام الموقعين (١/ ٤٩، ٥٠) (٢/ ٢٨٩، ٢٩٠).
1 / 17
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦].
٤ - الأمر بالرد إلى الرسول ﷺ عند النزاع، قال - تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩].
٥ - جعل الرد إلى الرسول ﷺ عند النزاع من موجبات الإيمان ولوازمه، قال - تعالى: ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ﴾ [النساء: ٥٩].
ومن السنة:
قوله ﷺ: «فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ» (١).
وقوله ﷺ: «دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (٢).
وقوله ﷺ: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه، لا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرِّموه» (٣).
_________
(١) أخرجه أبو داود والترمذي، وقد تقدم.
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه ص (٤٨٠) برقم (٧٢٨٨).
(٣) أخرجه أبو داود في سننه (٤/ ٢٠٠) برقم (٤٦٠٤) ونحوه عند الترمذي في سننه (٥/ ٣٧، ٣٨) برقم (٢٦٦٣، ٢٦٦٤) وقال: حسن صحيح، وابن ماجة في سننه (١/ ٦، ٧) برقم (١٢، ١٣).
1 / 18
وقوله ﷺ: «ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله» (١).
هذه بعض النصوص الدالة على حُجِّيَّة السُّنَّة وبذلك يعلم أن الاحتجاج بالسُّنَّة أصل ثابت من أصول هذا الدين وقاعدة ضرورية من قواعد.
_________
(١) أخرجه ابن ماجه في سننه (١/ ٦) برقم (١٢) والترمذي في سننه (٥/ ٣٨) برقم (٢٦٦٤) وقال: حسن غريب.
1 / 19
الفصل الأول
حقيقة السُّنَّة التَّرْكِيَّة
وفي هذا الفصل خمسة مطالب:
المطلب الأول: تعريف التَّرْك وأحكامه.
المطلب الثاني: تعريف السُّنَّة التَّرْكِيَّة.
المطلب الثالث: أقسام السُّنَّة التَّرْكِيَّة.
المطلب الرابع: علاقة سُنَّة التَّرْك بالسُّنَّة التقريرية.
المطلب الخامس: علاقة سُنَّة التَّرْك بالمصالح المُرْسَلة.
1 / 21
المطلب الأول
تعريف التَّرْكِ وأحكامه
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: تعريف التَّرْكِ (١):
التَّرْكُ لُغَةً: تَرْكُ الشيءَ تَرْكًا وتَرْكَانًا، طرحه وخلَّاه، ويُقال: تركتُ المنزل تركًا، رحلتُ عنه؛ وتركتُ الرجل: فارقته.
والتَّرْكُ: عدم فعل المقدور عليه.
وأما عدم ما لا قدرة عليه فلا يُسمَّى تَرْكًا، ولذلك لا يُقال: تَرَكَ فلانٌ خَلْقَ الأجسام.
وذلك أن التَّرْكُ فعل الضد لأنه مقدور، ولا بد أن يكون كلا الضدين مقدورَين حتى يكون ارتكاب أحدهما تَرْكًا للآخر، فإذا لم يكن أحدهما أو كلاهما مقدورًا لم يصح استعمال التَّرْكِ هناك، فلا يقال: تَرَكَ بقعوده الصعود إلى السماء، ولا تَرَكَ بحركته الاضطرارية حركته الاختيارية.
_________
(١) انظر: المواقف (٢/ ١٦٣) والمصباح المنير ص (٧٤) وحاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (٢/ ١٧٤) والمعجم الوسيط ص (٨٤).
1 / 23
ثم إن عُدِمَ فعل المقدور إنما يُسمَّى تَرْكًا إذا كان حاصلا بالقصد فلا يُقال تَرَكَ النائم الكتابة، ولذلك يتعلق بالتَّرْكِ الذم والمدح والثواب والعقاب، فلولا أنه اعتبر فيه القصد لم يكن كذلك قطعًا.
وذلك أن التَّرْكَ من أفعال القلوب؛ لأنه انصراف القلب عن الفعل وكَفُّ النَّفس عن ارتياده.
المسألة الثانية: أحكام التَّرْكِ:
ويمكن بيان ذلك في النقاط الآتية:
أولًا: أن التَّرْكَ داخل تحت التكليف (١).
التَّرْكُ معدود من الأفعال المُكلَّف بها؛ خلافًا لمن زعم أن التَّرك أمر عدمي لا وجود له، والعدم عبارة عن لا شيء.
والدليل على أن الترك فعل من القرآن قوله - تعالى: ﴿كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: ٧٩] فسمَّى الله عدم تناهيهم عن المنكر فعلا وذمهم على هذا الفعل، فقال - سبحانه: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾، ومن السُّنَّة قوله ﷺ: «المُسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» (٢) فَسُمِّيَ تَرْكُ الأذى إسلامًا وهو يدل على أن التُّرْك فعل.
_________
(١) انظر: مذكرة الشنقيطي ص (٣٨، ٣٩).
