وانتقل كنجليك من حديث الكوارث العالمية وحرب الجان والسحرة، إلى آراء الناسكة النبية في العقائد والمذاهب والأديان، فقال: «إن اللادي هستر تحدثت إلي طويلا في مسائل الديانة فقالت لي إن المسيح سيأتي بعد، وحاولت أن تكشف عن سخف الأوربيين في آرائهم الدينية وعما لديها من أسرار العظمة الروحية.»
وهنا تطرقت إلى سيرة اللورد بيرون الشاعر الإنجليزي وإلى سيرة الكونت لامرتين الشاعر الفرنسي - وكلاهما من رواد الشرق كما سيأتي - فراحت تحاكي اللورد بيرون وهو يرطن بالرومية ويظن أنه قد فهمها الفهم الكافي لإصدار الأوامر بها إلى مخدومه اليوناني، وراحت تحاكي النبيل الفرنسي الشاعر وهو يبالغ في الأناقة والكياسة، ويحاول أن ينسى أسلوب أبناء قومه في كثرة الإشارات والإيماءات أثناء الحديث، فكان إلى ظرفاء الإنجليز أقرب منه إلى نبلاء الفرنسيين.
وتركها الأديب السائح وهو يخفي ابتسامته ويكتب عنها في حذر شديد؛ لأن أمه كانت من حاشية أسرتها الكبيرة في بلادها، ولم يشأ أن يقول إنها كانت مسحورة بالشرق، فلعله هو أيضا في زمرة المسحورين.
لامرتين
وأشهر من هذين بين مساحير الشرق في القرن التاسع عشر كما تقدم «ألفونس لامرتين»؛ مؤلف قصة روفائيل، التي ترجمها الأستاذ الزيات وترجمها قبله الأستاذ نجيب الحداد باسم «غصن البان في رياض الجنان»، على عادة الأدباء يومئذ في تسجيع العناوين.
كان لامرتين يهيم بمحاكاة بيرون في رحلاته ومغامراته، وقد رحل بيرون إلى بلاد اليونان واشترك في حرب استقلالها ومات بالحمى على أرضها، ولم يبق للشاعر الفرنسي دور يتصل بتراث اليونان، فليكن له إذن دور يتصل بتراث الأرض المقدسة، ومن هنا نجمت الفكرة في سياحته الشرقية، وأسفرت عن رحلة الشرق البليغة التي تحسب من آيات الوصف الشعري في كتب السياحات.
وأوشك لامرتين أن يقيم في الشرق ويقطع الصلة بينه وبين الغرب لولا أن تحولت الأحوال في وطنه، فآثر الرجعة إليه مزودا بسخرية اللادي ستانهوب!
ومنذ رحلته إلى لبنان سنة 1832 أصبح الكلام عن لبنان والاشتهار بالاطلاع على قضيته مما يروقه ويرضي غروره، فلما أثارت الدول مسألة الشرق الأدنى وتقسيم تركة الرجل المريض - أي الدولة العثمانية - شعر الفرنسيون بهزيمتهم في المضمار أمام المناورات الإنجليزية، وراحوا في برلمانهم ينحون على حكومتهم، وفي طليعتهم لامرتين الذي كان - مع شهرته بالشعر - من خطباء البرلمان المعدودين.
وقد حفظت له خطبة مشهورة في صيف سنة 1846، حمل فيها على الوزارة ولم يتورط فيها مع الساسة في استغلال تهمة التعصب الديني أو في اتخاذ جانب المسيحيين أو الدروز، بل رجع بالحوادث إلى دسائس الدول وقال إن الفريقين متحدون، وكانوا على وفاق ومودة في ظل الأمير بشير الشهابي الكبير، وأن هذا الأمير لم يخطئ في غير شيء واحد؛ وهو جنوحه إلى إبراهيم بن محمد علي، فغضبت عليه حكومة الباب العالي من جراء ذلك، وجاءت الدول بعد جلاء إبراهيم باشا عن سورية فأسقطت هيبة الأمير بشير.
وكان في تلك الخطبة معارضا لسياسة فرنسا في القطر المصري؛ لأنها صرفت همها إلى تأييد محمد علي، وكان من واجبها أن تؤثر بالعناية أناسا من عقيدتها استظلوا بحمايتها منذ أجيال متقادمة وأحسوا باهتمامها من أيام لويس القديس إلى أيام لويس الرابع عشر.
Page inconnue