(٢) أخرجه البخاري ص (٨) برقم (١٠) ومسلم ص (٤٧) ص (٤١).
1 / 24
ثانيًا: متى يكون الترك مطلوبًا أو مباحًا في الشرع؟ (١)
١ - إذا وقع تَرْك ما أحله الله على وجه معتبر شرعًا وذلك إذا اقترن بهذا التَّرْك نية صحيحة، أو كان التَّرك وسيلة مفضية إلى العمل الصالح وعونًا عليه؛ فإن هذا التَّرك على هذا الوجه يدخل تحت معنى العبادة، فلا يكون بدعة حينئذ، وذلك كمن نوى بترك النَّوم ليلًا لإدراك صلاة الفجر، أو كان ترك النوم بالنسبة إليه سببًا للبر بوالديه أو أحدهما.
٢ - إذا وقع التَّرك لسبب معقول؛ كمن يترك الطعام لأنه يضره في جسمه، أو لأنه لا يجد ثمنه، أو ما أشبه ذلك من الدواعي الخاصة، ومنه تَرْك النبي ﷺ لأكل الضَّب لقوله فيه «إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أَعافه» (٢)، ولا يُسَمَّى مثل هذا تحريمًا لأن التحريم يستلزم القصد إليه، وهذا ليس كذلك فهذا التَّرْك في أصله من قبيل المباح.
٣ - ترك الأمور المشتبهات من باب الاحتياط؛ فإن هذا من باب الورع، وهو الوارد في قوله ﷺ: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» (٣)، وقوله ﷺ: «فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه
_________
(١) انظر: الحوادث والبدع ص (٤٣) والباعث ص (٥٧) والاعتصام (١/ ٤٢، ٤٥) (٢/ ١٠٧) والإبداع ص (٥١ - ٥٣).
(٢) أخرجه البخاري ص (١١٣٤) برقم (٥٣٩١) ومسلم ص (١٠٤١) برقم (١٩٤٦).
(٣) أخرجه الترمذي (٤/ ٦٦٨) برقم (٢٥١٨) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألباني انظر: صحيح الجامع (٢/ ٦٣٧) برقم (٣٣٧٨).
1 / 25
وعرضه» (١).
٤ - تَرْك بعض السُّنَّة سُدًا للذريعة؛ لئلا يُظن الوجوب وهذا خاص بمن كان من الناس في مظنة الاقتداء به، وهو منقول عن السلف؛ كَتَرْكِ بعض الصحابة ﵃ الأُضحية؛ خشية أن يظن الناس أنها واجبة؛ نُقِلَ ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عباس ﵄ وقال أبو مسعود البدري ﵁: «إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة» (٢).
والأصل في ذلك: تَرْك النبي ﷺ قتل المنافقين (٣)، وتَرْكه ﷺ هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم ﷺ (٤).
قال ابن القيم: " .. هذا إذا أمن المفتي غائلة الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها أمسك عنها، ترجيحًا لدفع أعلى المَفسدتين باحتمال أدناهما، وقد أمسك النبي ﷺ عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم لأجل حُدثان عهد قريش
_________
(١) أخرجه البخاري ص (١٧) برقم (٥٢) ومسلم واللفظ ص (٨٣٣) برقم (١٥٩٩).
(٢) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٩/ ٢٦٥) وصححه الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير (٤/ ١٤٥).
(٣) أخرجه البخاري ص (٧٣٥) برقم (٣٥١٨) ومسلم ص (١٣٥١) برقم (٢٥٨٤).
(٤) أخرجه البخاري ص (٧٠٤) برقم (٣٣٦٨).
1 / 26
بالإسلام، وأن ذلك رُبَّما نفَّرهم عنه بعد الدخول فيه".
وكذلك إن كان عقل السائل لا يحتمل الجواب عمَّا سأل عنه، وخاف المسئول أن يكون فِتْنَة له، أمسك عن جوابه (١).
ثالثًا: متى يصير التَّرْكُ بدعة (٢)؟
ترك ما أحلَّه الله - تعالى - يصير بدعة ضلالة في حالتين:
الحالة الأولى: أن يعتقد تحريم فعل ما أحلَّه الله.
والأصل في ذلك: التحريم الواقع من الكفار؛ كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام؛ كما ورد ذلك في قوله - تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [المائدة: ١٠٣].
ومن الأمثلة على ذلك:
١ - اعتقاد تحريم التمتع بالطيبات.
٢ - اعتقاد حُرْمة جميع ما يُصنع ويأتي من بلاد الكافرين، من أطعمة وألبسة وغيرها.
٣ - اعتقاد حُرْمة بعض المخترعات العصرية، كالوسائل الكهربائية.
والحالة الثانية: أن يقترن بِتَرْك فِعْل ما أحَلَّه الله قصد
_________
(١) إعلام الموقعين (٤/ ١٥٧، ١٥٨).
(٢) انظر الاعتصام (١/ ٤٢ - ٤٥) والإبداع ص (٥١ - ٥٣).
1 / 27